الثقافة والأدب

محمد علوان المنقسم بين الرياض وفانكوفر
سقف الكلام وسقف الكفاية!

  • 83
  • 85

حين صدرت رواية (سقف الكفاية)، العام الماضي، اعتـُبر كاتبها أصغر كاتب رواية سعودي. لكن الوسط الثقافي المحلي لم يحتفل بالرواية تشجيعاً لابن الثلاثة وعشرين ربيعاً؛ وإنما لأن العمل كان على درجة حقيقية من النضج. وسرعان ما وقعت الرواية تحت مجهر النقد الجاد الذي صادق على أهميتها ضمن الواقع الثقافي والاجتماعي العام.
القاص جعفر الجشي؛ يتناول الرواية، مركزاً على محورها العام، ويحاول فهم التجربة الذاتية لدى محمد حسن علوان..

تبدو “سقف الكفاية” وكأنها سقف لرؤيتنا للأشياء. ويبدو الراوي وكأنه رسَم خطاً أحمر نستطيع من خلاله تشخيص واقعنا دون أن يكون لنا فسحة أخرى غير هذا السقف. ومهما حاولنا أن نبدو متجاوزين لحدود الواقع فإن ثمة اصطداماً ما سيحدث..! الحب واحدٌ من القضايا الحساسة التي نتلمسها في أكثر الأعمال الروائية السعودية التي صدرت في السنوات العشر الماضية. وفي “سقف الكفاية” يصرخ هذا الوتر بكل التفاصيل. أما المكان فله خصوصية طاغية في الرواية، وناصر بطل الرواية (أو قل قيس إن شئت) هو حبيب مها تلك الفتاة التي تركت في ضميره غيرة وكمداً لأنها فضلت غيره عليه. ويعلم أن مها ليست من نصيبه، ومع ذلك فإنها حين تزوجت لم يصدق نفسه وبقي طيلة الرواية يعاتبها ويحلم بأنها ملكه هو. ولما يئس، حزم حقائبه وسافر إلى (فانكوفر) بكندا لاتمام دراسته.

البوح والنزف والشعر ثلاثية متلازمة طوال 400 صفحة، ولئن كانت الرياض (الجزء الأول مكاناً) أحداثاً وقعت وانتهت، وتزوجت فيها مها تاركة ناصر يعاشر واقعه المر، فإن فانكوفر (الجزء الثاني مكاناً آخر) أصبحت الجرح الأكبر، ففيها يلفظ ذكرياته القاتلة مع كل فنجان قهوة، وكل حوار مع (ديار) ذلك الصديق العراقي الذي صاحبه طوال فترة بقائه في فانكوفر قبل أن يرحل إلى لندن في نهاية الرواية. بقيت مها في كل مسافة يخطوها نحو الجامعة أو السوق بل وحتى في كل كلمة مع جارته المشلولة (مس تنغل) التي قضت نحبها، فيما بعد، دون أن يلتفت إليها أحد. تلك الجارة حاولت مواساته وتهدئة مشاعره، لكنها لم تفلح، وإنما أججت ناره وجعلت مها حاضرة في كل آهة يزفرها أو نظرة إلى الوراء يرمقها.
الشخصيات من أجل الغائبة
استطاع الراوي أن يوظف كل شخصيات العمل من أجل مها وناصر، بل من أجل مها وحدها. فوالده المتوفّى كان حاضراً للمقارنة مع مها، ولكونه رحيماً جاءت الرحمة لمها، وكونه عطوفاً استلّ العطف قلب مها، ولأنه ترك ابنه ناصر صغيراً فإن مها تركته أيضاً وهو صغير على الحب. فهو لم يحب سواها ولم يعرف غيرها.

وحين يتذكر جدته فإنه يربطها بمها ويحاول أن يُسقط كل حياته معها ومع مكابدتها من أجله ومن أجل أخواته إلى أن ماتت ولم يمت حب مها من قلبه. وأمه أيضاً تلك المتبتلة التي لم تفارق صورته مخيلتها وظلت طوال فترة بقائه في الغربة تصلي وتدعو له، صارت حاضرة في حياته من أجل استحضار مها ليرينا كيف كان يتجاوز رقابتها وحرصها عليه ويسرق الوقت ويذهب للقائها. عندما يرن جرس الهاتف وتكون أمه تحادثه ينهي المكالمة بسرعة ثم ينطلق لتلك المكالمة السريعة التي افتتح بها الرواية. تلك المكالمة القصيرة التي لم تتجاوز عشراً من الثواني ولم يكن هو قد رد عليها وإنما كانت مسجلة. تلك المكالمة التي جاءت افتتاحية وظلت تلاحقه حتى النهاية.

