رسالة المحرر

موسم الهجرة إلى العقول

شهر رمضان ليس موسماً روحانياً فقط، ولكنه فسحة عائلية أيضاً، إذ يندر أن تلتقي الأسر ويلتقي الأقارب والأصدقاء كما يحدث في هذا الشهر. وما يبعث على الغرابة والألم هو أن يصبح رمضان منصة مفتوحة لألوان الأكل والشرب، واستعراض النعم في شكل يخالف مطامح هذا الشهر الفضيل ومقاصده الإنسانية التي قضت بأن يشاطر الإنسان المتنعّم أحاسيس أخيه الجائع والفقير والمُعدم، فيهرع إلى مد يد العون له، ولهذا يبدو التعاطف الإنساني الذي هو جوهر هذا الشهر، هو آخر أهدافنا بل وأضعفها.

هذا الترهُّل الذي يصيب رؤيتنا لهذا الشهر فضلاً عن أجسامنا، يصيب أيضاً قنواتنا التلفزيونية التي تحشد مبكراً مصفوفة من المسلسلات والبرامج والإعلانات، لنلتقط منها عملاً تلفزيونياً أو برنامجاً يتناسب مع أوقاتنا أو يلبّي بعض مشاربنا الفنية أو الاجتماعية، لكن حصيلتنا من تلك الأعمال الفنية هزيلة إجمالاً، وأظن أن القنوات تسهم في هذه الرداءة المتفشية، فهي من جهة تنصاع لرغبات المعلنين والمسوّقين الذين يسعون إلى استثمار هذ الشهر في تسويق بضاعتهم ومنتجاتهم، وهي من جهة أخرى تداهن نجوماً ومخرجين بقبول مسلسلاتهم على الرغم من كل علامات الضعف والركاكة التي تلاحق تلك الأعمال مضموناً وشكلاً وأداءً، وهي أسباب تكفي لجعل المشاهد يغادر مكانه أمام الشاشة وربما لا يعود إليها حتى ينقضي هذا الشهر.

لعل هذه الأسباب وغيرها قد صرفت الناس إلى موجة تلفزيونية فارقة هي الحوارات التلفزيونية التي توثِّق التجارب العملية والإدارية والثقافية والأكاديمية، فضلاً عن إضاءتها لمجموعة من المواهب الابتكارية والريادية الناشئة، وقد لاقت هذه البرامج احتفاءات عالية على شبكات التواصل الاجتماعي ومتابعات غير مسبوقة، وقد جرى تقديمها عبر أساليب حديثة وحيوية تخرج عن الأنماط التقليدية لمثل هذا النوع من الحوارات بحيث تركز على المنجزات، وعلى تخطي المصاعب والتحديات وتحفل بالشهادات الشخصية الحية، كما طُعّمت الحلقات بالصور والرسوم لكي يعيش المشاهد في البيئة التي عمل فيها الضيف ودرس وأنجز. ولهذا نقول إنّ برامج مثل: “من الصفر” و “الراحل” و ” هذا أنا” و قبلها: “وينك” واستعادة برنامج مثل “هذا هو” الذي مضى على بثه أكثر من عقدين هو دليل على الحاجة إلى مثل هذه البرامج التي حفظت تاريخاً مبهجاً لقامات فردية متميِّزة أنجزت بقدر ما منحها الواقع من إمكانات وهزمت أحياناً وقاومت أحياناً أقسى التحديات، دون أن يعني ذلك أن ضيوف تلك البرامج هم صفوة من عملوا فوق تراب هذا الوطن وأن ما صنعوه هو الأجدر بالضوء، ولكننا نصرّ على أن تقديم هذه التجارب إلى الرأي العام هو عمل ضروري وقد تأخر كثيراً.

هذ الحوارات لا تتقصّد التلميع الشخصي الباهت، ولكنها تعالج ثغرةً طالما تحدثنا عنها، وهي أن الأجيال تنصرم دون أن نؤرِّخ لحياتها وننقل تجاربها إلى الأجيال اللاحقة لتتعلَّم منها وتسترشد بها وتستمد منها القدرة على تفهُّم المشكلات المعقَّدة التي يطرحها العالم من حولنا، فتنتقل التجارب من جيل إلى آخر، وتصنع إرثاً من التجارب الإدارية والإبداعية والمهنية الملهمة التي تشكِّل نبراساً لكل الرياديين والطامحين الجدد.

أضف تعليق

التعليقات