اطلب العلم

كتابة العلم في علم الكتابة!

كم من قارئ شكا في السر أو العلن من عدم قدرته على فهم مقال ما، سواء أكان في العلم أو حتى في الاجتماع والآداب. وفي الغالب يعزو القارئ ذلك إلى نقص لديه في مواكبة المفاهيم أو الاكتشافات أو عدم تخصصه في الحقل الذي يتناوله المقال. وقد طرحت مجلة “نايتشور” Nature هذه المسألة لتبين أن عدم الفهم كثيراً ما ينشأ عن سوء الكتابة. وطرحت مثلاً على ذلك مجموعة من الجمل التي تبدو مستعصية على الفهم للوهلة الأولى، ثم أعادت كتابتها بشكل سليم وبسيط لتبين أن الصعوبة ناشئة عن علّة في الكاتب وليس في القارئ. ولاحظت أن تدريب العلماء على الكتابة العلمية غير مدرج في برامج التعليم الجامعي.

وتحاول بعض المجلات الالتفاف على هذه الصعوبة بأن تطلب من المؤلف أن يكتب ملخصاً مبسطاً لمقالته يتفادى فيه التعابير غير المألوفة وذلك تسهيلاً لاستيعابها من القراء. وكانت المجلة نفسها قد أجرت بحثاً مقارناً بين المجلات العلمية والصحف اليومية امتد لمائة عام معتمدة قياساً علمياً طوره أحد العلماء في جامعة كورنيل. وتبين من هذه الدراسة أن الفارق في مدى صعوبة فهم المقالات العلمية بدأ بسيطاً وأصبح اليوم شاسعاً للغاية. وهذا ما جعل الكثير من العلماء يُبدون قلقاً على مستقبل الكتابة العلمية.

وحقيقة الأمر هي أن صعوبة الفهم لا تنشأ دائماً عن سوء التعبير أو صعوبة الموضوع بذاته، إنما عن ميل لدى بعض الكتاب إما لاستعراض عضلاتهم الكتابية أو محاولة إيهام القارئ بعمق الموضوع. ومن أشهر الوقائع في هذا المجال ما فعله عالم الاجتماع الكبير سي. رايت ميلز في كتابه “التخيّل الاجتماعي”، حيث خصص فصلاً من الكتاب لإلقاء الضوء على نظريات اجتماعية كانت رائجة في ذلك الوقت تعرف بالنظريات الكبرى Grand theories، فأخذ مقاطع من أهم كتاب تلك المدرسة، إذا قرأتها يصعب عليك فهم أي شيء منها. ثم أعاد ميلز كتابة كل مقطع بلغة بسيطة، تقرأه فتفهم المقصود، ثم تعود فتقرأ المقطع الأصلي وإذ بك قادر على تتبع الأفكار. ويتضح من هذا أن الصعوبة مفتعلة بشكل فاضح، وأنها محاولة لإعطاء أفكار عادية عمقاً مصطنعاً!

كان الناقد الفني الفرنسي المعروف رينه هويغ يردد دائماً أن للفلسفة لغتها الخاصة ولعلم الاجتماع لغته الخاصة وللنقد الفني لغته الخاصة أيضاً. واستعمال التعابير الفلسفية أو الآتية من علم الاجتماع، في مقالات نقدية أو أدبية يجب أن تكون بسيطة وواضحة، لا يؤدي سوى إلى ضياع المعاني وخسارة القارئ.

وأخطر ما في هذه الممارسات عزوف القراء عن القراءة في مواضيع كثيرة ربما من أبرزها في صحافتنا العربية كتابات النقد الأدبي والفني التي تحولت نسبة كبيرة منها إلى استعراضات في التركيبات اللغوية المعقدة والفارغة من أي مضمون حقيقي. وإذا كانت هناك اليوم حملة إنسانية عامة للعودة إلى القراءة فربما يترتب علينا أن نبدأ أولاً بالعودة إلى الكتابة.

أضف تعليق

التعليقات