الفتاة تطارده..!
ظل ناصر في فانكوفر على مدى قرابة 250 صفحة يحاول علاج ذاكرته المخضبة بالعشق الفاشل، ولكنه بدلاً عن ذلك أخذ في جلد ذاته، وظل يقتات على فتات ذلك الحب ظناً منه أنه يشفي غليله، ظل يعاتب المحبوبة الغائبة الحاضرة على نسيانها له وتجاهلها إياه وبقائها في حضن غريمه متجللة بالصمت راضية بالمصير، غير حاضرة في أوراقه سوى بصورة الماضي. ذلك الماضي الذي استحوذ على العمل بأكمله، ولم تكن مها تقوى على الحضور لأن دورها كان قد انتهى يوم أن تزوجت سالم.

وديار الذي ملأ حياة ناصر طوال أربع سنين أصبح الشخصية الوحيدة الحاضرة معه ومع الراوي، فلم يكن هناك مجال للذاكرة وفانكوفر هو المكان الوحيد في الرواية رغم قلة الأمكنة الذي مارس حضوره فيها طوال الصفحات، بينما الرياض ومها ظلتا قادرتين على العطاء من خلال خيط بسيط في ثقب من ذاكرة لشخص يدعى ناصر، ابتكره الكاتب ليسطر تلك الملحمة من الحب الفاشل. أربع سنوات قضاها ناصر في الغربة محاولاً الابتعاد عن مها، وبدلاً عن ذلك صارت أكثر قرباً منه، أكثر ألماً، أكثر حرقة، أكثر انصهاراً. وقد حاول أن يهرب من مها بتسطير أحداث مرت على ديار كعراقي في المهجر. وكعراقي مرت عليه حقب من الظلم والاضطهاد..

ماتت مس تنغل الجارة الحنونة ذات الستين عاماً التي كانت تؤنس وحدته وغربته وآوته في منزلها وشاركته بعض الهموم فأحس بالمزيد من الوحشة. تدهورت صحته حتى كاد يقضي على نفسه وبصعوبة استطاع تجاوز الأزمة في المستشفى. كان ديار يهزأ منه كعادته ويقول له بأن امرأة لم تخلق لكل هذا الجنون مبدياً رغبته في السفر إليها وإخبارها بهلاك حبيبها من أجلها. كان ديار صادقاً في دعواه لكن ناصراً ظل في ضلاله القديم يغار عليها حتى من دعوة صديقه الحميم، وهي التي تزوجت بآخر.

تلك التي كانت..!
انقضت أغلب صفحات الرواية ولم تظهر مها. لم تحاول أن تشفي غليل ناصر أو رغبة القارئ في التعرف على ذلك النمط من النساء، ليبقى المتلقي يوجه تهمته الكبيرة للكاتب بأنه أبقى السارد مهيمناً على كل جزئية في الرواية، فما الذي أدرانا أن ناصراً لا يكذب وأن كل الأحداث ملفقة وأنه هو من ابتكر تلك الشخصيات الرجالية التي كانت تنافسه؟ هل كان ناصر (والكاتب) يرغب في تفرد من نوع ما؟ ليوهمنا بأنه البطل الهمام، وأنه ذلك النوع من الرجال العصاميين الذي يحتفظون بهزيمتهم لوحدهم؟ لماذا لم يعط مها الفرصة لتقول كلمتها؟ لماذا سجل النزف كله على لسان ناصر وحده؟ ليس لنا سوى أن نكون رقباء ومشاهدين، وعلى ناصر أن يتحمل نتيجة بوحه ونتيجة تفرده.

هل كان صادقاً حينما قال في النهاية الجنائزية «حان الوقت لأغير ملامحي، حان الوقت لأقتلع مها من عيون الدنيا، وأعيدها إلى قلبي.. وانتظرتُ أياماً حتى تبرد عاطفتي من حرارة البوح، ثم حمل البريد روايتي إلى بلد بعيد، لم أكن بالغه.. إلا بشق الكتابة..! بعد شهر كنت أجلس في المجلس الصغير الذي كتبت فيه الفصول الأخيرة، أكنس المكان وراء ذاكرتي بهدوء عندما دخلت مها..».

هل نصدق أنها مها الحقيقية داخل الرواية ولماذا اكتنزها حتى الحرف الأخير؟ إنها لعبة الرواية، فإن كان هناك سقف لنهايتنا، فمتى نعرف أن هناك نهاية لسقف الكلام؟

———-

سطور من سقف الكفاية

فهمتُ – بعد سنوات – أنها لم تكن تشعُرُ بي في مداراتها اليومية، أشياءُ لصيقةٌ جداً بي، البحر هنا.. والثلج هناك.. الأرصفةُ التي تمشي ونحن واقفون، مقود السيارة الذي يُشكِّلُ الطريق، شرفةُ المنـزل التي تغرُبُ عن الشمس، ملابسي التي تبتلُّ فوقها السماء، وأنا أيضاً.. لم أكن أشعُرُ بنفسي !.

