أدب وفنون

من إقليدس إلى الطهطاوي

كتب مفصليّة في تاريخ الحضارة

من بين ملايين الكتب التي أنتجتها الإنسانية عبر تاريخها، ثمة كتب “مفصلية” لعبت دوراً بالغ الأهمية في ربط الحضارات بعضها ببعض، وفي نقل المحتوى الحضاري والمساهمة من ثم في التعجيل بالنهوض في منطقة تسعى إلى ذلك. وفي تاريخ الحضارات الإنسانية كتب كثيرة يمكن التحدث عنها من هذه الزاوية، واستذكارها مهم للتدليل على أهمية الكتاب من ناحية وللوقوف على آليات التغير أو الانتقال الحضاري من ناحية أخرى. كيف يحدث التغير؟ كيف تتطوَّر الأمم أو تتحَّول من حالٍ إلى حال؟

د. سعد البازعي تناول هذه الكتب المفصليَّة في محاضرة ألقاها مؤخراً، وخصّ القافلة بحق نشرها مشكوراً.

لا شك في أنَّ الكتب المقدَّسة تأتي في طليعة الكتب المفصليَّة، لكنَّ لتلك الكتب وضعاً مختلفاً، فهي في الأساس ذات مصدر غير بشري أو مقدَّسة ولذا فإن دورها المفصلي تحصيل حاصل. ما يتجه إليه حديثي هي كتب مفصليَّة من النوع الذي حين ولد في لغة أسهم في إحداث نقلة علمية أو أدبية أو فكرية في تلك اللغة ولدى أهلها، نقلة نتجت عن حمله ثقافة أخرى أو كونه جسراً لعلاقة ثقافية.

“العناصر” و “كليلة ودمنة”
مثلان من مجالي العلوم والأدب المسيّس
فلنأخذ كمثال أول كتاب “العناصر” في الرياضيات. يعود ذلك الكتاب إلى العام 300 قبل الميلاد تقريباً حين كتبه إقليدس الإسكندري، وهو عالِمٌ يونانيٌ عاش في الإسكندرية في عهد بطليموس الأول. مرّ ذلك الكتاب بنقلات كثيرة ما بين الثقافات واللغات، ويُعدّ الكتاب مؤسساً للهندسة بأجزائه أو ما يسمى “كتبه” الثلاثة عشر والمسائل التي يحتويها والتي حملت ما سبق لفلاسفة يونانيين مثل فيثاغوروث أن توصلوا إليه. وصل ذلك الكتاب إلى بيزنطة في مرحلة لاحقة، ثم إلى العرب حوالي عام 760م حين أمر هارون الرشيد بترجمته في بيت الحكمة في بغداد ليبدأ بذلك حياة جديدة في بيئة حضارية اعتنت به وأسست عليه لتتجاوزه بطبيعة الحال بانطلاقة علوم الرياضيات من حساب وهندسة وجبر، مفيدة من ذلك الكتاب التأسيسي وحاملة إلى العالَم عطاءات ما تحوّل إلى حضارة عربية إسلامية، تركت أثرها العميق في حضارات أخرى، لعب كتاب إقليدس، كما سنرى بعد قليل، دوراً فيها، مثلما تركت أثرها في حضارة المسلمين كتب مفصليَّة أخرى كانت مؤثِّرة في أكثر من مكان.

