أقول شعراً

هاشم الجحدلي

هذه القصيدة سفحت روحي على الورق!

استمع للقصيدة

عندما‭ ‬يعود‭ ‬الزمن‭ ‬بي‭ ‬للوراء،‭ ‬إلى‭ ‬أجواء‭ ‬كتابة‭ ‬أو‭ ‬تدوين (‬تهافت‭ ‬النهار)‬،‭ ‬أشعر‭ ‬برجفة‭ ‬حقيقية‭ ‬وحيرة‭ ‬بالغة،‭ ‬وتساؤل‭ ‬مربك،‭ ‬هل‭ ‬كتبت‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬أم‭ ‬كتبتني؟

المفارقة‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬حرف‭ ‬من‭ ‬حروف‭ ‬القصيدة،‭ ‬وكل‭ ‬كلمة،‭ ‬وكل‭ ‬مقطع،‭ ‬من‭ ‬مقاطعها،‭ ‬أحس‭ ‬به‭ ‬وألمسه‭ ‬بل‭ ‬وأكاد‭ ‬أشم‭ ‬رائحته‭.‬ بل‭ ‬أرى‭ ‬إيقاعها‭ ‬يتراقص‭ ‬أمام‭ ‬بصري‭ ‬وداخل‭ ‬جسدي‭ ‬في‭ ‬عُرْسٍ‭ ‬بدوي‭ ‬مجنون‭ ‬ومحموم،‭ ‬وكأن‭ ‬هذه‭ ‬القصيدة‭ ‬قُدَّت‭ ‬من‭ ‬لحمي،‭ ‬أو‭ ‬كتبت‭ ‬بدمي‭.‬

لهذا‭ ‬كنت‭ ‬وما‭ ‬زلت‭ ‬حائراً‭ ‬إزاءها،‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬أنا‭ ‬كما‭ ‬أرادت‭ ‬أبجدية‭ ‬الإيقاع‭ ‬أن‭ ‬أكون‭ ‬مسفوحاً‭ ‬على‭ ‬الورق،‭ ‬أم‭ ‬أنا‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬استحال‭ ‬إلى‭ ‬لغة‭ ‬وإيقاع؟

البداية‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬كتابة‭ ‬نص‭ ‬يستطيع‭ ‬المعادلة‭ ‬بين‭ ‬اليومي‭ ‬و‭ ‬المتخيل،‭ ‬بين‭ ‬هاشم‭ ‬الحياة‭ ‬وهاشم‭ ‬القصيدة‭ ‬والحلم،‭ ‬بين‭ ‬الشعرية‭ ‬كما‭ ‬أحب‭ ‬والتدافع‭ ‬الشعري‭ ‬كما‭ ‬يفترض‭ ‬أن‭ ‬يكون‭.‬

منذ‭ ‬أن‭ ‬هطل‭ ‬مطلعها: (‬في‭ ‬مساء‭ ‬قديم…….) ‬وأنا‭ ‬أنهمر‭ ‬وأتدفق‭ ‬وأسيل‭ ‬على‭ ‬بياض‭ ‬الورق‭ ‬وفضاء‭ ‬الكلام،‭ ‬في‭ ‬اندياح‭ ‬حقيقي‭..‬ مرت‭ ‬ليال‭ ‬عدة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬أعود‭ ‬إلى‭ ‬مراجعة‭ ‬ما‭ ‬كتبته،‭ ‬فوجدت‭ ‬عدة‭ ‬مفارقات‭:‬
أولاً: ‬هاهنا‭ ‬أجسِّد‭ ‬نفسي‭.‬
ثانياً: ‬الصعاليك‭ ‬قناعي‭.‬
أخيراً: ‬الميم‭ ‬هي‭ ‬القافية‭ ‬المرتحلة‭ ‬والمقيمة‭.‬