وأنا أيضاً لم أكن أشعر بنفسي مع ديار!، كانت أعصابي ترتجفُ في داخلي، أشعلنا سيجارتين معاً هذه المرة، وانسَحَبَ الدخانُ إلى رئتيه بقوة، وظلَّت لفافتي تأكلها النار على مهل.. لم أكن أستعجِلُ موتها، ربما كرهتُ أن أسلِّم للريح ضحيةً أخرى!.. قلتُ بهدوءٍ قَلِقْ..
– 
لن تتـــركَ الأشـــياءُ واجــباتها الكـــونية من أجلنا يا ديار!.
– 
أدركتُ هذا متأخراً للأسف، وبقيتُ لسنتين أهربُ من وجهٍ لا أراه، ولكني أظنـُّه يطاردني منذ لفظني العراق، حاولتُ أن أستعيد نفسي من هذه الأشياء .. ولكنَّها كانت تجهلُ أين تَرَكتني آخر مرة!.

وقفنا لنمشي، سبقني هو بخطوات، ووقفتُ أنا لأتأمَّلَ قامته من الخلف..

هذا الصاري الملقى هنا منذ انتفض الجوع!، كم من الأعاصير تقاذفته موجةً بعد موجة.. حتى وصل إلى هذا الشاطئ!، وكم من صهواتِ الحزن، كان عليه أن يمتطي حتى يقف هنا يوماً ما ؟!.

مشيتُ معه..
ربما كنتُ أحتاج ذاكرةً أخرى .. وبلداً آخر، أنا الذي التحفتُ بالغربة قبل أن يفقِدَ قلبي حزنه، وقبل أن أجفَّ في صحراء بلادي، قررتُ أن أركُمُ كلماتي على بعضها قبل أن يستفحِلَ الصمتُ في جسدي !.
يقول..
– صار حزنكم أيضاً ترفاً تستمتعون به!، كأنك لم تفارِقْ وطنك يوماً وأنت تعلم أنك لا تقدر أن تعود إليه.. ستحملك الريحُ بعيداً.. قبل أن تجرِّب حدَّاً من الألم، وقَدْراً من البرد، يُعلِّمك كيف تنسى هجرتك المترفة هذه .. وتعودَ إلى وطنك !.

في عينيه ثمَّةُ عطف، ولكنَّ كلماته قاسية.. تعوَّدتُ عليها قليلاً، لأن هذا ليس هجومه الأول، لعدةِ مراتٍ التقينا في مقهىً كبير خلف شارع «روبسون» في فانكوفر، وفي كلِّ مرةٍ كانت تهاجمني عيناه.. حتى تعارفنا .. فاتَّخَذَ لهجومه أسلحةً أخرى..

كان عربياً .. بنظراته..
يتوجَّسُ الحذر .. ويغلِّفه بحفاوةٍ تشبه التحدي، وكــان لا يحتاجُ إلى أكثر من نظراتي ليفهم أني وحيد، أجلسُ في هذا المقهى لأكتب درساً أو أنجز عملاً، هارباً من شقتي التي تُلبِسُني ثوب الوحدة، لاجئاً
إلى من لا أعرفهم.. ولا يعرفونني.. (….)

كنتُ أتأمله وهو يُفرِغ أكياسَ السكّرِ في قهوته، ثم يحرِّكها ببرود، ويحمِلُ الكوب بين يديه، وتنقبض ملامحه وهو يرشِفُ رشفةً كبيرة، ثم يترك الفنجان المنهك، ويشعِلُ سيجارته ويعتدل.. ليكسِرَ نظرتي البلهاء !..

يبدو صلباً، وأنا فقدتُ هذه الحالة الفيزيائية منذ أتيت !، عينه اليسرى تنكسِرُ قليلاً لتترك في نظرته ازدواجاً ما.. يظهر أكثر وضوحاً إذا نظر إلى ما هو أدنى، مثلي تقريباً!، وسامته مُرْهَقَةٌ جداً، بذقنه التي لم تحُلَق منذ أيام، وخصلاتِ شعره الكثيف المتناثرة على جبينه، وشفتيه السمراوين من أثر التبغ !..

ذلك اليوم، شعرتُ أنَّ معركةَ النظراتِ ليست في صالحي، هَرَبَتُ من تحدِّيه، وتركتُ مكاني ذاك، وعُدْتُ في المساء التالي لأجده في نفسِ المكان، ونفسِ الهيئة التي تركتُهُ فيها البارحة، كأنه نام هنا!، شعرتُ تلك اللحظة أني بهيئتي الجديدة التي أتيتُ فيها، والطاولة الأخرى التي اخترتها أبعد من طاولة الأمس قليلاً، أبدو نشازاً في ثباتِ اللوحة !..

الفصل الرابع، ص 150 – 153

———-

محمد حسن علوان
من مواليد مدينة الرياض،
في 72 أغسطس 9791م.
يحمل بكالوريوس في نظم
المعلومات، من كلية الحاسب الآلي،
جامعة الملك سعود بالرياض،
ويعمل في أحد المصارف السعودية.
يكتب القصة القصيرة، والشعر.
و(سقف الكفاية) هي عمله الروائي
الأول. وقد نشرتها دار الفارابي
البيروتية عام 2002م.
له موقع على شبكة الإنترنت
يستعرض فيه نصوصه الشعرية
والقصصية. وعنوانه:
http://www.alalwan.com

أضف تعليق

التعليقات