حياتنا اليوم

هل أصبح العالَمُ أكثر ضجيجاً؟

على مر العصور، وفي كل المجتمعات، تتغيَّر المشاهد البصرية التي يعايشها الناس كل يوم بما تحمله من حركة وألوان ومؤثرات. وهذا التغير هو ما يجعل الباحثَ قادراً على تصنيف كل مرحلة زمنية وكل مجتمع بالمشاهد البصرية التي تميَّز بها. وبموازاة هذه الوتيرة، فإن للأصوات حياةً أيضاً في دورة التاريخ، ويمكننا أيضاً أن نطلق عليها “مشاهد صوتية”، استعارةً للمصطلح الذي صاغه الموسيقار الكندي مري شيفر، في كتابه (المشهد الصوتيّ، بيئتنا الصوتية، وتناغم العالم)، والذي أسس في ستينيات القرن العشرين مشروع المشهد الصوتي العالمي، وهو مشروع بحثيّ عن البيئة الصوتية، يهدف إلى “إيجاد حلول لبيئة متوازنة، تنسجُ علاقةً متناغمةً بين المجتمع البشري والبيئة الصوتية”، بعد أن أصبح الناسُ يتساءلون: هل أصبح العالم أكثر ضجيجاً؟!

بات الضجيج اليوم مشكلة دائمة ومزمنة في مدن العالم الرئيسة. ويأتي خطره في المرتبة الثانية بعد مشكلة تلوث المياه. فمنذ بداية القرن العشرين، أصبح الضجيج حاضراً في العلاقة بين المجتمع والبيئة الصوتية، وصار سمة شائعة من سمات المدن الكبرى، ورمزاً قوياً لحيوية المجتمع وتقدُّمه وصناعته، وبات من الصعب دحض فكرة أن العالم أصبح تدريجياً أكثر ضجيجاً. فثمة مزيد من الناس، وفيض من الآلات والسيارات ووسائل الإعلام ومن كل الأشياء التي أخضع الناسُ آذانهم إليها وإلى متطلباتها وإيقاعها. ومما لاشك فيه أننا إذا استطعنا تكوين جدولٍ زمني بطريقة أو بأخرى عن الضجيج، فسيكون في مقدورنا نظرياً إثبات أن معظم البلدان قد تصبح ذات “صوت أعلى” مع مرور الوقت. ولكن ما يزال السؤال المطروح هنا: هل أصبحت الحياة أكثر ضجيجاً أم أن الناس أصبحوا أكثر حساسية تجاهه؟!

طبيعة الضجيج
لكي نفهم طبيعة صوت الضجيج المُجرد، نحتاج إلى أن نتتبع تاريخه من بين أصوات الطبيعة المتآلفة. وهذا ما قام به الدكتور ديفد هِندي في كتابه (الضَّجِيج: التَّاريخ الإنسانيُّ للصَوتِ والاسْتِماع) الصادر مؤخراً بنسخته العربية عن مشروع كلمة للترجمة، الذي ترجمه الزميل بندر الحربي وفيه يقول إن الضجيج عبارةٌ عن أصواتٍ اختلطت معاً وتداعتْ نحو حالةٍ من الفوضى، وشيء غيرُ مرغوب فيه عادة، ومتطفل، ومشتِّت للذهن، مزعج ومثيرٌ للقلق، وأن قصة الضجيج طويلة وثرية بالأحداث والجوانب؛ فهي تشمل في بعضٍ منها جَلَبةَ الجماهير في روما القديمة، والصراع على السُّلطة بين الأغنياء والفقراء في العصور الوسطى، وضغوطاتِ عصر التصنيع، والحروب، وظهور المدن، وثرثرة وسائل الإعلام المتواصلة. كما أن صوت الضجيج لا يشمل الموسيقى والكلامَ فقط، بل يشمل أيضاً: الصدى، والترانيم، ودقاتِ الطبول، والأجراس، وزمجرة الرعد، وإطلاق النار، وجلبة الجماهير، وقرقرة جسم الإنسان، والضحك، والصمت، والتنصت، والأصوات الميكانيكية، وضجيجَ الجيران، والتسجيلاتِ الموسيقية، والراديو، ويمكن أن نقول إنه يشمل كلَّ شيء في الواقع، ويشكِّل عالماً واسعاً من الأصوات.
وكما سمع الناس عبر التاريخ أنواعاً مختلفة من الأصوات والضجيج، ففي العصر الحجري الحديث، سمع الناس أصوات الطبول والغناء في الكهوف، وضجت المدن القديمة مثل أور وروما بحياةٍ صاخبة. وفي العصور الوسطى طغى دوي أجراس الكنائس والأديرة، وهُوجمت آذان الشعوب الأصلية بطبول المستعمرين الأوروبيين وأبواقهم وأجراسهم ونيران أسلحتهم. وكانت الحرب دائماً تصم الآذان لمن هم في خضمها. وتضرر بشكل دائم سمع عديدٍ من العمال في المصانع والورش إبان الثورة الصناعية. كما أن تفسير كل مجتمع لكل صوت اختلف عن غيره. فالسكان الأصليون لأمريكا مثلاً فسروا زمجرة الرعد تفسيراً مختلفاً عن سكان مستعمرات نيو إنجلاند أو سكان الكهوف في العصر الحجري، أو اليونانيين أو سكان الجزيرة العربية.

