حياتنا اليوم

هل عادت الأم إلى بيتها؟

mom1خلال النصف الثاني من القرن العشرين، راجت في الغرب مفاهيم لا تقتصر على تحفيز المرأة على العمل، بل تعدَّت ذلك إلى تصوير عمل المرأة ربَّة بيت كوظيفة أقل شأناً من العمل المدفوع خارج المنزل. ونتيجة لذلك ازدادت نسبة النساء العاملات خارج منازلهن مهما كانت ظروفهن العائلية. غير أن ما تكشفت عنه الدراسات لنتائج هذه التحولات الاجتماعية، بدأ بقلب هذا المسار إلى الاتجاه المعاكس، وتحديداً في صفوف أمهات الأطفال.

في عام 1967م كانت نسبة النساء في الولايات المتحدة الأمريكية المصنّفات كربّات بيوت %49 ومع أواخر القرن انخفضت هذه النسبة إلى %23. وقد اعتقد كثيرون بأنَّ هذه النسبة ستستمر في الانخفاض مع سعي النساء للدخول في مجال العمل. ولكن دراسة أجراها مركز «بيو» للأبحاث في 2014م، وهو المركز المتخصص بتقديم المعلومات حول القضايا الاجتماعية واتجاهات الرأي العام والإحصاءات الديموغرافية في أمريكا، أظهرت بأن نسبة النساء من ربّات البيوت أخذت تزداد بانتظام على مدى الخمس عشرة سنة الفائتة. وقد وجد الباحثون بأن %29 من أمهات الأطفال ما دون سن الثامنة عشرة بقين في المنزل من دون أي عمل خارجي عام 2012م، بالمقارنة مع أدنى نسبة وصلت إلى %23 في 1999م.

عنصر الاختيار
تقول ديفرا كون، وهي إحدى أهم الباحثات في مركز بيو إنَّ لهذه الأرقام «تأثيراً كبيراً على الحياة اليومية للأطفال، كما تُظهر ابتعاداً كبيراً عن النمط الذي رأيناه سابقاً». لا شك في أن هناك عوامل اقتصادية وراء هذه التحوّلات، فعندما كانت نسبة النساء، ربات البيوت، في أواخر تسعينيات القرن الماضي في أدنى مستوى لها، كان الاقتصاد الأمريكي يولّد فرص عمل بسرعة كبيرة وكان من السهل لأي طالب للعمل الحصول عليه إذا ما أراد ذلك. أمّا الآن فيقول عديد من النساء إنهن لم يتمكنَّ من الحصول على فرصة عمل، على الرغم من امتلاكهن المؤهلات المناسبة. غير أن هناك أيضاً عنصر الاختيار، حيث أكدت الأرقام أنَّ نسبة كبيرة منهنّ اخترن البقاء في المنزل والتفرّغ لتربية أطفالهن. وهنا يكمن التغيير. إذ بعد عقود من ضغوط الحركات النسوية التي كانت تحث النساء على الخروج إلى العمل مهما كانت ظروفهن الاجتماعية، والتي ساهمت بإيجاد ثقافة اجتماعية تنظر نظرة دونية إلى ربّات البيوت، وبعد رواج كتب مثل كتاب «سحر الأنوثة» لصاحبته بيتي فريدان، الذي أعيد إصداره مرات عديدة كان آخرها في 2013م، والذي دعا النساء إلى الانتفاض على الأفكار والمؤسسات التي كانت تبقيهن في المنزل والانطلاق «لتحقيق الذات»، صار مزيد من النساء يخترن التفرغ لتربية أطفالهن.

الرضا عن الذات

الأطفال الذين يلقون اهتماماً كافياً من أمهاتهم في سنواتهم الأولى يستطيعون تحقيق نتائج أفضل في جميع الاختبارات المتعلِّقة بالنمو..