الكتاب الآخر الذي يتبادر إلى الذهن هنا ويعود دخوله العربية إلى فترة مقاربة هو كتاب “كليلة ودمنة” الذي ارتبط اسمه بابن المقفَّع. فإذا كان كتاب إقليدس جاء من الشمال، من الإسكندرية وقبلها اليونان، فإن كتاب ابن المقفع جاء من الشرق، من الهند مروراً بفارس التي نقل عنها ابن المقفع كتابه الشهير. وما جاء به كتاب ابن المقفع كان حكمة الهند وفارس وآدابهما وشيئاً من حياتهم الاجتماعية ونظمهم السياسية. وكما هو الحال مع كتاب إقليدس، فإن الكتاب لم يتحدَّد بالمفهوم الذي نعرف به الكتب اليوم، أي الكتاب ذو المؤلف أو المؤلفين الذي يحمل حقوق نشر وينقل من لغة إلى أخرى ضمن نظم معروفة ثم يدخل المكتبات حسب قواعد معروفة أيضاً. كان الوضع مختلفاً تماماً كما يمكن أن نتخيل. كانت الكتب مخطوطات تنتقل بين الأيدي ويضاف إليها ويحذف منها، وتوجد في نسخ مختلفة وتتعرَّض لمصائر متباينة في خزائن الملوك أو خزائن العلماء والباحثين والمترجمين. كانت الكتب تمرُّ برحلة طويلة، لا سيما تلك التي يرى فيها الناس أهمية خاصة ويشعرون بضرورة الإفادة منها، حتى إن الكتاب ليتحوَّل إلى سجل لقرونٍ من الانتقال والتحوير، وقد ينسب إلى مؤلفين مختلفين لتترك عليه ثقافات مختلفة بصماتها. ويبدو أن “كليلة ودمنة” من تلك التي تجسِّد تلك الحالة بشكل خاص. فرحلته عبر العصور واللغات ثم استقراره في العربية يشكل مادة ثرية لمن يريد تتبع ذلك التاريخ الطويل، التتبع الذي لا أشك أنه قد حدث فعلاً.

كما هو الحال مع كتاب إقليدس، فإن الكتاب لم يتحدّد بالمفهوم الذي نعرف به الكتب اليوم، أي الكتاب ذو المؤلف أو المؤلفين الذي يحمل حقوق نشر وينقل من لغة إلى أخرى ضمن نُظم معروفة ثم يدخل المكتبات حسب قواعد معروفة أيضاً.

تقول المعلومات المتوفرة إن “كليلة ودمنة” كتب بالسنسكريتية في القرن الرابع الميلادي، ثم ترجم إلى الفهلوية في فارس أوائل القرن السادس الميلادي. ومن الفهلوية ترجمه إلى العربية ابن المقفع ذو الأصل الفارسي والمتمكن من اللغتين، مع أننا نعرفه الكاتب الكبير في الأدب العربي بل أحد أساتذة النثر المؤسسين. المهم هنا هو أن الكتاب الذي ينسب إلى الحكيم الهندي بيدبا وأُلف لوعظ الحاكم على ألسنة الحيوان حيث الأسد يمثل الملك وتمثل حيوانات أخرى دور الحاشية، لم يجد صدىً قوياً كالذي وجده كتاب إقليدس اليوناني، ليس لأنه كتاب أدبي وإنما لأنه مسّ منطقة أكثر حساسية في حياة المجتمعات هي المنطقة السياسية. لذا كان التلقي متأرجحاً بين الإعجاب بطرافة الكتاب وبلاغة ابن المقفع وبين التوجس من دلالات بعض القصص وإيحاءاتها السياسية.

فقد ورد في كثير من تلك القصص وتعليقات ابني آوى كليلة ودمنة كلاماً خطيراً في ذلك الوقت حول الاستبداد وحاجة الحكَّام للعدل ومراعاة الرعية إلى غير ذلك مما أغضب أبا جعفر المنصور. لا سيما أن ابن المقفع نفسه، كما يقال، كانت له مواقف سياسية مزعجة للخليفة العباسي. وكانت نتيجة ذلك مقتل ابن المقفع وهو ابن ستة وثلاثين عاماً. لكن الرجل لم يرحل دون أن يلعب دوراً خطيراً في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية بدعم صلاتها بالحضارات الشرقية في وقت كان آخرون يدعمون الاتجاه الآخر القادم من بيزنطة ومن بعدها اليونان.

في الكتابين المفصليين المشار إليهما، كان العرب والمسلمون يتعلَّمون من غيرهم، ينقلون ويضيفون، يعدلون ويزيدون. ولم يقتصر ذلك بالطبع على الرياضيات والأدب وإنما تعداه إلى حقول أخرى كالفلسفة التي وفدت ضمن ما وفد من اليونان عبر لغات أخرى كانت السريانية أهمها. ولا شك في أن ذلك التوافد امتلأ بكتب مفصليَّة أخرى، لكننا ننظر في أمثلة بارزة بل شديدة البروز. فالمرحلة التي تلت كانت مرحلة مواءمة بين القادم والمحلي، بين ما يفد من حضارات أخرى وما كان العرب والمسلمون ينتجون بعد أن هضموا ما لدى الآخر.

