طاقة واقتصاد

من اقتصاد السوق إلى مجتمع السوق.. تداعيات أخلاقية!
هل يستطيع الإنسان شراء كل شيء بالمال؟

  • shutterstock_2596568
  • shutterstock_42935725
  • shutterstock_112417718
  • shutterstock_117120865
  • shutterstock_126762251
  • shutterstock_132834992
  • shutterstock_160204880
  • What Money can;t Buy Sandel
  • What money can

علم الاقتصاد كجميع العلوم له حقائقه وقوانينه، إلا أنه تطور بسبب العولمة وتكنولوجيا الاتصال والتشابك الرقمي حتى تمخض عما يعرف اليوم «بالاقتصاد السلوكي». ومثلما أدى سلوك الأفراد والجماعات الاقتصادي إلى بروز علم «الاقتصاد السلوكي»، تحوَّلت «الأسواق في المجتمعات» إلى «مجتمعات في الأسواق». بمعنى أن الأسواق بآلياتها ونظرياتها وضغوطها قد تغيرت وانقلبت على نفسها وصارت مجتمعات تخدم الأسواق؛ تعيش داخلها وتتنافس فيها، بعدما فقدت زمام السيطرة عليها. فالسوق هو الحاكم والإنسان هو المحكوم. الباحث نسيم الصمادي يأخذنا في رحلة شائقة لتسليط الضوء على هذه الظاهرة.

بعدما تأكد علماء الاجتماع و الفلاسفة أن «الإنسان ليس كائناً عقلانياً» زاد الاهتمام بالاقتصاد السلوكي، الذي يفترض أن القرارات الاقتصادية تتأثر بعوامل نفسية لا عقلانية.

من هنا جاء «الاقتصاد السلوكي» ليكشف نزوات السلوك البشري والآثار التي تخلفها من أجل تعظيم الفائدة والأرباح، وذلك بتحليل وتقييم الآلية والكيفية التي نتخذ بها قراراتنا؛ تلك القرارات التي تتناقض مع النظريات التقليدية لعلوم الاقتصاد والاجتماع والنفس والمنطق.

سيكولوجية تعظيم المنفعة
يسعى الناس إلى تحسين مستواهم المعيشي من خلال تعظيم المنفعة – أي درجة الإشباع التي تُكتسب من اقتناء سلعة أو الاستفادة من خدمة. المنفعة هي هدف المستهلك الذي يسعى إلى بلوغ أعلى مستوى ممكن من السعادة الآن وعلى المدى البعيد. ولكن مع تحول «سوق المجتمع» إلى «مجتمع السوق» تبين أن هذه المنفعة تعني الإشباع المادي والمعنوي، وليس المنفعة بالمعنى القيمي، أو المصلحة المشتركة بالمعنى الأخلاقي. فقد افترضت النظرية الأخلاقية والحكمة العملية أن لكل إنسان قيمه العليا التي تختلف من فرد إلى آخر، ولكنها تبقى موجودة ومتأهبة لمقاومة مغريات الحياة المادية التي تحول بين الإنسان وبين سعيه نحو تحقيق هدفه السامي والنبيل بأن يعيش كريماً وسعيداً! فهل تحقق له هذا؟

الحوافز وسلوك الأفراد
البشر كائنات معقدة، لديهم القدرة على القيام بكل ما يلزم لتحسين مستواهم المعيشي وتعظيم منافعهم. أحياناً يستطيع علم الاقتصاد توقع سلوك الأفراد، ولكن في معظم الأحيان تكون هذه التوقعات صعبة، وهذا ما يجعلنا نهتم بالحوافز التي تعد من أهم العوامل المؤثرة في قراراتنا وسلوكياتنا.

