قول في مقال

هل‭ ‬ماتت‭ ‬المسافة‭ ‬حقاً؟

ثمة‭ ‬قول‭ ‬رائج‭ ‬مفاده‭ ‬أن‭ ‬المسافة‭ ‬تلاشت‭.‬

ويروج‭ ‬هذا‭ ‬القول‭ ‬بالإنجليزيّة‭ ‬بشكل‭ ‬خاص‭ ‬بسبب‭ ‬الإيقاع‭ ‬الناشئ‭ ‬عن‭ ‬تكرار‭ ‬الحرف‭ ‬الأول‭: ‬‮«‬distance is dead‮»‬‭. ‬وكان‭ ‬التوجه‭ ‬إلى‭ ‬إصدار‭ ‬هذا‭ ‬الحكم‭ ‬النهائي‭ ‬قد‭ ‬بدأ‭ ‬منذ‭ ‬عدة‭ ‬عقود‭. ‬فكانت‭ ‬مرحلته‭ ‬الأولى‭ ‬مع‭ ‬ازدياد‭ ‬سرعة‭ ‬وسائل‭ ‬النقل‭ ‬والطيران‭ ‬بالذات،‭ ‬ثم‭ ‬بداية‭ ‬عصر‭ ‬الاتصالات‭ ‬الأول‭ ‬وانتشار‭ ‬الهاتف‭ ‬الجوّال‭ ‬وبعده‭ ‬مباشرة‭ ‬البث‭ ‬التلفزيوني‭ ‬الفضائي‭ ‬وتقدُّم‭ ‬وسائل‭ ‬نقل‭ ‬الأخبار‭ ‬وبثّها‭.‬

ومع‭ ‬هذا‭ ‬التحوّل،‭ ‬بدأ‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أن‭ ‬الكرة‭ ‬الأرضيّة‭ ‬تتحوَّل‭ ‬برمّتها‭ ‬إلى‭ ‬قرية‭ ‬واحدة‭. ‬

وأما‭ ‬اليوم،‭ ‬فمن‭ ‬الجوَّال‭ ‬الذكي،‭ ‬إلى‭ ‬دزّينة‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬التي‭ ‬تسمح‭ ‬أن‭ ‬تقول‭ ‬رأيك‭ ‬على‭ ‬الملأ‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬أمر‭ ‬وفي‭ ‬أي‭ ‬لحظة،‭ ‬وتتيح‭ ‬لك‭ ‬أن‭ ‬تخاطب‭ ‬مجاناً‭ ‬وبالصورة‭ ‬الحية‭ ‬من‭ ‬تشاء‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬وساعة‭ ‬تشاء،‭ ‬تضاعفت‭ ‬العناصر‭ ‬التي‭ ‬تعزِّز‭ ‬هذه‭ ‬القفزة‭ ‬المفاجئة‭ ‬في‭ ‬طبيعتها‭ ‬وحجمها،‭ ‬والتي‭ ‬ضاعفت‭ ‬بطبيعة‭ ‬الحال‭ ‬عوامل‭ ‬اضمحلال‭ ‬المسافة،‭ ‬عدوّتنا‭ ‬اللدود،‭ ‬إلى‭ ‬الحدود‭ ‬القصوى،‭ ‬وما‭ ‬زال‭ ‬حبل‭ ‬وسائل‭ ‬التواصل‭ ‬على‭ ‬الجرار،‭ ‬كما‭ ‬يقال‭.‬

طبعاً،‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يُطرح‭ ‬القول‭ ‬بموت‭ ‬المسافة‭ ‬للدلالة‭ ‬على‭ ‬موت‭ ‬المسافة‭ ‬الفاصلة‭ ‬بين‭ ‬أفراد‭. ‬وبالتالي،‭ ‬يستعان‭ ‬بها‭ ‬لدعم‭ ‬فكرة‭ ‬عدم‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬السفر‭ ‬من‭ ‬بلد‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬لحضور‭ ‬اجتماع‭ ‬مثلاً،‭ ‬أو‭ ‬لمناقشة‭ ‬مشروع‭ ‬أو‭ ‬قضية‭ ‬وجهاً‭ ‬لوجه‭. ‬‮«‬وفروا‭ ‬تذاكركم،‭ ‬المسافة‭ ‬ماتت‮»‬‭.‬