تحت‭ ‬هذه‭ ‬الشروط‭ ‬الثلاثة‭ ‬أعدت‭ ‬تسويد‭ ‬ما‭ ‬دوَّنت‭ ‬سابقاً،‭ ‬وحذف‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬يتسق‭ ‬مع‭ ‬هذه‭ ‬الاشتراطات،‭ ‬أو‭ ‬يكرِّر‭ ‬أو‭ ‬يبسط‭ ‬حالات‭ ‬النص‭ ‬التي‭ ‬تم‭ ‬القبض‭ ‬عليها،‭ ‬في‭ ‬مقاطع‭ ‬سابقة‭ ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬أسفح‭ ‬روحي‭ ‬على‭ ‬الورق‭ ‬الآن؟‭ ‬هل‭ ‬أرثي‭ ‬زمناً‭ ‬راحلاً،‭ ‬وأقف‭ ‬على‭ ‬شواهد‭ ‬الأمس،‭ ‬متأملاً‭ ‬الماضي‭ ‬الذي‭ ‬اندثر؟‭ ‬أم‭ ‬هنا‭ ‬محايد‭ ‬يصوِّر‭ ‬المشهد‭ ‬كما‭ ‬يراه‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬وليس‭ ‬طرفاً‭ ‬في‭ ‬معادلة‭ ‬سوى‭ ‬معادلة‭ ‬البقاء؟

بين‭ ‬هذا‭ ‬وذاك‭ ‬اختارت‭ ‬القصيدة‭ ‬مصائرها‭ ‬وخرجت‭ ‬بحلتها‭ ‬الأخيرة،‭ ‬كنت‭ ‬لا‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬أُقحم‭ ‬الذاتي‭ ‬في‭ ‬المتخيل‭ ‬الذي‭ ‬يعيش‭ ‬أقصى‭ ‬حالات‭ ‬عنفوانه‭ ‬كنت‭ ‬أريد‭ ‬أن‭ ‬يحافظ‭ ‬فضاء‭ ‬القصيدة‭ ‬على‭ ‬مداره‭ ‬الأول‭..‬ ولكنها‭ ‬عصتني‭ ‬وطرحت‭ ‬خيارتها‭ ‬التي‭ ‬تشكلت‭ ‬أخيراً،‭ ‬هي‭ ‬رحلة‭ ‬بين‭ ‬العرصات‭ ‬والمدينة،‭ ‬بين‭ ‬الصعلوك‭ ‬والمثقف‭ ‬المحتشد‭ ‬بخياراته‭ ‬الحادة‭ ‬ومواقفه‭ ‬العضوية‭ ‬بين‭ ‬الجيم‭ ‬والجيم. ‬كانت‭ ‬لحظات‭ ‬الشعر‭ ‬تتراوح‭ ‬بين‭ ‬فضاء‭ ‬الشاعر‭ ‬وأفق‭ ‬القصيدة‭ ‬وبين‭ ‬هذين‭ ‬القطبين‭ ‬كانت (‬تهافت‭ ‬النهار) ‬تتناسل‭ ‬كالماء،‭ ‬وأنا‭ ‬هي‭ ‬ووجودها‭ ‬شرط‭ ‬أساس‭ ‬لوجودي‭ ‬بعد‭ ‬كتابة‭ ‬القصيدة‭ ‬أو‭ ‬تدوينها‭.‬

مررت‭ ‬بحالة‭ ‬استسلام‭ ‬غريب‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬أنني‭ ‬آمنت‭ ‬بأنني‭ ‬لن‭ ‬أكتب‭ ‬بعدها‭ ‬حرفاً‭ ‬واحداً. ‬لقد‭ ‬قلت‭ ‬شهادتي‭ ‬ونثرت‭ ‬وصيتي‭ ‬وكتبت‭ ‬نشيدي‭ ‬فماذا‭ ‬بعد‭ ‬ماذا‭ ‬سوف‭ ‬تراني،‭ ‬سوف‭ ‬أكتب‭ ‬بعد‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الآفاق. ‬أنا‭ ‬ابن‭ ‬الدهشة‭ ‬الأولى‭ ‬دائماً‭ ‬وأسير‭ ‬الإيقاع. ‬وجاء‭ ‬من‭ ‬المحبين‭ ‬والأقربين‭ ‬والبعيدين‭ ‬مؤكداً‭ ‬لذلك،‭ ‬ومعززاً‭ ‬لمفارقة‭ ‬القصيدة‭.‬ إذاً‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬بعد‭ ‬هذا‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬مهماً‭ ‬وكدت‭ ‬أتورط‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬النفق‭ ‬لولا‭ ‬قصيدة (‬معلقة‭ ‬المرأة) ‬التي‭ ‬جاءت‭ ‬استكمالاً‭ ‬لوجع (‬تهافت‭ ‬النهار) ‬بشكل‭ ‬أو‭ ‬بآخر‭.‬