تشير الحوافز إلى المكافآت التي يتوقعها الفرد نظير قيامه بعمل ما. أي هي العوائد التي يتم من خلالها استثارة الدوافع وتحريكها. وبهذا المعنى فإن الحافز هو المثير الذي يشبع الحاجة والرغبة المتولدة لدى الفرد من أدائه لعمله. ولذا فإن فعالية الحوافز تتوقف على مدى توافقها مع أهداف الفرد وقيمه وحاجاته ورغباته. وهكذا يقودنا التفكير في الحوافز إلى التفكير فيما يلي:

«المصلحة الشخصية»
ما الذي جناه العالم حين تحوَّل شعار «كلٌ حسب قدراته» إلى شعار «كلٌ حسب احتياجاته»؟ ولماذا نرتاح دائماً إلى طرح الأسئلة الخطأ ونبحث عن الإجابات السهلة لأسئلتنا الصعبة، وعن الحلول السهلة لمشكلاتنا المعقدة، فكانت النتيجة أن غاب العدل وطغت المصالح الشخصية على المصلحة العامة؟ ومَنْ الذي يراقب ويتأكد ويضمن أن تجتمع المصالح الشخصية كلها على غاية فضلى ومطلب نبيل لتلتقي في نهاية المطاف مع المصلحة العامة؟

أي نظام لا يعتمد على قواعد وقوانين وإجراءات تنظم عمله داخل السوق، تتغول فيه المصالح الشخصية وتلتهم المعاني والقيم الإيجابية للعمل والإبداع والإنتاجية. لذلك فإن النظم الفعالة تعتمد نهجاً يتحكم بالحوافز ويوظفها بالشكل الذي يقود إلى الأهداف المرجوة. أما النظم التي تتجاهل ضرورة توجيه الحوافز وترشيدها، فإنها تفترض الرشد المطلق للسلوك، ولهذا فهي لن تبلغ مُبتغاها.

«لماذا؟» أهم من «كيف؟» و«ماذا؟»
هناك ثلاث دوائر شعورية تؤطر حياتنا. دائرة «ماذا» الخارجية، ودائرة «كيف» الفضية الوسطية، ودائرة «لماذا» الداخلية. إذا عملت من أجل المال فقط، أو حققت نجاحاً مادياً فقط، فلن يساعدك إلا من يبتغون أموالك. وإذا عملت من أجل المنافسة والمظاهر البراقة فقط، فسوف تفقد حماسك ويتبلد إحساسك وتتخلى عن شغفك وحلمك وعلمك. يجب أن يكون للعمل معنى آخر يتجاوز قيمة مخرجاته المادية ومكاسبه المالية. فلأن المجتمعات صارت تخدم الأسواق وليس العكس، فإنها تنسى المعاني والقيم، وتسقط ضحية للمنفعة الشخصية والحوافر المادية الأحادية. والسبب في هذا هو طرح السؤال الخطأ: ماذا نريد؟ وكيف نحقق ما نريد؟ وماذا نعمل؟ وكيف نعمل لنكسب؟ وحيث لم تهتم مجتمعات السوق بالإجابة عن سؤال: لماذا نعمل؟ صار العمل بلا معنى، وانحصر في دوائر المنافسة والإنتاج والكسب السريع والتوسع الأخطبوطي للأسواق، وما ترتب عليه من كوارث اقتصادية وبطالة عمالية ومشكلات نفسية واجتماعية خطيرة!

قيمة المال وقيمة القيم!
منذ أن انتقلت البشرية من عصر المقايضة ومبادلة السلع، وعلى مدى قرون عاشها الإنسان في ظل أسواق الاقتصاد وخدمة المجتمع، كان السؤال المطروح دائماً: ما الذي يمكننا شراؤه بالمال؟ ومع التحول إلى اقتصاد ومجتمع السوق، انقلب السؤال إلى: ما الذي لا يمكننا شراؤه بالمال؟ فكل القيم المعنوية والرتب الاجتماعية والدرجات الأكاديمية والمتع الشخصية؛ الذهنية والحسية باتت خاضعة لقوانين العرض والطلب، ومعروضة للبيع ومطلوبة للشراء مثل المنتجات المادية والسلع الصناعية والخدمات الضرورية.

ما الذي لا يمكن شراؤه بالمال؟
قليلة جداً هي الأشياء التي لا يمكن شراؤها بالمال الآن. حتى الأشياء التي لا يجوز بيعها صارت تشترى. لقد انتشرت عبر شبكات التواصل الاجتماعي مفارقة إنسانية طريفة تقول: «بالمال يمكنك شراء المنزل وليس السكن، السرير وليس النوم، المركز وليس الاحترام، الشهادة وليس العلم، الكتاب وليس الفهم، الطعام وليس الشهية، الدواء وليس الشفاء، الزواج وليس الحب»، والحقيقة أن كل شيء صار قابلاً للبيع والشراء والمقايضة، وهذه ضروب من الأمثلة:

• 
شراء العدالة: في أمريكا يمكنك شراء حق التصعيد من زنزانة السجن إلى غرفة فندقية فاخرة مقابل 90 دولاراً في اليوم.

