قول في مقال

ما بين العلمي والعاطفي

في إحدى كتاباته يستعرض فرويد المراحل التي مرَّت بها الجماعات لإنتاج الوعي، فيقسِّمها إلى ثلاث مراحل: العقل الطفولي والعقل الفلسفي والعقل العلمي. فيعطي مثلاً عن العقل الطفولي الذي ولدته المجتمعات البدائية، حيث كان الفرد يظن أنه برسمه للوشوم على وجهه سيكتسب قوة خارقة، أو إنَّ ارتداءه لملابس معيَّنة سيغيِّر من طبيعته.
المرحلة الثانية هي العقل الفلسفي، هذا العقل يعترف بالعالم الخارجي واستقلاليته، لكنه يصر على تفسيره من خلال معادلاته العقلية الداخلية. ويصر هذا العقل على تفسير الوجود كلّه بحسب القوانين التي وضعها مسبقاً.
والمرحلة الثالثة هي العقل العلمي، الذي يبني رأيه ومعلوماته على التجربة والنتيجة، ويبني ما يراه حقائق على المعطيات الخارجية والتجربة والبرهان.
التطوُّر الزمني للعقل عبر الجماعات كما يصفه فرويد بشكل أفقي، يماثله تطوُّر عامودي عبر الزمن على مستوى الفرد. فالفرد في الطفولة يدور حول حاجاته، هو لا يعي غير ذاته ويعيش في عالم خيالي منفصل جزئياً عن الواقع. ثم يبدأ في المراهقة بإنتاج وعيه العاطفي الذي يُدرك الآخر، لكن انطلاقاً من رغباته العاطفية وحاجاته النفسية. وصولاً إلى الوعي العلمي الذي يتفتح عند الفرد عند نضجه واعترافه بالعالم ككيان منفصل له قوانينه وحقائقه.
العلاقة جدلية بين الفرد والمجتمع، فنحن نستطيع استنتاج الوعي الفردي عبر تحليل الوعي الجماعي والعكس صحيح.
وإذا أجرينا مقارنة بين المجتمع الغربي ومجتمعاتنا العربية لوجدنا أن “الأنا العقلي” هو مصدر الوعي عند الفـرد الغربي. وهذا يعود لأسباب كثيرة تحتاج إلى مقال آخر لشرحها. بينما عند الفرد العربي نجد “الأنا العاطفي” هو مصدر الوعي. وهذا يرسم شكل المجتمع على مختلف الصّعد.
فعلى سبيل المثال، ثمة برنامج تلفزيوني كَنَدي ناجح جداً وجماهيري على نطاق واسع، يعالج في كل حلقة موضوعاً تجارياً، وهو مطعَّم بعديد من الإحصاءات والوقائع والأحداث. ففي إحدى الحلقات مثلاً، يذكر كيف نشأت السوبرماركت الكبيرة في المراكز التجارية، ويذكر أن الإحصاءات أثبتت أنه إذا كان الممر الذي يحوي البضائع ضيقاً بشكل يسمح بمرور عربتين للتسوق فقط، فهذا سيؤدي إلى زيادة المبيعات، بينما إذا كان الممر أوسع بشكل يسمح بمرور عدة عربات، سينخفض المبيع. وفي حلقة أخرى يشرح سبب تعثر إحدى أكبر شركات التجزئة في ألمانيا، فيقول إنه في أمريكا تعتمد سياسة المبيع على الوجه المبتسم للبائع، وهذا ما لا يلائم الألمان الذين يَعدُّون الابتسامة نوعاً من التحرش أو التودُّد الذي لا مسوِّغ له، ويفضِّلون التعاطي الجدي، كما أنهم لا يحبِّذون أن يساعدهم أحد في حمل الأكياس عكس الأمريكيين.
الإعلام مرآة المجتمع في نهاية الأمر. وهذا البرنامج مثلاً يسلِّط الضوء على المجتمع ويشرّحه عبر مدخل علمي مليء بالإحصاءات والأرقام والمعطيات العلمية. ببساطة، إنه يلبِّي حاجات الأنا العلمي.
أما في مجتمعاتنا، فالوعي العاطفي هو الحاكم. لذا يُقاس نجاح البرنامج بقدرته على مخاطبة عواطف المشاهد. فغالبية البرامج التلفزيونية الناجحة، أو الجماهيرية في البلاد العربية تسعى إلى إثارة عواطف المشاهد ومداعبة “أناه العاطفي”، فبعضها يسعى لإبكاء المشاهد، والآخر لإضحاكه، وعندما يصرخ المذيع غاضباً يتفاعل معه الجمهور، أو تراه يلعب دور الرومانسي (أو الرومانسية) فتذوب الجماهير حباً، وغير ذلك من القيم العاطفية التي يسعى وراءها الجمهور كالشجاعة والأصالة والنزاهة والجمال.
هكذا يحكم الوعي العاطفي مجتمعاتنا، فينتج قيمه، والأمثلة كثيرة خارج الإعلام أيضاً.

أضف تعليق

التعليقات

حسين الاسمري

مقال جميل جدا
وياليت تزودنا باسباب ومؤثرات (الانا العفلي) لدى العرب