تدّعي الحركات النسوية بأنّ النساء ربّات البيوت اللواتي يبقين في المنزل للاهتمام بتربية الأطفال، يشعرن بالعزلة بدرجة أكبر. ولذلك فهنّ أكثر عرضة للاكتئاب. ولكنّ البروفيسور براد ويلكوكس، رئيس «المشروع الوطني للزواج»، يقول في معرض تحليله لتقرير بيو، إنَّ «النساء المتزوجات اللواتي استطعن تلبية جميع حاجات عائلاتهن يشعرن بقدر أكبر من السعادة». ويضيف بأن الإحصاءات تشير إلى أن الأمهات يشعرن بدرجة أكبر من الرضا عن النفس عندما تميل اهتماماتهن اليومية إلى العائلة. وقد أكدت على هذا الأمر دراسة أخرى أجراها مكتب الإحصاءات الوطنية في بريطانيا حول مستوى السعادة لدى الأشخاص غير الفاعلين من الناحية الاقتصادية، وهي الفئة التي تقع فيها النساء ربّات البيوت، وأكدّت أنّ لدى ربّات البيوت مستوى أعلى من السعادة لأنهنّ يشعرن بقيمة حياتهن، وقد أعطين قيمة لحياتهن تتراوح ما بين 8 إلى 10 بالمقارنة مع 7 إلى 8 للقيمة التي أعطتها النساء العاملات.

ليس هذا فحسب. فقد أظهر مسح أجراه قسم الموارد البشرية في وكالة «أديكو» للتوظيف أنّ %48 من النساء العاملات اللواتي شملهنّ البحث تمنين لو كان لديهنّ مزيد من الوقت لتمضيته مع أولادهن. وعبّرن عن شعور بالذنب لأنهنّ لا يقمن بواجباتهن تجاه أطفالهن على أكمل وجه. ولهذا السبب أصبح هناك ميل عند النساء العاملات أمهات الأطفال ما دون الثامنة عشرة للعمل بدوام جزئي. وأخذت صناعات كبيرة، تعتمد على الموارد البشرية، تقدّم كثيراً من الوظائف بدوام جزئي وبأوقات مرنة. وقد وصلت نسبة العاملات خلال أوقات غير ثابتة في البعض منها إلى نسبة تخطت العشرة بالمئة.

ازدياد الوعي
وقد يعود سبب اختيار النساء البقاء إلى جانب أطفالهن إلى الوعي الناتج عن أهمية الاهتمام بالأطفال بشكل دائم ومتواصل، لا سيما في سنوات الأطفال الأولى. وقد أكّد العلماء أنّه في السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل يتضاعف حجم دماغه. حيث يكون أي محفز خارجي كالانفجار في قدرات الطفل الدماغية. ويتأثر ذلك بشكل كبير بكمية الحب والحنان والأمان التي يُحاط بها الطفل.

كما تحدّث عالم النفس جون بولبي، من خلال تجربته الطويلة مع الأطفال، عن نظرية التعلق، وهي التي تعبّر عن حاجة الأطفال لاختبار علاقة دافئة ومستمرة مع والدتهم من أجل النمو الصحيح. ولا يشترط بولبي وجود الأم البيولوجية فقط، وإنما أي شخص آخر يمكنه إمداد الطفل بالعناية الكافية. وما يشّدد عليه هو عملية الاستمرارية وهي ما تستطيع تقديمه الأم ربة المنزل دون انقطاع، ودون حاجتها للجوء إلى مساعدة أشخاص آخرين. وقد أظهرت الدراسات أنَّ الأطفال الذين يلقون اهتماماً كافياً من أمهاتهم في سنواتهم الأولى يستطيعون تحقيق نتائج أفضل في جميع الاختبارات المتعلقة بالنمو.

صحّة الأطفال النفسيّة والجسديّة
mom2من جهة أخرى، تحدّث البروفيسور السير دنيس غراي، الرئيس الأسبق لـ «الكلية الملكية للأطباء العامِّين»، في بريطانيا عن المشكلات الاجتماعية المتزايدة التي تحصل وعلى رأسها الاكتئاب والتي تعود بمعظمها، وإلى حدّ كبير، إلى القلق وقلة العناية في سنوات الأطفال الأولى. وقد نشرت «مجلة علم الأوبئة والصحة المجتمعية» بحثاً أكد أن هناك إمكانية أكبر لأطفال الأمهات ربّات المنازل لأن يشاركوا بنجاح في النشاطات الرياضية المنظمة أكثر من أطفال النساء العاملات. وقد يعود السبب في ذلك إلى أنّه لدى أمهات الفريق الأول وقت أكبر لاصطحاب أطفالهن للتمارين الرياضية الأسبوعية. إضافة إلى أنّ أطفال النساء ربّات البيوت هم أقل عرضة للأمراض والأوبئة بسبب العناية التي يحصلون عليها. وربما لأنّ أمهاتهم يستطعن توفير الوقت الكافي لتحضير الوجبات الصحية دون الاعتماد على الوجبات السريعة.

