حياتنا اليوم

مقارنة بين نموذجين..

صورة الغذاء
في أدب
الأطفال

تؤثِّر ثقافة المجتمعات في نواح عديدة من حياة أفرادها. ويظهر أثر ذلك جلياً في العادات والتقاليد والسلوكيات والقيم الاجتماعية لتلك المجتمعات. كما يظهر أثر هذه الثقافات أيضاً جلياً في الأدب بشكل عام وببصمات أبرز في أدب الطفل. فأدب الطفل ينطلق من فهم احتياجات الطفل في مجتمع ما ليُبنى حوله خيال أو سرد يقدّم للطفل في حبكات وقصص خيالية تثري عقله وتستثير مخيلته. ولذا، يقتنص أدب الطفل من ثقافة المجتمع الأساسيات التي يبنى عليها ذلك الخيال وتلك الحبكات. وفيما يأتي قراءة مقارنة بين قصتين عربية وأجنبية كتبتا للأطفال، محورهما الطعام، إلاَّ أنَّ ما تتكشفان عنه ينطوي على دلالات تستحق الإشارة إليها.

يُعد الطعام أو الوصفات الغذائية المختلفة جزءاً من هوية المجتمعات، لأنه يرتبط بعوامل جغرافية بيئية وزراعية، وأيضاً بالذائقة الخاصة بكل مجتمع. فعلى سبيل المثال يكثر تناول أنواع معيَّنة من الأطعمة والأغذية في دول ما، بينما تخفُّ في دول أخرى بحسب التأثير الجغرافي لتلك البيئات. فكل بيئة تنهج أسلوباً غذائياً مختلفاً عن البيئات الأخرى انطلاقاً من موقعها الجغرافي وما يرافقه من تأثير مناخي في توفر محاصيل زراعية معيَّنة أكثر من غيرها. ومن هنا فلكل مجتمع وصفات غذائية يُعرف بها، كما أن بعض تلك الوصفات يقترن بمناسبات معيَّنة. و تتلازم تلك الوصفات بعادات سلوكية في أسلوب وطريقة الإعداد والتقديم والتفاعل الاجتماعي. يمكن الإضاءة على الاختلافات الاجتماعية والفنية والثقافية من خلال المقارنة بين قصتين من قصص الأطفال التي تتناول الغذاء كمتغيِّر أساسي في القصة، إحداهما من المجتمع العربي وأخرى من المجتمع الغربي.

هناك بعض النقاط المشتركة بين هاتين القصتين. أولى تلك النقاط أن كلتا القصتين نالتا رصيداً من الاستحسان. فالقصة الأولى هي قصة “أمي تُحِبُّ الفتّوش” للكاتبة إيفا كوزما التي فازت بجائزة الشارقة لفئة أفضل نص قصصي في دورته 2014 لقصص الأطفال. والقصة الأخرى هي “كيف تصنع فطيرة التفاح وترى العالم” للكاتبة مارجوري بريسمان التي نالت استحساناً كبيراً من القارئ الغربي. كما أن المشترك الآخر هو أن القصتين تناولتا الغذاء وبشكل خاص طبقاً شعبياً معروفاً قي أوساط هذين المجتمعين كل على حدة. فـ “الفتّوش” يُعدّ من الأطباق الأساسية عند شعوب دول البحر المتوسط، وامتدت شعبيته إلى معظم الدول العربية، كما هو الحال بالنسبة إلى طبق “فطيرة التفاح” الذي يُعد طبقاً مهماً في المجتمع الغربي.

قصة “أمي تُحِبُّ الفتّوش” للكاتبة ايفا كوزما من القصص القليلة في العالم العربي التي تتناول طبقاً شعبياً كمحور أساسي في عرض قصة للأطفال. ومن الجميل أن الكاتبة انطلقت في عرض فكرة القصة (قيمة الإيثار والتضحية عند الأم) عبر تعريف الطفل بكيفية عمل الفتوش. انطلقت القصة على لسان بطلتها إن صح تسميتها بذلك أو الشاهدة على الحدث وهي البنت، وهي تصف كيفية عمل والدتها للفتّوش. توضح البطلة الخطوات التي قامت بها أمها عارضة لبعض مواصفات الخضراوات التي استخدمتها الأم مثل الألوان .. الأحمر والأخضر أو الأشكال مثل الطويل والمستدير. بدأت البطلة بقولها “قطعت أمي البندورة الحمراء والخيار الأخضر وقطعت الخس والبصل… ” وتواصل بطلة القصة وهي “البنت” واصفة الخطوات التي استخدمتها الأم لعمل الفتوش انتهاءً بـ “وسكبت عصير الليمون والخل والزيت” ثم “خلطت أمي الفتّوش وسكبته في… وزيّنته بالخبز المحمص”.