كتب مفصليَّة عربية أفادت الغرب أكثر
“فصل المقال” مثلاً

ومن هنا جاء كتاب مفصلي آخر عبّر عن طبيعة المرحلة التي وصلتها الحضارة العربية الإسلامية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين. ذلك كان كتاب “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال” لابن رشد الذي سعى فيه إلى المواءمة بين الشريعة الإسلامية والمعطى الفلسفي اليوناني أو ما سمّاه الحكمة، تبعاً للمفهوم السائد آنذاك. والناظر في كتاب ابن رشد من الخارج سيجده صغير الحجم قليل الصفحات لكن نظرة متأنية إلى الداخل ستؤكد أنه من الكتب الثقيلة الوزن العميقة الفكر والأطروحات.

لكن الكتاب دليل أيضاً على الصعوبة الخاصة التي كانت تواجه المفكرين المسلمين في محاولة استيعاب الموروث اليوناني في جانبه الفلسفي، في العلوم الإنسانية، تماماً كما كانت مشكلة ابن المقفع في تمرير حكمة هندية لا تخلو من مضامين سياسية. لم تكن هناك أية عقبات في وجه كتاب إقليدس أو كتب غيره من علماء الرياضيات، أو حتى كتب الفلاسفة مثل أرسطو في جانبها الفيزيائي أو ما يتصل به من علوم الحيوان وغيره. لكنَّ الأمر يأخذ أبعاداً بالغة الحساسية حين يتصل الأمر بالفلسفة أو بالشأن الإنساني الاجتماعي أو العقدي أو السياسي بغض النظر عن مصدرها. ومع ذلك فإن الثقافة التي سعى ابن رشد في المثال المشار إليه إلى جعلها مقبولة في الحضارة العربية الإسلامية، التي كانت قد بلغت أوجها آنذاك، توطنت فعلاً لكن ليس بالقدر أو بالعمق الذي وجدته العلوم البحتة أو العلوم التطبيقية.

لو نظرنا ملياً في كتاب ابن رشد لوجدناه يقول في بداية كتابه المفصلي “فصل المقال”: “فإن الغرض من هذا القول أن نفحص، على جهة النظر الشرعي، هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع؟ .. أم محظور؟؟ أم مأمور به، إما على جهة الندب، وإما على جهة الوجوب؟؟” ثمة قضية كبيرة مطروحة إذاً منذ الكندي والفارابي وابن سينا، ومنذ هاجم أولئك وحذر منهم أبو حامد الغزالي في كتابه الشهير “تهافت الفلاسفة”. ذلك الكتاب كان، كما هو معروف، موضوع رد لابن رشد في كتاب “تهافت التهافت”، لكن الأمر ظلَّ بحاجة إلى دفاع وتبيان، ليس أمام هجوم فقيه وعالِمٍ كالغزالي، وإنما أمام غضب الحكام وجهل العامة. ومع أن ابن رشد لم يلق ما لقيه ابن المقفَّع من تعذيب وقتل فإنه لقي رفضاً وحرقاً لكتبه في ما عرف بنكبة ابن رشد التي كان مردها، حسب المفكِّر المغربي محمد عابد الجابري، غضب السلطان الموحدي المنصور أبي يوسف يعقوب في أواخر القرن الثاني عشر الميلادي مما رأى أنه تدخل سياسي مرفوض. غير أن ذلك لم يقلِّل من مفصلية كتاب ابن رشد ومحاولته تجسير الفجوة بين ثقافتين أو حضارتين في منطقة يرى كثيرون أنها فجوة غير قابلة للتجسير، ورأى ابن رشد، كما رأى قبله فلاسفة المسلمين، إمكانية تجسيرها بل ضرورة ذلك. والذي يبدو أنها فجوة لم تتجسّر تماماً حتى اليوم على الرغم من جهود المفكرين العرب، فما زالت الفلسفة من الحقول التي لم تزدهر في الثقافة العربية كما ازدهرت في بلادها الأصلية، اليونان، أو في أوروبا منذ عصر النهضة. فلا تزال الثقافة العربية بلا فلاسفة، ومناهج التعليم في بعض البلاد العربية تخلو من الفلسفة أو تقدم اليسير منها.