• 
شراء المواقف: في «واشنطن» يمكنك شراء أولوية الدخول إلى جلسات استماع الكونجرس بأن تستأجر عاطلاً عن العمل يحفظ لك الدور منذ الفجر وحتى الظهر في جو ثلجي مقابل 15 دولاراً للساعة.

• 
شراء التربية: في إحدى المدن الأمريكية، دفعت إدارة التعليم دولارين لطلاب المدارس في الأحياء الفقيرة مقابل كل كتاب يقرؤونه. صحيح أن التلاميذ قرؤوا كتباً أكثر إلا أنهم بدأوا يقرؤون كتبا أقصر، ثم توقفوا عن القراءة عندما توقف الحافز المادي.

• 
شراء التضحية: يُعد عدد القوات التي جندتها إحدى شركات الأمن والحماية التي حاربت في بعض الدول، أكبر من عدد أفراد القوات المسلحة النظامية التي حاربت في نفس المعارك.

• 
شراء الأصوات: في الانتخابات النيابية في إحدى الدول النامية فاز بمقاعد البرلمان رجال الأعمال المقتدرون والذين دفعوا أكثر من 100 دولار ثمناً للصوت الواحد.

• 
شراء الفن: في فِلم «تنحَّ بعيداً» لـ «توم هانكس» دفعت شركتان أمريكيتان ملايين الدولارات مقابل استخدام اسميهما وشعاريهما في حبكة الفِلم الدرامية.

ثمن الأخلاق بأسعار السوق!
هل صار تبادل القيم الأخلاقية المطلقة سلعا مادية وخدمات تجارية تحمل بطاقات سعرية وتعرض على الرفوق وتوسم بـ «الباركود» كغيرها من المنتجات والخدمات؟ المشكلة هنا اقتصادية واجتماعية ونفسية! فعندما تقتني جهاز كمبيوتر، أو شاشة تلفزيونية ضخمة، أو تحمل أفخر قلم حبر في العالم، أو تمتلك طيارة خاصة، فإن قيمة هذه المنتجات لا تتغير، سواء اشتريتها بأموالك، أو قدمت لك كهدية. لأن قيمتها وغايتها واستخداماتها لا تتأثر أبداً بمصدرها أو ثمنها.

ولكن عندما تدرس لا لكي تنجح وتصبح أكثر علماً ومعرفة وأنضج فكراً، وإنما نظير المكافأة المالية، فإن طبيعة النشاط تتغير، وجوهر الفعل يتلوث. للدراسة والبحث معنى ضمني يستمد قيمته من ذاته لا من صفاته. في الآونة الأخيرة مثلاً، انتشرت ظاهرة بيع الشهادات والاعتمادات وبدأ المئات من المدربين والاستشاريين وخبراء الإدارة يجاهرون بحصولهم على درجات الدكتوراة، دون التحاق ببرامج أكاديمية، أو مناقشة ونشر أبحاث علمية. هذه الشهادات تصك وتختم لكل من هب ودب مقابل مبالغ تافهة تتراوح بين 500 و 3000 دولار، تبعاً لظروف الدكتور المزيف، وقدراته التفاوضية ومدى استعجاله في الحصول على الدرجة. الخطر الداهم الذي يهددنا بسبب هذا التزوير المثير هو أن المجتمع يبدأ في التعامل معهم وكأنهم أكاديميون وخبراء فعليون، فيشتري مخرجاتهم ومؤلفاتهم وكأنهم حقيقيون لا مزيفون. ولا نحتاج لذكاء ودهاء كي ندرك أن عملتهم الرديئة والدخيلة ستطرد العملة الأصيلة من السوق. وهنا تتجلى بعض أبعاد الأزمة الحضارية التي تعاني منها مجتمعات السوق.