وجرياً على عادة المجتمعات العربية التي تحبذ تقديم تلك الأطباق أثناء التجمعات الاجتماعية، أوضحت بطلة القصة دعوة الأم للجيران وأفراد البيت لتناول طبق الفتّوش. وأظهرت الكاتبة عبر تلك المشاهد اندماج الجميع وتفاعلهم مع الطبق، إلاَّ أنَّ الهدف الأساسي للقصة لم يكن تعليم الطفل أو توصيل معلومات حول طبق الفتّوش، وإنما كان إظهار ما أدركته بطلة القصة (إن صح التعبير) لاحقاً حينما كبرت، أن أمها تحب الفتّوش لكنها تؤثر الآخرين على نفسها.

القصص العربية ما زالت تتعامل مع الطفل وفق مفاهيم ضيِّقة بسيطة، تقتصر على بيئة ضيِّقة وطرحٍ محدودٍ.

أما في قصة “كيف تصنع فطيرة التفاح وترى العالم؟” انطلقت الكاتبة من صوت بطلة القصة التي كانت هي المحور الأساسي في القصة، وبدأت بالقول إن عمل طبق التفاح أمر سهل جداً لأنه بحاجة إلى إحضار جميع المقادير المطلوبة من السوق ثم خلطها وبعد ذلك طبخها وتقديمها للآخرين. لكن المشكلة بدأت بعبارة “إلَّا إذا كان السوق مغلقاً!”. ومن هذه العبارة انطلقت الكاتبة بالطفل عبر دول مختلفة في العالم لإحضار المقادير الضرورية لعمل الفطيرة، موضحة الخطوات على عدة مراحل تبدأ بمرحلة ما قبل السفر بإعداد حقيبة السفر، وعمل قائمة المشتريات المطلوبة لإعداد الفطيرة مع لبس حذاء مناسب. تبدأ الرحلة بركوب السفينة إلى أوروبا، ابتداءً بإيطاليا التي تصل إليها في وقت الحصاد. وهناك من الممكن أن تجمع قمح السميد. بعدها إلى فرنسا لجلب البيض. وهكذا تواصل بطلة القصة عرضها لجلب مكوّنات الفطيرة من دول العالم المعروفة بـأفضل إنتاج من محاصيل زراعية معيّنة.

أضاءت بطلة القصة في رحلتها الخيالية لجلب مكونات الفطيرة على البيئة الجغرافية لبعض تلك الدول، فمثلاً، عند جلب القرفة من غابات سريلانكا، نراها تصف البيئة المحيطة بشجرة القرفة وكيفيِّة التعامل معها. ثم واصلت حديثها (وهي المتكلم الأساسي في القصة) قائلة: “حينما مرَّ القارب بجمايكا توقف هناك لجلب السكر…”. وهكذا تواصل بطلة القصة سردها، التي تعرض عبره اقتراحاتها على الطرف الثاني في ما يجب القيام به لعمل فطيرة التفاح، إلى أن ينتهي الترحال بها في ولاية فيرمونت الأمريكية لجلب أفضل أنواع التفاح. وتنتهي الحكاية بتقديم الطبق مع الآيسكريم. لكن ماذا في حالة عدم وجود الآيسكريم والسوق مغلق؟.

اختلاف كبير في الأسلوب
لقد طرحت كلتا الكاتبتين طريقة عمل طبق غذائي يُعد من الأطباق الشائعة في كل من المجتمع الغربي والمجتمع العربي. إلَّا أنَّ أسلوب طرح الطبقين اختلف اختلافاً كلياً. ففي الوقت الذي التزمت قصة “أمي تحب الفتّوش” بأسلوب العرض البسيط من غير تقديم أية تفاصيل مهمة عن المواد المستخدمة في عمل الطبق سوى الشكل واللون، قدَّمت قصة “كيف تصنع فطيرة التفاح وترى العالم” كثيراً من المعلومات للطفل، مثل: الدول التي تُعرف بإنتاج أفضل أنواع قمح السميد والبيض والحليب والقرفة وغيرها. كما تعرّف الطفل من خلالها على عدد من أنواع وسائل النقل كالسفينة والطائرة والقارب وغيرها.