لقد مضى ألف عامٍ تقريباً منذ أن سعى ابن رشد لتأصيل الفلسفة في الثقافة العربية، لكن ذلك المسعى لم يحتج في أوروبا إلى وقت طويل، لم يحتج إلى كل ذلك الوقت ليتأصّل من جديد.

لقد مضى ألف عام تقريباً منذ أن سعى ابن رشد لتأصيل الفلسفة في الثقافة العربية، لكن ذلك المسعى لم يحتج في أوروبا إلى وقت طويل، لم يحتج إلى كل ذلك الوقت ليتأصَّل من جديد. كانت المفارقة هي أن الثقافة التي تردَّدت في تقبل الفلسفة وقاومت ازدهارها عملت كالحاضنة لها بانتظار الأوروبي الذي يعيد استنباتها في التربة الأوروبية. ففي عصر ابن رشد كانت الأندلس تعج بالطلبة الأوروبيين الذين جاؤوا ليتلقوا ما سمي عندئذٍ العلوم العربية ومنها الفلسفة اليونانية التي كان العرب مترجميها والمعلقين عليها والمضيفين إليها. وكان من بين أولئك الطلاب شاب إنجليزي اسمه أديلارد الباثي (نسبة إلى مدينة باث البريطانية). وتحوَّل ذلك الشاب إلى عالِمٍ فذٍّ من علماء أوروبا. ألف كتاباً عنوانه “مسائل طبيعية” Questiones Naturales، تضمَّن كثيراً مما وجده من علوم العرب التي كانت تُعدّ علوماً حديثة في أوروبا وإنجلترا بشكل خاص.

وكان مما تضمَّنه ذلك الكتاب المفصلي الأرقام الشائعة اليوم في الغرب، التي تعرف بالهندية وأحياناً بالعربية. وبالإضافة إلى ذلك الكتاب، قام أديلارد بترجمة كتاب إقليدس إلى اللاتينية عن الترجمة العربية. فلم يكن أصله اليوناني معروفاً آنذاك. ومن هنا مارس كتاب العناصر دوره المفصلي مرة أخرى، لكن عن طريق نص عربي هذه المرة. ويبدو أن أديلارد لعب في الكتابين، المؤلف والمترجم، دوره الحاسم في نقل ما ساعد أوروبا على النهوض العلمي في عصر كان اللاهوت أثناءه يسيطر على العلوم والجهل يضرب أطنابه في كل مكان.

كتب شكَّلت جسوراً بين الحضارات
في الفترة نفسها تقريباً، كانت أوروبا تتداول كتاباً آخر اتضح أنه مفصلي أيضاً. إنه كتاب “ديسيبلينا كليريكاليس” أو “قواعد كهنوتية” لبطرس ألفونسي وهو يهودي إسباني اسمه الأصلي، أي قبل تنصره، موسى السيفاردي. انتشر الكتاب باللاتينية، لغة الثقافة والعِلْم في أوروبا آنذاك، ولكن يُقال إنه كتب بالعربية أًصلاً. وهو كتاب يشبه كتاب ابن المقفَّع من ناحية واحدة فقط، هي أنه يتضمَّن حكايات قصد منها العبرة. تلك الحكايات جمعت كما يبدو من مصادر شفاهية شرقية استمد الناس منها معرفة بالشعوب الشرقية. بلغت تلك الحكايات أربعاً وثلاثين حكاية. ويقول عنها الباحث الألماني إبيرهارد هرمس في مقدِّمته للترجمة الإنجليزية للكتاب (1970) إنها جاءت من مصادر عربية ذكر بعضها. كما أشار، في ملاحظة مهمة أيضاً، إلى أن حكايات الكتاب جاءت على عكس الأعمال الشعرية الملحمية آنذاك مثل الملحمة الفرنسية “أنشودة رولاند” و”السيد” الإسبانية، بعيدة عن الحروب والعنف وتشويه المسلمين. تمحورت الحكايات حول الحياة المدنية وما يتصل بها من تعاملات وعلاقات.