لماذا تبيض الدجاجة؟
اعترف الفلاسفة والمفكرون والبيولوجيون والمزارعون بعجزهم عن حل معضلة الدجاجة والبيضة وأيهما يأتي أولاً. وفي تقديري أن السؤال الأهم هنا هو: «لماذا يبيض الدجاج؟»

من المؤكد أن المال ليس هو السبب! فالدجاج يبيض ولا يبيع! وليس السبب قطعاً هو توفير أطباق «الأوملت» صباحاً والكبسة في المساء، ولا صناعة الكيك والمايونير. وليس «سلق البيض» وتلوينه في الأعياد كذلك. فنحن الذين نسلق البيض ونقوم بالأعمال وليس الدجاج.

الدجاج يحمل البيض ثم يبيض في مواعيد ثابتة ومحسوبة بقدرة إلهية. كل دجاجة طبيعية تحمل البيضة الناضجة لنفس الفترة الزمنية ولا تبيضها حتى يكتمل قوامها، وتصبح بيضة طبيعية مغطاة بطبقة كلسية قوية تحمي ما في داخلها وترسله إلى العالم ناضجاً وطازجاً وشهياً وطرياً! أما بنو البشر، فيحاولون سلق كل ما يفعلون، من البيضات إلى الكتب والموسوعات!

لا تبيض الدجاجة إلا بعدما تكبر بيضتها فلا تعود قادرة على حملها! فهي لا تبيض من أجل الديك، ولا من أجل الفلاح، وإنما لكي ترتاح. إذ لا بد أن تضع كل ذات حمل حملها. ألا تلاحظون أن صوت الدجاج الخفيض لا يعلو إلا بعد أن يبيض!؟ فالدجاجة تنقنق (نقنقة)، وبعد أن تبيض يعلو صوتها العريض ويحدث ضجة فجة ومزعجة: (كاك ..كاك .. كاك).

إذا كانت الدجاجة تبيض لأنها مضطرة، وليس لكي تنقنق أو تقول «كاك .. كاك»، فلماذا ينظم الشعراء قصائدهم، ويبرهن العلماء نظرياتهم، ويتجادل الفلاسفة حول طروحاتهم، وينشر الكتَّاب مؤلفاتهم!؟ مقارنة بالدجاج، فإن المال ليس هو السبب! كما أن الضجة الإعلامية ومقتضيات العلاقات العامة و(الكاك .. كاك) ليست سبباً كافياً.

لا بد أن هناك أسباباً ذاتية وفكرية وحضارية ونفسية تجعلنا نبحث ونقرأ ونترجم ونؤلف وننشر. حتى بعد أن تصيبنا أعراض وأمراض الشهرة ونصبح من أصحاب الملايين، نواصل البحث والنشر والتأليف، وكلما انتهينا من قصيدة، أو وقعنا على كتاب، نقف على المنصات وأمام الكاميرات، ونصيح: «كاك .. كاك».

نحن نقرأ ونكتب ونعمل من أجل أنفسنا أولاً، قبل أن نكتب ونعمل للأجيال القادمة. نكتب لكي نرتاح ونزرع ونبذر ونرعى ونحصد كالفلاح. نكتب لكي تكتمل إنسانيتنا ونلعب في الحياة دورنا. فالكاتب مشغول دائماً بنفسه، وأحاسيسه وبما في داخله. هو يكتب لكي يتنفس، وليس من أن أجل أن يركب سيارة مرسيدس، ويظهر على الفضائيات؛ فكل الكتب الحضارية العظيمة ظهرت قبل الفضائيات.

يحدد جورج أورويل الكاتب الشهير وصاحب كتابي (مزرعة الحيوان) و(1984) أسباب الكتابة ويذكر منها: المتعة، وملامسة داخل المؤلف لعالمه الخارجي، والإحساس بإيقاع الكلمات، ونقل الخبرات التراكمية والذاتية إلى الآخرين! فالإنسان يكتب لأنه لا بد أن يبيض؛ أي لأن لديه ما يقوله. فلماذا نؤلف للآخرين إذن؟ ولماذا نقرأ من أجل المال لا من أجل القيمة الداخلية الكامنة في القراءة؟ عندما يسطو أحدهم على أفكار الآخرين ويعيد نشرها في كتبه، بل وعندما يضع أحدهم اسمه على كتاب لم يؤلفه، ولم يقرأه؛ فهو يشبه من ينقل بيضه من (مبيض) دجاجة إلى أخرى، لكي تنقنق وتبيض دون أن تصاب بالطلق وأعراض الوضع، ثم تصيح (كاك .. كاك) بصوت ارتدادي وارتجاعي مزور، له صدى ومدى، وليس له معنى أو مبنى، فيه أنفاس وليس فيه إحساس. فهل من حقنا عندما نضع بيض المؤلفين، على موائد المستهلكين وأن نرفع صوتنا ونزهو بكبريائنا ونصيح: «كاك .. كاك». وما هو موقف المستهلك أو القارىء المسكين الذي يأكل حتى التخمة، فلا يعرف أن البيض فاسد أو منتهي الصلاحية!؟

