الثقافة والأدب

قراءة في برنامج أرامكو السعودية الثقافي
بعد التأسيس لنموذج يُحتذى
مزيد من الانفتاح على آفاق المعرفة.. عالمياً

  • MJD_6289
  • MJD_6844
  • MJD_7002
  • MJD_7283
  • MJD_7958
  • MJD_9043
  • MJD_9108
  • MJD_8656248
  • shsh
  • shshsh
  • 5
  • 11
  • 31
  • 42
  • cover page (2)
  • DSC01724
  • DSC01738
  • MJD_83rere55
  • MJD_4433
  • MJD_4826
  • MJD_5237
  • MJD_5794

ليس اليوم، بل منذ سنوات، أكد «برنامج أرامكو السعودية الثقافي» أن عملاق صناعة الزيت والغاز نجح في أن يؤسس أنموذجاً يُحتذى من نماذج المهرجانات الثقافية. أنموذج كانت تتضح معالمه أكثر فأكثر سنة بعد سنة، حتى تفلت من مواجهة التقييم سلباً أم إيجاباً، لينحصر الحديث عنه في قياس نجاحاته في هذا الجانب أو ذاك، أو في مجال المقارنة مع نجاحات السنوات السابقة.
أما برنامج خريف العام الجاري الذي قدَّمته أرامكو السعودية من خلال ذراعها الثقافية، مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي، فإنه، وإن قام على الأسس نفسها تقريباً التي قامت عليها برامج السنوات السابقة، فقد حوى من التفعيلات والمستجدات ما ينتقل به إلى آفاق غير مسبوقة في اتساعها، ليس من المبالغة على الإطلاق القول إنها عالمية. عبود عطية الذي جال على أجنحة هذا البرنامج أكثر من مرة، يعرض هنا قراءته لهذا الحدث بأبرز ما فيه من دلالات، وكثير منها، يندرج في صلب عديد من القضايا التي تشغل المعنيين بالعمل الثقافي، ليس على مستوى المملكة فحسب، بل على المستوى العربي، وربما، وعلى الأرجح، على ما هو أبعد من ذلك.

من على الطريق السريع الذي يصل الظهران بمدينتي الخبر والدمام، بدا الموقع كقرية صغيرة قائمة على أرض منحدرة تعج بالألوان والحركة. إنه المشهد نفسه الذي طالعنا خلال تقديم برنامج أرامكو السعودية الثقافي خلال صيف العام الماضي. فمن على تلك المسافة لم يكن من السهل رصد أي اختلاف.

الاختلاف الأول لاحظناه عند المدخل، ويكمن في تغيير اسم البرنامج إلى «إثراء المعرفة»، الأمر الذي لم ندرك كنهه إلا في ختام زيارتنا. وعند المدخل وأمام لوحات إرشادية تشير إلى مواقع المعارض المختلفة والخدمات المساندة المنتشرة على مساحة 51 ألف متر مربع، كان سيل الزائرين يتفرع إلى مجموعات. بعضها يتجه صعوداً نحو خيمة «العروض الإبداعية» أو معرض «كفاءة الطاقة» أو معرض «ألف اختراع واختراع»، وبعضها يتابع سيره إلى «القرية التراثية»، أو يعرِّج شمالاً بأطفاله إلى «قرية السلامة المرورية» أو معرض «101 اختراع غيَّرت العالم»، أو من دونهم ليقف في طابور الانتظار أمام خيمة «مركز بومبيدو المتنقل»، حيث شكَّل معرض «ألوان نقية» الذي يضم عشرين عملاً فنياً لكبار أساتذة القرن العشرين، أكبر أطباق هذه الوليمة الثقافية العملاقة، علماً بأن باقي «الأطباق» لم تكن أقل أهمية بالنسبة إلى ذوي الاهتمامات المختلفة.

ولعل خير مدخل إلى الحديث عن مقوِّمات هذا البرنامج الثقافي الذي لا عهدة لنا بما يشبهه في المملكة ولا حتى في العالم العربي بأسره، هو القفز إلى الانطباعات التي يولِّدها في نفس الزائر والخلاصات التي يخرج بها، وإدراج بعض المشاهدات كأمثلة تؤكدها، لأن الوصف الدقيق لكل محتواه مستحيل حتى في مجلد، علَّ في ذلك ما يفسِّر نجاحه، وحجم الإقبال عليه الذي دفع بالمسؤولين عنه إلى استحداث جهاز لإدارة الحشود مهمته درء المخاطر أو حتى الإزعاج الذي يمكنه أن ينجم عن الازدحام، وخاصة في أيام وساعات الذروة.