ففيها نجد التاجر بدلاً من المحارب الذي كان يملأ فضاء أوروبا بحروبها لا سيما الحروب الصليبية التي كانت مستعرة آنذاك. لقد رأت أوروبا من خلال ذلك الكتاب المفصلي أيضاً العرب والمسلمين في حياتهم اليومية وفي حكاياتهم المليئة بالأمثال والحكم، رأت ثقافات عربية إسلامية تعج بالتعاملات الإنسانية اليومية، بالصداقات، بالمشكلات، بالنجاح والفشل، وما إلى ذلك مما لم تظهره الأعمال التي تهاجم الإسلام أو تشوهه الدعاية الكنسية فتتلقف ذلك المخيلة الشعبية الساذجة. في “قواعد كهنوتية” ظهر الشرق مسالماً وإنسانياً. وكان هذا ما تكرَّر إلى حدِّ ما بعد قرون حين عرفت أوروبا حكايات شرقية أشهر منها، وهي ألف ليلة وليلة، الكتاب المفصلي الآخر الذي سيطول الحديث عنه لو شئنا ذلك.

ظهور الشرق الإسلامي تحديداً بمظهره الإنساني المنفتح على العالم لم ينحصر بطبيعة الحال في كتب الحكايات، وإنما شمل كتباً احتاجها العالم، فشكلت مفاصل أخرى. من تلك على سبيل المثال فقط كتاب “القانون في الطب” لابن سينا وكتب ابن الهيثم في البصريات وغيرها كثير. ومنها أيضاً كتب ابن رشد نفسه التي ترجمت إلى اللاتينية وانتشر إثر ترجمتها في أوروبا أتباع لذلك الفيلسوف عرفوا بالرشديين طاردتهم الكنيسة في العصور الوسطى حتى اجتثتهم أو كادت، ذلك أن أثر ابن رشد استمر في تاريخ الفلسفة الأوروبية لدى فلاسفة مثل سبينوزا في القرن السابع عشر الذي يرى بعض المؤرخين تأثره بالفيلسوف المسلم. وقد وقف المؤرخ الفرنسي رينان في أواسط القرن التاسع عشر عند ذلك الأثر الرشدي في رسالة للدكتوراة عنوانها “ابن الرشد والرشدية”.

إن الحديث عن الكتب التي تحوَّلت إلى مفاصل أو جسور حضارية يستدعي السؤال حول الكتب المهمة التي لم تتحوَّل. ذلك سؤال حول الاختيارات الحضارية التي تجعل ثقافة تختار من ثقافة أخرى ما تريد وتترك ما لا تريد، وهو موضوع كبير لكنَّ المجال يضيق عن التوسع فيه.

فبدلاً من الدخول في ذلك الفضاء الواسع، لعل من الأفضل أن ينتهي هذا الحديث بالإشارة إلى العصر الحديث، إلى النهضة العربية وأحد الكتب التي لعبت دوراً مفصلياً في تحقيقها. إنه كتاب لعب دوراً كبيراً في نقل الغرب إلى الشرق، أوروبا إلى العالم العربي الذي كان، حين انقلبت الآية وانعكست الأمور، يحاول في القرن التاسع عشر النهوض من سباته. ذلك كتاب رفاعة الطهطاوي “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” الذي يعود إلى أواسط القرن التاسع عشر والذي كتبه صاحبه من واقع البعثة المصرية الأولى إلى أوروبا في عهد محمد علي. في ذلك الكتاب الذي جاء مؤشراً على انقلاب الصورة تماماً، حيث كان الشرق العربي بحاجة ماسة للتعرف إلى عالم سبقه كثيراً في مضمار الحضارة وجاء الطهطاوي ليبشِّر به وينقل صورة تغلب عليها الانبهار بتقدّم الفرنسيين وحاجة مصر والمسلمين للتعلُّم منهم. كان كتاب الطهطاوي مفصلياً من هذه الناحية فهو الجسر الذي كان سباقاً إلى تمرير كثيرٍ من التفاصيل حول الحياة في أوروبا: فقد كان شاهد عيان ينقل حياة الفرنسيين: كيف يحيون وما الذي أنجزوه وأنجزته أوروبا بشكل عام من علوم وآداب ونظم اجتماعية وإقتصادية وسياسية. ولم تكن تلك الصورة مجرد وصف بل تضمنت التحليل والتقويم والمقارنة التي لم تكن في صالح المسلمين في المجمل مع دعوة لتبني ما يمكن أن يعجل بالنهوض.

أضف تعليق

التعليقات