مسألة البيضة والدجاجة وأيهما تأتي أولا ليست المعضلة! ليس مهماً ما إذا كانت البيضة من الدجاجة أو العكس! المهم هو لماذا يبيض الدجاج ولماذا نكتب ولماذا نعمل ولماذا نفكر ونبحث ونبدع ونبتكر وننتج ونوزع ونبيع ونشتري؟ أليس لأننا جزء من هذا العالم وعلينا أن نعطي ونلعب دورنا الطبيعي في الحياة؟ أم نكون مثل ديوك الورق المصابة بالخواء ودجاج البلاستيك المحشو بالهواء؟

ينطبق هذا أيضاً على المهندس والطبيب والطيار والجندي والإطفائي والطباخ والسائق وحارس الأمن وعامل خدمات النظافة الذي يضيف قيمته ويضع بصمته على شوارع هذا العالم، لأنه دائما يأتيها متسخة ويتركها نظيفة!

الحكمة العملية
بسبب آليات مجتمعات السوق المعاصرة لم نعد نثق بالمؤسسات التي تدير حياتنا وتسهر على خدماتنا. لم نعد نثق بالمؤسسات والمجتمعات الفاشلة التي تخيب آمالنا كل يوم. وهناك أمثلة كثيرة على خيبات الأمل وذاك الفشل: فالمدارس لا تخدم أبناءنا كما نتوقع، والأطباء مشغولون لا يمنحوننا العناية اللازمة، والمصارف تسيء إدارة أموالنا وأصولنا، ووكلاء الاستثمار يفشلون في تقدير المخاطر التي نتعرض لها، والنظام القانوني الذي ينظم علاقاتنا، يهتم بالإجراءات أكثر من العدالة. ولهذا تتم ترقية المجرم من زنزانة إلى فندق 5 نجوم فقط لأنه يستطيع أن يدفع. فمن الواضح أن نتائج الأداء الإنساني لم تعد ترضي لا منتجيها ولا مروجيها ولا مقدميها ولا متلقيها.

فهل من حل لهذه المعضلة؟
بشكل عام، نحن نلجأ إلى أحد الحلين التاليين، أو إلى الحلين معاً:
• 
وضع قوانين تُملي على الناس ماذا يفعلون، وتراقب العمل للتأكد من أنها تنفذ بحذافيرها.
• 
تقديم حوافز وجوائز ورواتب ومراتب تشجيع الناس على إتقان أعمالهم وتكافئهم عندما ينفذون وينجزون.

الحل الأول يعني أنه حتى لو عمل كل الناس ما يريدون بشكل صحيح، فهم يبقون بحاجة لمن يقول لهم ماذا عليهم أن يفعلوا. أما الحل الثاني، فيعني أن الناس لا يعملون إلا بمقابل، وأنهم يَعُدون الجوائز أكبر الحوافز. وعندما نضع الحلين معاً، فإننا نحصل على ما نسميه عادة: سياسة «العصا والجزرة»! ونعود ثانية إلى مجتمع السوق!

لا شك أن اللوائح والحوافز أمران مهمّان لتحسين أداء المؤسسات الخدمية التي تسهر على راحة المجتمع. لكن عندما نحاول رفع مستوى جودة الرعاية الطبية، وتقليل تكاليف العلاج في الوقت نفسه، فمن الجنون أن نكافئ الأطباء لأنهم أجروا مزيداً من العمليات الجراحية. وعندما نقرر أن نمنع المصارف من اقتراف أخطاء جسيمة والمخاطرة بأموال المودعين، فمن الجنون أن نعطي انطباعاً بأن الحكومة ستهب للمساعدة والتغطية إذا ارتكبت هذه المصارف كوارث مالية، مهما كانت الأسباب، كما حدث في أمريكا بعد الانهيار الاقتصادي الأخير.

