عين وعدسة

مزيج فريد من القِدَم والحداثة

إطلالة على متحف سرسق في بيروت

ElevationbyNightبعد العمل على تجديده وتوسعته لنحو سبع سنوات، أعيد مؤخراً افتتاح متحف سرسق في بيروت، ليشكِّل من جديد واحداً من أبرز المعالم في الوجه الحضاري للعاصمة اللبنانية، وأقوى نقاط الجذب فيها على المستوى الثقافي، فبمجموعاته من الأعمال الفنية، القديمة منها والمعاصرة، وبحيوية برامجه ونشاطاته التفاعلية، يتفرَّد هذا المتحف بمكانة تضعه بجوار مكانة المتحف الوطني، دون منافس قريب إليهما.

يقع هذا المتحف، واسمه الرسمي «متحف نقولا إبراهيم سرسق»، في الشارع المعروف في بيروت باسم «حي السراسقة». وإن كان لا بدَّ لأي زائر أمام أي متحف من أن يبدأ زيارته باستطلاع مبناه وتاريخه والسؤال عنه، فإن هذا السؤال يصبح أمام هذا المتحف بالذات أشد إلحاحاً. فمبناه الأنيق ذي المعمار الذي تختلط فيه الملامح العثمانية بالإيطالية، يختلف كل الاختلاف عن الأبنية الحديثة والشاهقة التي تكاد تُطبق عليه من ثلاث جهات.

تاريخ المتحف
IMG_0124خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، راح بعض وجهاء بيروت يبنون منازل فخمة على نمط الفلل الإيطالية، عند ما كان الطرف الشرقي لمدينة بيروت آنذاك. وبسبب طابع الأبهة الذي ميَّز هذه العمائر، أطلق عليها العامة اسم «قصور حي السراسقة»، ومن هؤلاء الوجهاء كان نقولا إبراهيم سرسق، باني هذا القصر عام 1912م.

IMG_0227لم يكن نقولا سرسق رجل أعمال وتاجراً ناجحاً فحسب، بل كان ذواقة ومحباً للفنون. فأوصى بنقل ملكية قصره ومحتوياته إلى مدينة بيروت، شرط أن تحوِّله إلى متحف للفنون الوطنية والعالمية، يساعد على نشر المعارف الفنية، ويدعم الفنانين اللبنانيين ويعرض أعمالهم ويروِّج لها. وبالفعل، انتقلت ملكية القصر إلى بلدية بيروت بعد وفاة صاحبه عام 1952م. غير أن وصيته لم تُحترم في بادئ الأمر. إذ أمر رئيس الجمهورية آنذاك كميل شمعون بتحويل القصر إلى مضافة رسمية لاستقبال الملوك ورؤساء الدول الذين يزورون لبنان. وكان على القصر أن ينتظر حتى عام 1961م، ليصبح متحفاً، افتتح بـ «معرض الخريف» الذي أصبح تقليداً سنوياً بعد ذلك. وتوالت فيه المعارض الكبرى المحلية منها والعالمية، من «الفن الإسلامي في المجموعات اللبنانية الخاصة»، إلى «الفن البلجيكي المعاصر»، مروراً بـ «السجاد الشرقي» وغير ذلك مما يصعب إحصاؤه. وراح المتحف يبني شيئاً فشيئاً مجموعاته الخاصة.. واستمر نشاطه حتى خلال سنوات الحرب الأهلية الحالكة.. إلى أن كان عام 2008م، عندما تقرر إقفاله مؤقتاً لتجديده وتوسعته.

IMG_0035توسعته خمسة أضعاف!

أوكلت إدارة المتحف أعمال التجديد والتوسعة إلى المعماريين ميشال فيلموت الفرنسي وجاك أبو خالد اللبناني. وتضمَّنت أعمال التوسعة بناء أربعة أدوار تحت المبنى القائم دون المسّ به، الأمر الذي شكَّل تحدياً هندسياً بالغ الصعوبة، ولكنه ضاعف مساحة المتحف أكثر من خمس مرَّات، من 1500 إلى 8500 متر مربع. ومن المرافق الجديدة التي أتت بها التوسعة، قاعة للمعارض المؤقتة تبلغ مساحتها 800 متر مربع، وقاعة محاضرات تتسع لنحو 160 شخصاً، ومخزن للمجموعات الدائمة، ومكتبة، وورشة للترميم، وأيضاً متجر ومطعم.

مجموعاته الخمس
يمتلك متحف سرسق اليوم خمس مجموعات مختلفة يعرض منها بشكل دائم ما تسمح به المساحات المخصصة للمعارض الدائمة في أدواره العليا (فوق سطح الأرض)، وهذه المجموعات، هي:

• مجموعة نقولا سرسق، الذي ترك إضافة إلى القصر مجموعة من المفروشات والأدوات التزيينية والأعمال الفنية التي اقتناها في حياته، أو تلقاها كهدايا.

_MG_0185• المجموعة الشرقية، التي تضم تحفاً من الفن الإسلامي القديم، وصولاً إلى العثماني المتأخر، إضافة إلى الأيقونات البيزنطية.