متى بدأ الضجيج؟
إن العلاقة بين الصوت والتاريخ الإنسانيِّ تمتد بعيداً في التاريخ، وكثيراً ما يُقال إنه هادئ “ذلك الحين” وصاخب “الآن”، ولكن لا أحد يعرف متى كان “ذلك الحين” بالضبط؟! إذ عرفنا أن الطبيعة نفسها صاخبة بما تحتويه من كتلة حيوية من المخلوقات تعجُّ بالضجيج، فهي مليئة “بصفير الأنفاس الخافتة” وبزمجرة العواصف الرعدية ودوي الصواعق وانفجارات البراكين..

تقول الرواية الأكثر شيوعاً إنَّ الضجيج وُلد وترعرع خلال الثورة الصناعية، وهذا هو رأي الطبيب دان ماكنزي، الذي كتب في عام 1916 الحكايةَ الرمزية “مدينة الضجيج”، إذ قال “إنَّ الطبيعة كانت هادئةً وماتعةً؛ وفي المقابل اتسمت الحضارةُ الحديثة بالضجيج، وكلما تطوَّرت الحضارة أصبحت أكثرَ ضجيجاً”.
لكن هذا لا يعني أن الضجيج لم يكن موجوداً قبل الثورة الصناعية، فروما القديمة، وهي المدينة الأكبر في العالم في زمانها، والمعتدة بنفسها في ذروة قوتها وغناها بسكانها الذين بلغوا المليون نسمة، والتي كان يأتيها المهاجرون والتُجَّار والعبيد من جميع المناطق في حوض البحر الأبيض المتوسط وما وراءه لأسباب اقتصادية، كانت الأعلى ضجيجاً بكلِّ المقاييس، الأمر الذي كان مصدراً للإزعاج، وأدَّى إلى نمط حياة يومية تتصف بالتوتر والنوم المتقطع، وقد صوَّر أحد الكُتَّاب شيئاً من تلك المدينة القلقة المكتظة بقوله: “كثير من المُعْتَلِّين صحيّاً يموتون هنا بسبب الأرق…ثمة حركة لا تنتهي في الشوارع الضيقة الملتوية”.
أما في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وهو العصر الذي كانت فيه القصائد والأغاني تفيض بوصف غناء الطيور في الغابات والمروج وخرير الجداول وصفير الأشجار، فإن المدن التي كانت تنمو سريعاً قد حملت معها بالمثل بذور ضجيجها الخاص. إذ تُظهر سجلات المحاكم في بعض المدن الأوروبية، أن طرقات الحدَّادين، وقعقعة صانعي الأواني المنزلية، وصوت ضجيج السهارى حتى وقت متأخر من الليل كلها كانت مصدراً من مصادر التوتر والمشكلات بين الناس.
ثم جاءت الثورة الصناعية بصوتها الهادر وأنظمتها الميكانيكية. إذ أصبحت جميع أنواع الصناعات بمحركات بخارية، ومكابس هيدروليكية، وآلات ضغط، وآلات شحذ الحديد، وأصبح ضجيج الإنسان يخنق “المشهد الصوتيّ” الطبيعي الذي ظل في منأى عن التغيير قروناً متعدِّدة. أما المرحلة الأولى للثورة الصناعية أو عصر الآلة، فقد كانت الأعنف بالنسبة للعمَّال، مثل عمال خراطة الحديد، والحائكين، وسائقي المحركات، وعمَّال سكك الحديد إذ كانت تصم الآذان إلى درجة قد تسبب الإعاقة السمعية.