القوانين والحوافز لا تكفي؛ فهذان الحلان ينقصهما شيء أساسي، وهو ما نتحدث عنه هنا. وهو ما يسميه أرسطو: «الحكمة العملية». بدون هذه الحكمة، فإن اللوائح (مهما كانت مفصلة ومدروسة) والحوافز (مهما بدا أنها ذكية)، لن تكفي لتأطير حلول جذرية لمشكلاتنا اليومية.

ما الحكمة العملية؟
كنا نظن أن «الحكمة» تناقض «الفكر العملي»؛ لأنها مفهوم مجرد أو (مثالي) يصعب تطبيقه. وكنا نعتقد أن الحكمة حكر على الفلاسفة والمفكرين. كان «أفلاطون» يرى أن الحكمة هي تجريد نظري وهبة يمنحها الله لبعض بني البشر. إلا أن تلميذه «أرسطو» رأى أن الحياة تضعنا أمام مجموعة من الخيارات (مثلاً: متى أكون نزيها؟ وكيف أكون لطيفاً؟ ولماذا أضحي من أجل وطني؟ وماذا وممن أشتري؟ ولماذا يجب أن أدرس وأتعلم حقاً وأعمل بجد لكي أكسب المال؟ ولماذا أفضل أن أشتري طعاماً بدلا من أن أغش أو أسرق؟ فاختيار القرار الصحيح للسبب الصحيح يحتاج إلى حكمة.

الحكمة التي تجيب عن هذه الأسئلة وتجعل المرء يفعل الصواب هي تفكير وتدبير عملي، لا تصور نظري. هذه الحكمة تنطلق من قدرتنا على تقييم الوضع ورؤية الواقع؛ ثم العمل على تحقيق الصواب في ظل هذه الأوضاع والظروف حسب مشاعرنا ورغباتنا. أوضح «أرسطو» أفكاره عن «الحكمة العملية» في كتابه «علم الأخلاق»؛ فأكد أن الأخلاق ليست استحداثا لقواعد ثم اتباعها وتطبيقها، بل هي إنجاز عملي واجتماعي إيجابي بصرف النظر عن موقعك – أي سواء كنت صديقاً أو طبيباً أو جندياً أو مزارعاً أو عاملاً أو وزيراً. هذا الإنجاز العملي يتضمن تصوُّر الأسلوب الصحيح، للقيام بالعمل الصحيح، في ظل ظروف ومعطيات محددة، مع شخص محدد، وفي وقت معين.

الحكمة و السعادة
تفعيل الحكمة العملية يتم بحمايتها من القوانين والقواعد والنظم والحوافز وآليات السوق التي تهددها دائماً. يجب توفير الظروف المواتية لتطبيق الحكمة العملية في حياتنا، خصوصاً تلك التي تتأثر بضغوط الوقت والمال والتشريعات، مثل: المدارس والمستشفيات والقضاء والمصارف والمؤسسات الثقافية والأكاديمية والمالية والأمنية أيضاً.

أياً كان دورك أو موقعك في المجتمع الذي تعيش فيه (سواء أكان مجتمعاً محلياً أم عالمياً)، فما تمارسه من أعمال لا يكون فقط من أجل مصلحتك الخاصة، وإنما من أجل خدمة الآخرين أيضا، ولن ننجح في تحقيق هذا بدون الحكمة العملية. الحكمة العملية تستحق أن نضحي من أجلها، وعلينا عدم الاستسلام للوائح والحوافز التي تفصلنا عنها وتهدد بقاءها، الحكمة ليست موهبة خاصة مُنحت لحفنة من الأشخاص، بل هي وعي عام وإحساس مطلق متاح للجميع ويحتاجها الجميع. وقد كان «أرسطو» محقاً عندما قال: «كي تحصل على السعادة، اطلب الحكمة العملية، فعندما نعرف كيف نفعل كل شيء بشكل صحيح، نصبح سعداء، فنعمل الصواب في حق أنفسنا وفي حق الآخرين».

أضف تعليق

التعليقات