تَهَافتُ النَّهَار

فِي‭ ‬مَسَاءٍ‭ ‬قَدِيمْ‭ ‬
بَيْنَ‭ ‬جِيْمَيْنِ‭ ‬مِنْ‭ ‬جَنَّةٍ‭ ‬وجَحِيمْ
مادَتِ‭ ‬الأرضُ‭ ‬بِي‭ ‬
فتَهَاوَيْتُ‭ ‬فِي‭ ‬الماءِ
بَعْضِي‭ ‬يُرَمِّمُ‭ ‬بَعْضِي‭ ‬الرَّمِيمْ‭ ‬
شِبْهُ‭ ‬مُنْدَثرٍ
لَمْ‭ ‬يُدَثّرْ‭ ‬دَمِي‭ ‬غَيْر‭ ‬هذَا‭ ‬العذَابِ‭ ‬العَمِيمْ
الذِي‭ ‬يَمْلأ‭ ‬القلبَ‭ ‬والطرقاتِ
ويُسْلِمُنِي‭ ‬للنهارِ‭ ‬الذِي‭ ‬لَمْ‭ ‬يَكُن‭ ‬بالتَّقِي
ولاَ‭ ‬بالنَّقِي
ولاَ‭ ‬بالرَّحِيمْ

وَاحِدٌ
ووَحِيدْ
يَسْتَبِيحُ‭ ‬البَرَارِي
يُنَادِمُ‭ ‬غِرْبَانَهَا
فَنِعْمَ‭ ‬الصَّعَالِيْكُ‭ ‬مِنْ‭ ‬رِفْقَةٍ
ونِعْمَ‭ ‬الرَّدَى‭ ‬مِنْ‭ ‬نَدِيمْ
وَاحِدٌ‭ ‬ووَحِيدْ
هَا‭ ‬أنَا‭ ‬جِئْتُكُم‭ ‬رَاحلاً‭ ‬مِنْ‭ ‬ديَارِي
لأَهْبُطَ‭ ‬فِي‭ ‬وَادِي‭ ‬العَاشِقِيْنَ
وأَتْلُو‭ ‬علَى‭ ‬لَيْلِهِمْ‭ ‬لَعْنَتِي
فَاتَّقُوا‭ ‬لَوعَتِي‭ ‬
أَنَّنِي‭ ‬ذَاهبٌ‭ ‬فِي‭ ‬الغوَايَةِ‭ ‬حتَّى‭ ‬أقَاصِي
السَّدِيمْ
حيثُ‭ ‬لاَ‭ ‬وِجْهَةٌ‭ ‬أَرْتَجِيْهَا
ولا‭ ‬أُمْنَيَاتٌ‭ ‬أُمَنِّي‭ ‬بِهَا‭ ‬الرُّوْحَ
ولا‭ ‬شيءَ‭ ‬يُفْضِي‭ ‬إلِى‭ ‬أيِّ‭ ‬شَيْءٍ
وحيثُ‭ ‬المدينةُ‭ ‬ناَئِيَةٌ
والزمانُ‭ ‬سَقِيمْ
ها‭ ‬أنَا‭ ‬أَهْبِطُ‭ ‬الآنَ‭ ‬فِي‭ ‬وادِي‭ ‬العَاشقيْنَ
وأَرْمِي‭ ‬علَى‭ ‬عَرَصَاتِ‭ ‬الهَوَى
غُرْبَةَ‭ ‬العَاشِقِ‭ ‬المُسْتَهِيمْ
ارْتَجِيْهَا‭ ‬تَجِيءُ
تَهِلُّ‭ ‬على‭ ‬زمانٍ‭ ‬مَالِحٍ‭ ‬
ونَهارٍ‭ ‬أَلِيمْ
فأَطَلَّتْ‭ ‬مُبَرَّأَةٌ‭ ‬مِن‭ ‬عذابَاتِهَا‭ ‬
وأَتَتْنِي‭ ‬منَ‭ ‬الغَيبِ‭ ‬تَغْمرُهَا
فِتْنَةٌ‭ ‬مُرّةٌ
وجَمَالٌ‭ ‬أَثِيمْ
تَهْبِطُ‭ ‬ناصِعَةً‭ ‬مِنْ‭ ‬جَحِيمِ‭ ‬الظَّهِيْرَةِ
والشَّمْسُ‭ ‬
تَسْتَوْطِنُ‭ ‬القَلْبَ
تَجْتاحُنِي‭ ‬بالنَّعِيمِ‭.. ‬النَّعِيمْ

