أدب وفنون

لماذا كل هذه الرحلات
إلى ما وراء الحقائق؟

العوالم
الأدبية
المتخيلة

العالم كما نعرفه وندركه يضيق عن المخيلة الإبداعية التي لا تعرف حدوداً. ولمّا كان العالم المحسوس محدوداً، كان الأدب خير ملجأ للمخيلة لتمارس نشاطها وتختبر حدودها في كل مرة. تدهشنا على الدوام قدرة الأدب، وخصوصاً السرد، على تجاوز حدود الزمان والمكان، على البقاء عبر الأجيال، وما هذه القدرة إلا نتيجة لعدم اعترافه بالحدود المرسومة للعالم المحسوس، واعتماده على طاقة هائلة تمكّن الكاتب من ابتداع عالم قد يكون بديلاً عن العالم الذي يعيشه الإنسان. فالعوالم التي ولّدتها المخيلة الأدبية تقترب وتبتعد من عالمنا حسب طبيعة العمل الأدبي والفكرة التي ألهمته.

إن الأدب في جوهره سفرٌ عبر الحدود، يستطيع القارئ بفضله أن يتعرَّف على عوالم جديدة، أزمنة وأمكنة لم تكن في حسبانه يوماً من الأيام. والأديب، إذ يصنع عالماً خاصاً، يحاول ما استطاع أن يؤسس منطقاً فريداً يقوم عليه العالَم المتخيَّل. وللأدباء طرق شتى في هذا الشأن. فمنهم من يبني عالمه الخيالي وفقاً لفكرة إيديولوجية معيَّنة يمتحن من خلالها أهليّة تلك الفكرة بعيداً عن علاقات الواقع المعيش. ومنهم من يهندس نظاماً تقنياً متقدماً وسابقاً لعصره، ومنهم من يشيد فضاءات لا ترتهن إلى قوانين الطبيعة الفيزيائية، ومنهم من يجري تعديلات طفيفة على مسار التاريخ، وهكذا. كل هذه حيل يتخذها المؤلِّف في إقناع القارئ بمنطقية العالم الذي يلج إليه حين القراءة، ويعزِّز تلك المنطقية من خلال اختراع أسماء للمدن والأشياء التي تؤثث تلك العوالم المتخيلة، بل يصل الأمر عادة إلى توصيف أدق التفاصيل كالروائح والأصوات وما سواها. إذاً، لا بدّ من تواطؤ بين الكاتب والقارئ على التسليم، أو على الأقل التظاهر بالتسليم، بوجود عالم لا وجود له في حدود الواقع. وربما نجح كاتب ما في إقناع قارئه بوجود عالم يبدو أكثر واقعية من العالم الذي يعيشه القارئ بالفعل. وقد يجوز تعريف الأدب عموماً على أنه اختبار الممكن وتوسيع الواقع بواسطة اللغة والكلمات. في المجمل، يمكن القول إن هناك عوالم لا وجود لها في غير المخيّلة، عوالم وجدت أسلافها في الأسطورة وفي الحكاية الخرافية وفي الفولكلور. بعضها اخترع في محاولة فهم الواقع، وبعضها اخترع في محاولة انتقاد الواقع وتغييره، وبعضها اخترع لاستكشاف أفضل ما في النفس البشرية أو أسوأ ما فيها، وبعضها اخترع في سبيل المتعة المحضة التي يعِد بها الخيال الحرّ.

من “أليس في بلاد العجائب”
إلى “التاريخ الهزلي لسكان القمر”

لعل أشهر العوالم المتخيلة في الأدب هو العالم الذي صنعه لويس كارول في رواية الأطفال الكلاسيكية “أليس في بلاد العجائب” (1865). لا يتطلب الأمر في هذا الكتاب سوى أن تسقط فتاة تقرأ كتابها متململة عبر جحر أرنب كي تبلغ عالماً فانتازياً ساحراً تعيش فيه أليس مغامرات عجيبة نشأت على قراءتها ومشاهدتها سينمائياً أجيال لا تحصى من الصغار والكبار على حدٍّ سواء. وإذا كانت رواية “دون كيخوته” (1605-1615) التي كتبها الإسباني ميخيل دي سيرڤانتس في مطلع القرن السابع عشر أول رواية أوروپية حديثة كما يعدّها كثيرون، فإنها نسجت أحداثها في “إقليم لا مانتشا” الأرض التي يختلط فيها الواقع بالخيال، ويعبرها بطل الرواية في مغامراته البطولية والفروسية والرومنسية الخائبة.