يمكن‭ ‬لأي‭ ‬نقاش‭ ‬أن‭ ‬يدور‭ ‬عبر‭ ‬البريد‭ ‬الإلكتروني،‭ ‬أو‭ ‬الجوّال‭. ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬يكفِ،‭ ‬فاجتماع‭ ‬على‭ ‬‮«‬سكايب‮»‬‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬شابهه‭ ‬قد‭ ‬يفي‭ ‬بالغرض‭. ‬وطبعاً،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬بالفعل‭ ‬بشكل‭ ‬عام‭. ‬ولكن،‭ ‬هل‭ ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الوفرة‭ ‬التي‭ ‬تفوق‭ ‬الخيال‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬والتواصل‭ ‬تغني‭ ‬بالفعل‭ ‬عن‭ ‬اللقاء‭ ‬وجهاً‭ ‬لوجه؟‭ ‬وإلى‭ ‬أي‭ ‬مدى؟

الجواب‭ ‬هو‭: ‬قطعاً،‭ ‬لا‭.‬

فقدرة‭ ‬شخصين‭ ‬على‭ ‬الجلوس‭ ‬وجهاً‭ ‬لوجه‭ ‬وتبادل‭ ‬الرأي‭ ‬والمعلومات‭ ‬ومراجعتها،‭ ‬والنظر‭ ‬سويّاً‭ ‬في‭ ‬وثائق،‭ ‬أو‭ ‬الاستماع‭ ‬سويّاً‭ ‬إلى‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬ثالثة‭.. ‬لائحة‭ ‬تبدأ‭ ‬ولا‭ ‬تنتهي‭ ‬من‭ ‬الحالات‭ ‬والحاجات‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬يشكِّل‭ ‬فيها‭ ‬الحضور‭ ‬الشخصي‭ ‬فارقاً‭ ‬نوعياً‭ ‬شاسعاً،‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تحل‭ ‬محلّه‭ ‬أي‭ ‬وسيلة‭ ‬اتصال‭ ‬مهما‭ ‬قرّبت‭ ‬المسافة‭ ‬أو‭ ‬قتلتها‭.‬

إن‭ ‬المسافة‭ ‬بين‭ ‬شخصين‭ ‬بعيدين،‭ ‬في‭ ‬النهاية،‭ ‬لا‭ ‬تتلاشى‭. ‬إن‭ ‬عملاً‭ ‬يتم‭ ‬التعاون‭ ‬على‭ ‬إنجازه‭ ‬بين‭ ‬زميلين‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬من‭ ‬المجالات‭ ‬المختلفة‭ ‬مثل‭ ‬جمع‭ ‬وصياغة‭ ‬تقرير،‭ ‬أو‭ ‬إعداد‭ ‬تصميم‭ ‬لمشروع‭ ‬معيّن،‭ ‬أو‭ ‬وضع‭ ‬برنامج‭ ‬لمناسبة‭ ‬أو‭ ‬فعالية،‭ ‬يحتاج‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬عبر‭ ‬وسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬إلى‭ ‬أضعاف‭ ‬الزمن‭ ‬وأضعاف‭ ‬الطاقة‭ ‬العصبية‭ ‬للتفاهم‭ ‬وتبادل‭ ‬الرأي‭ ‬والوصول‭ ‬إلى‭ ‬النتيجة‭ ‬المُرضية‭ ‬للطرفين،‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬الوصول‭ ‬إليها‭ ‬بسرعة‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬اللقاء‭ ‬المباشر‭.‬

وكم‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬أو‭ ‬تجربة‭ ‬مرّ‭ ‬بها‭ ‬كثيرون،‭ ‬وشعر‭ ‬فيها‭ ‬أحد‭ ‬الطرفين‭ ‬بأنه‭ ‬لا‭ ‬مجال‭ ‬لاستمرار‭ ‬التعاون‭ ‬عن‭ ‬بُعد،‭ ‬ولا‭ ‬بد،‭ ‬كسباً‭ ‬للوقت،‭ ‬أن‭ ‬يستقلَّ‭ ‬أحد‭ ‬الطرفين‭ ‬طائرة‭ ‬ويسافر‭ ‬إلى‭ ‬زميله‭.‬

لا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬المسافة‭ ‬هانت،‭ ‬أو‭ ‬قصُرت‭ ‬وطأتها‭. ‬وربما‭ ‬يستعاض‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬عن‭ ‬السفر‭ ‬إلى‭ ‬الآخر‭ ‬بمكالمة‭ ‬هاتفية‭ ‬طويلة‭ ‬أو‭ ‬أي‭ ‬وسيلة‭ ‬أخرى‭.‬

لكن‭ ‬الحكم‭ ‬النهائي‭ ‬بتلاشي‭ ‬المسافة‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬مبكراً‭ ‬بلا‭ ‬شك‭.‬

أضف تعليق

التعليقات