الآثار الجانبية
لا تصل الأصوات إلى آذاننا دون أن تترك بصمتها على مزاجنا وعلى حياتنا اليومية. إذ لم يمضِ وقت طويل بعد الثورة الصناعية حتى أصبحت آثاره الفظيعة تظهر على صحة الناس الذين يعيشون في المناطق الأكثر اكتظاظاً وضجيجاً في المدن. وبدأ اعتلال الصحة يظهر بشكل ملحوظ عليهم. فمع جميع مضخات الأصوات الجديدة في حياة المدينة، واجه الناس ساحة حرب جديدة على أعصابهم، ولكنهم لم يستطيعوا ترجيح كفتها لصالحهم، لكون الضجيج نتيجة للتقدُّم والمصالح المادية الضاغطة.

أما اليوم، وحسب منظمة الصحة العالمية، فإن 360 مليون شخص على الصعيد العالمي يعانون من فقدان السمع، و3 ملايين منهم هم من الأطفال. وتعود بعض أسباب الصمم المكتسب إلى التعرض للضجيج المفرط. كما أن 1.1 مليار شاب (تتراوح أعمارهم بين 12 و35 سنة) يواجهون اليوم خطر فقدان السمع بسبب التعرض للضجيج في السياقات الترفيهية، مثل الأصوات المنبثقة عن أجهزة سمعية شخصية عالية الصوت فتراتٍ مطوّلة وارتياد الحفلات الموسيقية والنوادي.

مواجهة الضجيج
من أبرز مصادر الضجيج اليوم، ضجيج وسائل المواصلات والطرق، والضجيج الاجتماعي الذي يحدث في المحيط السكني، ومن ضمنه أصوات الحيوانات والأعمال المنزلية والموسيقى الصاخبة، وضجيج المصانع، وهو أخطر أنواع الضجيج، لكونه يؤثر على العاملين في هذه الأماكن وعلى السكان القاطنين بالقرب منها. وفي مواجهة هذه المصادر، تطوَّرت وسائل الحد من الضجيج على مر الزمن، فقد سنّت المجتمعات قوانين الحد من الضجيج في المساكن وأماكن العمل. وأصبحت الجدران أكثر سماكة ومزوَّدة بعوازل للصوت، واستُبدلت العجلات المطاطية التي تسير على الأسفلت بالعجلات ذات الأطر الحديدية التي تسير على الحصى، ونُظمت حركة المرور، وقُيد استخدام مكبرات الصوت. كما أصبحت حملات التوعية مؤثرة في هذا المجال.

نصائح منظمة الصحة العالمية
وتنصح منظمة الصحة العالمية بالإقلال من إصدار الأصوات والتعرض لها. إذ إن مستوى الصوت اليومي المأمون الذي يوصى به، هو أقل من 85 ديسيبل لمدة لا تتجاوز ثماني ساعات. ومن شأن خفض الصوت ولو بقدر يسير أن يوفِّر كثيراً من الحماية. ويمكن خفض الصوت عند الاستماع إلى أجهزة الاستماع الشخصية بمستويات الاستماع المأمونة. وتتمثَّل طريقة أخرى لإبقاء حجم الصوت منخفضاً في تحديد المستوى المأمون للاستماع لأجهزة الاستماع الشخصية عن طريق ضبط الصوت على مستوى مريح في مكان هادئ، على ألا يزيد على %60 من الحد الأقصى لحجم الصوت. كما تنصح المصادر الطبية بوضع سدَّادات الأذن عند التردُّد على الأماكن الصاخبة. فمن شأن هذه السدادات أن تساعد على خفض آثار التعرُّض للضجيج بقدر يتراوح ما بين 5 إلى 45 ديسيبل، وفقاً لنوع السدَّادات، وأفضلها السدادات المزوَّدة بوظيفة إلغاء الضجيج. كما تنصح المنظمة بتقليل مدة المشاركة في الأنشطة الصاخبة، إذ تُعد مدة التعرُّض للضجيج أحد العوامل الرئيسة التي تسهم في تحديد مستويات الطاقة الصوتية الكلية وآثارها على من يتعرَّض لها.

 

أضف تعليق

التعليقات