أما الفرنسي سيرانو دي بيرجيراك فسطّر ما يعتقد أحياناً أنه أولى قصص الخيال العلمي على الإطلاق، وذلك في رواية “التاريخ الهزلي لسكان القمر” (1657) التي اشتهرت فيما بعد بعنوان آخر وهو “رحلة إلى القمر”. بعد أن اتهمت روما المنادين بأن الكون متمركز حول الشمس من أمثال غاليليو بالهرطقة، أراد دي بيرجيراك أن يدعم أقوال المدانين عبر تخيل قصةٍ تحدث على سطح القمر المأهول بالسكان. لقد تصوّر الكاتب رحلة فانتازية إلى القمر تتبعها قصة تدور بين سكان القمر الأصليين وخمسة من البشر في عالم مليء بالعناصر المختلفة عما يألفه إنسان القرن السابع عشر. منها أن سكان القمر يتغذون على روائح الأطعمة التي يطهونها ويتعاملون بالشَّعر في معاملاتهم التجارية، فقصيدة “سوناتة” مثلاً بإمكانها أن تشتري طعام عشاء الفرد لمدة أسبوع كامل. وفي المجمل، يحيا سكان القمر حياةً رغيدة يسودها الاحترام، حيث تحيتهم فيها الجلوس، وأقصى عقوبة فيها أن يُترك الإنسان ليموت ميتة طبيعية بسبب تقدم العمر.  ألهمت قصة دي بيرجيراك كثيراً من العلماء والأدباء. وظهرت ملامح التأثر بها في أعمال كثيرة لاحقة أهمها كتاب “رحلات جيلفر” (1726) للكاتب الإنجليزي جوناثان سويفت، الذي يتتبع رحلات المستكشف ليمويل جيلفر إلى جزر بعيدة سكانها إما أقزام بحيث يبدو جيلفر بينهم عملاقاً، وإما عمالقة بحيث يبدو جيلفر بينهم قزماً.

عند هيكسلي..
وسيلة لتمرير أفكار؟

عندما يتخيل أديبٌ ما عالماً خاصاً فإنه لا يطمح إلى إشباع حاجة محضة قوامها الفانتازيا والغرائبية. بل إنها عادة ما تكون حيلة يستطيع من خلالها الكاتب تمرير أفكار قد تكون صادمة أو جريئة أو خطيرة، وربما أفكار لا يمكن مناقشتها على ضوء المعطيات المحسوسة للعالم الواقعي. فعلى سبيل المثال، تخيّل الروائي البريطاني ألدوس هيكسلي في “عالم جديد شجاع” (1932) مستقبَلاً على بُعد ستمئة عام أو يزيد، يذوب فيه الفرد كلياً لصالح المجتمع. كانت رواية هيكسلي استجابة للثورة الصناعية الأمريكية، وتحديداً خطوط إنتاج السيارات، ولذا استفادت في تمرير رسالتها من تقنيات الإنتاج الهائل، واستخدام الهندسة الجينية للتدخل في توجيه التطور البشري للتعبير عن قوة بطش الدولة في عالم شمولي لا يرحم. وتناقش الرواية احتمالات استخدام العلم استخداماً بشعاً، حتى غدت أكثر الممارسات حميمية تمارس بطريقــة آلية عديمــة الشعور. كما جاء أبطال الرواية مسيّرين لأداء أدوار محددة سلفاً لا يملكون ذرّة شجاعة في أن يحيدوا عنها أو يتحدّوها.

تفلت النشاط الإبداعي..
قوانين الواقع وظروفه

ومثلما كان الحال مع “أليس في بلاد العجائب” استطاع ج.ر.ر. تولكين أن يقدّم في “سيد الخواتم” (1954) واحداً من أكثر العوالم الأدبية المتخيلة إثارة على الإطلاق. كان تولكين قد بدأ كتابة الرواية الملحمية لتكون كتاباً موجهاً للأطفال لكنه انتهى به الحال ليكتب رواية فانتازية ملحمية استغرقت كتابتها أكثر من عشر سنوات، تقع أحداثها في منطقة سماها الكاتب “الأرض الوسطى”، ووقع في غرامها القرّاء بسبب ما لها من تضاريس فريدة ومخلوقات عجيبة استحقت إعجاب من قرأها على الورق أو شاهدها مجسدة على الشاشة. ما من شك في أن إدراكنا يقصر عن استيعاب العالم المحسوس. ولذا نجد في الخيال الأدبي فرصة لتعويض قصورنا، من خلال تقريب البعيد والتعريف بالغريب. إضافة إلى ذلك، يأخذنا الأدب إلى ما هو أبعد من حدود عالمنا على رغم اتساعه. لقد استنطق الإنسانُ الحيوانَ منذ البدء مثلاً، وحرّك الساكن، وشيّد البناء العصيّ على الإدراك، وطوى رقاع الأرض بسرعة لا تصدق، وبنى عوالم تخيلها بناءً  على تصورات مثالية، وخلق ظروفاً كارثية تتبع سيناريوهات نهاية العالـم، كل ذلك في سبيل ممارســة نشاطه الإبداعي الذي لا تحـدّه القوانين والظروف التي تحكم عالمنا المحسوس.