فكَأَنِّي‭ ‬أَسِيلُ‭ ‬على‭ ‬مِرْفَقَيْهَا
كأَنِّي‭ ‬سَقَطْتُ‭ ‬على‭ ‬صَدْرِهَا‭ ‬مِنْ‭ ‬عَلٍ
مُقْبِلٌ‭ .. ‬مُدْبِرٌ
رَاحِلٌ‭ .. ‬ومُقِيمْ
فرَأَيْتُ‭ ‬الذِي‭ ‬لَمْ‭ ‬أَرَ
ورأَيْتُ‭ ‬النَّدَى
طَالعًا‭ ‬يَتَشَكَّلُ‭ ‬أَسْئلِةً
فِي‭ ‬فضَاءٍ‭ ‬بَهِيمْ
والأرضُ‭ ‬زَرْقاءُ‭.. ‬زَرقاءُ
والبَحْرُ‭ ‬أَنْقَى
فصَرَخْتُ‭ ‬بِهِمْ‭:‬
ها‭ ‬أَنَا‭ ‬دُونَ‭ ‬رَمْضَاءِ‭ ‬وَحْدِي
علَى‭ ‬الرَّمْلِ‭ ‬مُلْقَى
فأيّ‭ ‬الفضَائل‭ ‬للنورِ‭ ‬والنارِ؟
أَيّ‭ ‬مَجْدٍ‭ ‬لِهذَا‭ ‬النَّهَار
أَيّ‭ ‬مَجْدٍ‭ ‬لِهَذْي‭ ‬الظَّهيْرَةِ‭ ‬إِذْ‭ ‬شَمْسُهَا
تَسْتَقِيمْ
أَيُّ‭ ‬مَجْدٍ‭ ‬لَهَا‭..‬؟
أَيُّ‭ ‬مَجْدٍ‭ ‬لِهَذَا‭ ‬النَّهَارِ‭ ‬الرَّجِيم

..في سطورولد‭ ‬في‭ ‬قرية‭ ‬ثول‭ ‬البحرية،‭ ‬شمال‭ ‬مدينة‭ ‬جدة‭ .‬شاعر‭ ‬وإعلامي‭ ‬سعودي،‭ ‬يشغل‭ ‬الآن‭ ‬منصب‭ ‬نائب‭ ‬رئيس‭ ‬تحرير‭ ‬صحيفة‭ ‬عكاظ‭ ‬السعودية‭ ‬التي‭ ‬تصدر‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬جدة،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬بدأ‭ ‬العمل‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬عام ‭ ‬1413هـ‭ ‬كمحرر‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬الثقافي‭.‬
له‭ ‬ديوان (‬دم‭ ‬البيِّنات) ‬عن‭ ‬النادي‭ ‬الأدبي‭ ‬في‭ ‬حائل،‭ ‬وديوان (‬غزل‭ ‬شمالي) ‬كما‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬عدة‭ ‬منتديات‭ ‬ثقافية‭ ‬وشعرية‭ ‬ونشر‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬الحوارات‭ ‬الثقافية‭ ‬والتغطيات‭ ‬الأدبية‭ ‬والقراءات‭ ‬النقدية. ‬كتب‭ ‬مذكرات‭ ‬المفكر‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬القصيمي‭ ‬وسيرة‭ ‬حياة‭ ‬الروائي‭ ‬عبد‭ ‬الرحمن‭ ‬منيف،‭ ‬كما‭ ‬سجل‭ ‬ذكريات‭ ‬الشيخ‭ ‬محمد‭ ‬علوي‭ ‬مالكي،‭ ‬ومذكرات‭ ‬الشاعر‭ ‬محمد‭ ‬العلي،‭ ‬ومذكرات‭ ‬المفكر‭ ‬والروائي‭ ‬تركي‭ ‬الحمد‭ ‬ونشر‭ ‬سلسلة‭ ‬كاملة‭ ‬عن‭ ‬الكتب‭ ‬المحرمة‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬العربية‭. ‬

أضف تعليق

التعليقات