في القصة الغربية حبكة قصصية أعمق

من ناحية أخرى، فإن الحبكة القصصية هي ذات تأثير كبير على طريقة عرض القصة في كلتا القصتين. ففي قصة “أمي تُحِبُّ الفتّوش” لم تطرح الكاتبة حبكة قصصية واضحة، وإنما استهلَّت القصة بوصف عمل الأم من غير معرفة السؤال الأساسي للقصة. ولم نعرف هل اكتشاف البنت لاحقاً حب أمها للفتّوش هو النقطة الجوهرية في القصة، أم صناعة الأم لهذا الطبق وإيثار الآخرين على نفسها كان الهدف الأساسي من القصة، أو الرسالة التي وجَّهتها الكاتبة إلى الطفل؟ وهل الفتوش يمثِّل للطفل طبقاً غذائياً مهماً يدرك الطفل عبره عنصر الإيثار والتضحية التي قامت بها الأم؟ وبسبب افتقاد حبكة واضحة وعميقة في القصة افتقدت القصة المسار الواضح تجاه تفكيك الحبكة وإثارة الطفل.

أما قصة “كيف تصنع الفطيرة..؟” فقد بدأت بمقدِّمة بسيطة حول طريقة عمل الفطيرة، إلا أنها لم تكتفِ بتقديم هذه الوصفة للطفل، بل حملته إلى عالم مملوء بالمغامرة والتحدي والمعرفة، حيث يقف الطفل متسائلاً: ماذا بعد؟ وفي غمرة تساؤلاته واستفساراته، يتدفَّق كثير من الصور مشحونة بخبرات معرفية تنقل الطفل من بلد إلى آخر، وتقدِّم للطفل شيئاً من المعرفة عن تلك الدول في إنتاج المواد الغذائية التي كانت المكوَّن الأساسي لصنع الفطيرة. وبذلك مهَّدت حبكة القصة للكاتبة طريقاً واضحاً نحو حلحلة الحبكة بطريقة تلقائية. كما أنها شحنت الأحداث بحبكات جانبية قدَّمت عبرها حلولاً فيها كثير من الصور التي بلا ريب استثارت مخيلة الطفل. فعلى سبيل المثال، وبسبب قابلية البيض للكسر، يصبح من الأفضل إحضار دجاجة. أو بدل جلب كوب أو كوبين من الحليب من أبقار إنجلترا، يصبح من الأفضل جلب بقرة للحصول على حليب طازج. وأخيراً قدَّمت خطوات عمل الفطيرة من المكونات الأساسية لها كاستخراج الزبدة من الحليب أو الحصول على الملح من ماء البحر، الذي وضع في القارورة أثناء عبور البحر إلى جامايكا في قارب صغير. وأخيراً، لعبت الخارطة دوراً جميلاً في تتبع سير الأحداث بين الدول، من أجل جلب المكونات الأساسية لعمل الفطيرة.

اختلاف المستوى ضمن الفئة العمرية الواحدة
كلتا القصتين توجهتا إلى الأطفال في الفئة العمرية نفسها من حيث المضمون، إلَّا أنَّ قصة “كيف تصنع الفطيرة وترى العالم” كانت أعمق من حيث اللغة، وأطول في عدد الصفحات وكمية المادة المكتوبة والمعلومات المقدَّمة للطفل. وهذا مؤشر يدل على أن الطفل العربي ما زال متأخراً عن الطفل الغربي في مستوى المادة المقروءة. وبما أن قصة “أمي تحب الفتُّوش” من القصص التي فازت بإحدى أهم الجوائز العربية في مجال أدب الطفل في العالم العربي، فإنما يشير الأمر إلى أن القصص العربية ما زالت تتعامل مع الطفل وفق مفاهيم بسيطة ومحدودة، وتقتصر على بيئة ضيِّقة.

 

أضف تعليق

التعليقات