المعالج النفسي ستيفن فلين
يحلّل قصة بياض الثلج

يمكن العثور على قصة بياض الثلج في جميع مناطق العالم بتنويعاتٍ طفيفةٍ، من إيرلندا إلى آسيا الصغرى، وفي أجزاء عديدة من شمال وغرب إفريقيا. نحن نتعامل إذاً مع حكاية تعني الكثير للبشر، وتستمر في الإدهاش كأسطورة. ربما يتوجب إذاً أن نمنح أهمية أكبر لهذه الحكايات البسيطة. ربما “لُفِّقت” فقط لتظهر لنا شيئاً عن أنفسنا، وربما تكون هذه الحكايات البسيطة، مثلما اعتبرها كارل غوستاف يونغ، “التعابير اللاواعية عن ذواتنا”…
يبدأ التماثل بالظهور حين نقرأ كيف ماتت الملكة أثناء ولادة طفلتها، وكيف أن زوجها “الملك اتَّخذ لنفسه زوجة أخرى” بعد موتها. هذه هي الإشارة الوحيدة لوالد بياض الثلج. إنه أب متخاذل لأنه يفشل كلياً في حماية طفلته من الأيدي الأثيمة لزوجته الجديدة. يشترك هذا الرمز الأبوي المتخاذل مع حكايات سندريلا وربما ليلى والذئب التي لا يبدو أنها تمتلك أباً على الإطلاق. العامل المشترك بين هذه الحكايات هو أنه لا يمكن إكمال الجانب السلبي (الأب المهمل).

يمكن القول إن هناك عوالم لا وجود لها في غير المخيّلة، عوالم وجدت أسلافها في الأسطورة وفي الحكاية الخرافية وفي الفولكلور.

حاولتُ أن أُظهر أن حكايات الجنيات تحمل كثيراً من السمات التي تنسب عادة إلى الأسطورة الكلاسيكية. ولكون الأمر هكذا، أقترح أنها تحتاج إلى أن تؤخذ على محمل الجد كمجسِّدة لنماذج اللاوعي البدائية الأصيلة في النفس. فمثلاً في قصة كهذه موجّهة للأطفال يمكننا أن نرى ملامح الحسد والغيرة، ثم هناك الأمل بأنه في النهاية ينتصر الخير على الشر، وأن الفتاة الفقيرة بين الأقزام تعود أميرة بعد زواجها بالأمير، وهذه رسائل تصير حلم كل فتاة مراهقة أي أن يأتي الفارس المنتظر على فرسه ليحملها إلى عوالم الأحلام.
ثم لا يقصد الأدب الشعبي الذي تناول قصة بياض الثلج حول العالم وبصيغ مختلفة أن يأخذ الأطفال في رحلة عذاب وشقاء فتاة بسبب إهمال والدها لها، ووفاة أمها المبكرة، فهذه رسالة مباشرة وواضحة، ولكنه يريد للأطفال أن يفهموا أن الحياة فيها مشقات بعد رغد، وفيها رغد بعد شقاء، وأن الناس ينقسمون بين أشرار لا يريدون لنا الخير وأخيار يساعدوننا ويدعموننا.

مختصر بياض الثلج
جلست ملكة شابة تحيك بجانب نافذة في أواسط الشتاء. فوخزت إصبعها، وبرؤيتها للدم الأحمر تمنّت أن يكون الطفل ذا بشرة بيضاء كالثلج، بخدود حمراء كالدم وشعر وعينين سوداوين. فأنجبت ابنة تحمل الصفات التي تمنّتها الملكة، لكن الملكة نفسها ماتت أثناء الولادة، فتزوج الملك بعد سنة، وكانت ملكته الجديدة بارعة الجمال، ولكنها كانت مختالة متكبرة، اعتمدت على مرآة سحرية لتؤكد لها تفوقها في الجمال.
حين كانت بياض الثلج في عمر السبعة أعوام، قالت المرآة السحرية للملكة إنّ ابنة زوجها فاقتها حُسناً؛ فاستشاطت الملكة غضباً، وأرسلت صياداً برفقة بياض الثلج إلى الغابة ليقتلها. لكنّ الصياد لم يستطع أن يجبر نفسه على تنفيذ أمر الملكة، لذا ترك الفتاة في الغابة. عن طريق المصادفة، عثرت بياض الثلج على كوخ الأقزام السبعة، حيث استُقبلت بحفاوة مقابل اعتنائها بالمنزل. وقرَّر الأقزام الاعتناء بها بعد أن سمعوا قصتها. مضى كل شيء على ما يرام حتى اكتشفت زوجة الأب أن بياض الثلج لا تزال على قيد الحياة. قامت زوجة الأب بثلاث زيارات لمحاولة قتلها وبدتْ وكأنها نجحت في المحاولة الرابعة عندما ناولتها تفاحة مسمومة. ولما عاد الأقزام إلى البيت وجدوا جسد بياض الثلج عديم الحياة؛ فوضعوها في تابوت زجاجي حيث بقيت جميلة مثلما كانت دوماً. بعد مدة، مرّ أمير على صهوة فرسه، فوقع في حب بياض الثلج، وأقنع الأقزام بأن يعطوه الجسد والتابوت. وحين حملها إلى فرسه، سقطت قطعة التفاحة المسمومة من فمها، وعادت إلى الحياة.
أخذ الأمير بياض الثلج معه إلى القلعة، حيث تزوجا وسط فرح غامر. وقتلت زوجة الأب، الملكة، نفسها في نوبة غضب في العُرس.

أضف تعليق

التعليقات