أهمية الرضاعة

رعاية المنزل −من قِبل ربة البيت− تتطلَّب أكبر مجهود فكري وأعظم خدمة مستدامة، وتستدعي القدرة غير المحدودة على تحمُّل الأعباء إلى درجة تصل إلى العبقرية

ومما زاد من مستوى الوعي بأهمية الرعاية الملائمة للأطفال هي الحملات المكثفة التي أخذت تنظِّم مؤخراً لتشدّد على أهمية الرضاعة الطبيعية بالنسبة للأم والطفل على حدّ سواء. فهناك عديد من الأبحاث التي أكدت على أنّ الرضاعة الطبيعية تحمي الأم وطفلها من أمراض مختلفة وتزيد المناعة لدى الطفل وتولِّد رابطاً عاطفياً بينهما يبقى أثره على مدى الحياة. وتقول دراسة نشرت في مجلة «الجمعية الطبية الأمريكية لطب الأطفال» بوجود علاقة سببية بين الرضاعة في الطفولة والاستعداد لتعلم اللغة في عمر السنوات الثلاث. كما أنّ لها علاقة وثيقة بمستوى الذكاء اللفظي وغير اللفظي في عمر السنوات السبع. وتدعم هذه الدراسة أهمية الرضاعة دون سواها واستمرارها على الأقل لسنة واحدة.

صوت أعلى لربات البيوت
callingهكذا أصبح للنساء ربات البيوت صوت أعلى من قبل وبدأن يحاربن النظرة الاجتماعية السيئة التي تَعُد أن مجرد لقب «ربة بيت» يشير إلى المرأة التي لا تقوم بأي عمل حقيقي يستحق التقدير، وأنّ المرأة العاملة في الخارج هي التي تحقق ذاتها وتسهم في الدورة الاقتصادية بشكل فعّال. ومن أكثر ما يعبِّر عن الدور الذي تقوم به ربّات البيوت هو ما قالته رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر في هذا الخصوص بأنّ «رعاية المنزل -من قبل ربة البيت- تتطلب أكبر مجهود فكري وأعظم خدمة مستدامة، وتستدعي القدرة غير المحدودة على تحمل الأعباء إلى درجة تصل إلى العبقرية. فأنا شخصياً لا أستطيع أن أتحمَّل النساء اللواتي يردن ترك مهمة العناية بالأزواج والأطفال للعمالة المدفوعة خارج المنزل لأنهن يعتقدن بأنها أعمال تتطلب قدرات ذهنية أكبر».

يقول أفلاطون إنَّ الشكل المثالي لأي أمر يبقى إلى الأبد وهو غير قابل للتغيير، وإن ابتكاراتنا المادية التي تحاول إيجاد أشكال جديدة له هي التي تتبدل وتندثر. وهكذا، فالأمومة المثالية هي التي تقوم على الرعاية والاهتمام المستدام الذي لا يمكن أن تؤمنه سوى النساء ربات البيوت. وقد يكون هذا التغير في التوجهات مؤشراً للعودة إلى الأصول حيث دور الأم الطبيعي على الأقل حتى يكبر أطفالها ويستقلوا بأنفسهم.

أضف تعليق

التعليقات

Mohammad Shamass

مَقالٌ رائغْ كَجَميع مَقالَاتُك. بُرِكْتِ سَيِّدَتي ألفاضِلة وَ بُركتْ أعْمالُكِ. أدامَك أللهُ لَنا عِزاً وَ فَخْراً وَ نوراً لهاذهِ ألدُّنيا ألقاتمة. وَفَّقَكِ وَ رَعاكِ ألله وَ ثَبَّتَ خُطاكِ.

Turki Bakitian

هو بحث جميل أكثر من كونه مقالا.. سلمت يداك