• مجموعة فؤاد دباس، التي تتألف من نحو 30 ألف صورة فوتوغرافية للشرق الأوسط تعود إلى ما بين عام 1830 وستينيات القرن العشرين.

_MG_0362• مجموعة الفن الحديث والمعاصر، وتضم أعمالاً لفنانين عالميين ولبنانيين، ومن بينهم على سبيل المثال عمر أنسي، منى صحناوي، جوليانا سيرافيم، عارف الريِّس، سلوى روضة شقير، شفيق عبود، محمد روَّاس، بول غيراغوسيان، حليم جرداق، خليل زغيب… وغيرهم العشرات. ومن الأعمال الشهيرة التي تضمها هذه المجموعة على سبيل المثال، تمثال «الباكيتان» لأول نحَّات لبناني محترف هو يوسف الحويك، الذي كان معروضاً في ما مضى في ساحة الشهداء في وسط بيروت.

وإضافة إلى ما تقدَّم، يمتلك المتحف ما يُعرف باسم «المجموعات الخاصة» التي تضم من جملة ما تضم مجموعة من أعمال الطباعة الحفرية اليابانية، التي قدَّمتها سفارة اليابان هدية للمتحف بعد إقامته معرضاً خاصاً لهذا الفن.

IMG_0111مجموعاته الصغيرة.. كبيرة
بتنوع مقتنيات متحف سرسق ما بين الفن الإسلامي القديم والفن التشكيلي المعاصر مروراً بالكثير غيرهما، يخرج هذا المتحف عن صفة التخصص التي تطبع بعض المتاحف، كمتاحف الفن الحديث، أو متاحف الآثار. ولكن هذه المجموعات تبقى أقل تنوعاً وكماً من أن تصفه بـ «الموسوعية» التي تميِّز المتاحف الكبرى التي تزعم عن وجه حق، أو غيره، إحاطة محتوياتها بأبرز ما في ثقافات العالم. ومع ذلك، فإن مساحته رغم التوسعة، لا تزال أصغر بكثير من أن تستوعب ما يتجاوز الجزء اليسير من هذه المجموعات.

_MG_0048ففي الدورين الأول والثاني، يعرض المتحف بشكل دائم مجرد «مختارات» من مجموعته من الأعمال الفنية المعاصرة. وحالياً، فإن معرض «السماع من خلال العدسة» المقام في الدور الأول حتى 18 أبريل ويضم مختارات من مجموعة فؤاد دباس الفوتوغرافية، يأتي بعد معرض تحت موضوع مختلف هو «تصوير الهوية» المستمد من المجموعة نفسها. الأمر الذي يضفي على هذا المتحف حيوية، تعززها النشاطات الدورية من محاضرات وجلسات نقاش وورش عمل.

توليفة تختزل شخصية بيروت

_MG_0277خلال زيارتنا لهذا المتحف قبل أسابيع قليلة، شاهدنا إضافة إلى معارضه الدائمة، معرضاً بعنوان «نظرات على بيروت: 160 سنة من الرسوم 1800 – 1960»، الذي أقيم في القاعة الكبرى تحت المبنى القديم. وضمَّ هذا المعرض أكثر من 200 صورة فوتوغرافية ورسماً ولوحة زيتية حول تاريخ بيروت المعماري بتلونه الشديد. وما بين حداثة القاعة الحاوية للمعرض، وقِدَم محتويات هذه المعروضات يتكوَّن في ذهن الزائر «المزاج» نفسه الذي يتضح أكثر فأكثر بمتابعته جولته على أرجاء المتحف.

IMG_0012فواحدة من أكثر قاعات هذا المتحف جذباً لانتباه الزائرين هي «الصالة العربية» التي تقع في الدور الأول من مبنى المتحف، والمميزة بالكسوة الخشبية المزخرفة التي تغطي جدرانها وسقفها والمستقدمة من دمشق في عشرينيات القرن الماضي، وقد يتماشى الذهاب بوجداننا إلى ما كانت عليه الفنون الحِرفية والتصميم الداخلي آنذاك، مع الذهاب إلى ما كانت عليه الحياة اليومية لرجل أعمال من خلال المكتب الشخصي لصاحب القصر المجاور لهذه الصالة، الذي حافظ على ما كان عليه بكل ما فيه من مفروشات ومحتويات حتى بلاط أرضه. ولكن على بُعد أمتار نقف أمام أكثر الأشكال حداثة في الفن التشكيلي أو أمام تحف تعود إلى مئات السنين.

_MG_0398إنه القليل من كل شيء.. في مقتنياته كما في مبناه.. القديم يجاور الجديد، والعثماني يجاور اللبناني، كما يحضر الأوروبي قليلاً في الفنون المعاصرة، ولا بأس في استقبال شيء من اليابان، والصور الفوتوغرافية «تكمل» المجموعة الشرقية.. وفي هذه التوليفة الفريدة من نوعها ما يختزل شخصية بيروت. فبيروت هي هكذا.. مثل هذا المتحف.

تصوير: جو كسرواني / رجا طويل

أضف تعليق

التعليقات