جاذبية الجديد:
رسوم الأطفال ولوحات العمالقة مثلاً
إن كان تقديم جديد غير معروف لدى الجمهور هو المبرِّر الأول لإقامة أي نشاط ثقافي، فإن كل المعارض والورش التي تضمنها البرنامج لهذا العام حوت جديداً لا عهدة لنا به. (باستثناء حديقة السلامة المرورية الخاصة بالأطفال، التي تكررت هي نفسها نظراً لنجاحها الكبير، والإقبال الضاغط المستمر عليها).
فلو أخذنا حضور الفن التشكيلي في هذا البرنامج انطلاقاً من مسابقة أرامكو السعودية لرسوم الأطفال التي يعرفها الجميع منذ أكثر من ثلاثة عقود، لوجدناها تأخذ في هذا البرنامج منعطفاً جديداً. إذ اختير لها محور محدد بالشأن البيئي. وفي الخيمة التي تأوي المسابقة والمتسابقين كان يعرض شريط مصوَّر على الحاضرين. ثم يختار كل مشترك موضوعاً معيناً ليرسمه خلال 35 دقيقة. وعلى مسافة أمتار من خيمة رسوم الأطفال، كانت هناك خيمة العمالقة: معرض «ألوان نقية»، وهو معرض متنقل يضم عشرين تحفة فنية منتقاة بعناية من «متحف الفن الحديث» في مركز جورج بومبيدو في باريس، ويهدف إلى بلورة مكانة اللون في الفن المعاصر. والأسماء على الملصقات الصغيرة بجوار الأعمال طنَّانة رنَّانة: بيكاسو وإيف كلاين، وما بينهما سوتو وبارمجياني وجود وغيرهم من عمالقة الفن المعاصر العالميين الأمر الذي يشكِّل بمستواه هذا حدثاً هو بمكانته هذه الأول من نوعه في المنطقة والمملكة وعلى مستوى البلاد العربية.
وإن زعم أحدهم أنه سبق له واطلع على الرقص الشعبي الشركسي الذي احتضنته خيمة العروض الإبداعية لعدة أيام، (ونحن لم نلتقِ بمن زعم ذلك)، فلا أحد يمكنه أن يزعم أنه يعرف شيئاً عن مسرحية «ألف ليلة وليلتان» التي أنتجت خصيصاً لهذا البرنامج، كثمرة من ثمار «برنامج إثراء الفنون الأدائية والمسرحية»، الذي أطلقه مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي خلال الأشهر الماضية، بهدف تنمية المهارات المختلفة في مجال المسرح ومهنه المختلفة من تمثيل وإخراج وإضاءة وغير ذلك، يعاونه في مهمته هذه متخصصون من «مسرح الشباب البريطاني في لندن». وإن زعم أحدهم أنه يعرف جيداً تاريخ العلماء المسلمين، فمن الصعب جداً أن نجد بين الزوار من يستطيع أن يقدِّم مثل هذا الكشف الكامل للآثار التي تركها العالِم العربي ابن الهيثم على علوم الضوء والبصريات وصولاً إلى عصرنا الحالي.

المنتج المُتقن: الناس تعرفه بالفطرة
والواقع أن ثمة ملاحظة ترتسم في الذهن خلال زيارة خيمة «ألف اختراع واختراع». تحمل هذه الخيمة الاسم نفسه الذي حملته خيمة أخرى في برنامج العام السابق. وهو اسم مؤسسة عالمية مرموقة في تنظيم المعارض. ولكن تلك حَوَت معرضاً ضم إشارات خاطفة إلى مجموعة من العلماء المسلمين، في حين أن خيمة العام الجاري جاءت خاصة بابن الهيثم والأثر الكبير الذي تركته اكتشافاته في مجال العلوم البصرية والضوئية والفيزيائية. وأكثر من ذلك، فإن هذا المعرض صُمم ونُفِّذ بناءً على طلب من مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي، ومن شروطه أن يكون افتتاحه الأول في الظهران على أن يُنقل لاحقاً إلى بلدان أخرى. أول ما يطالعه الزائر في هذا المعرض، فِلم قصير مدته ثماني دقائق يُعرِّف الزوار الصغار (وربما الكبار أيضاً) بابن الهيثم وأهم اكتشافاته. وتكفي الإشارة إلى أن المؤدي الرئيس في هذا الفِلم هو الممثل العربي العالمي عمر الشريف، لندرك مدى «الإتقان».. إتقان كل شيء من التصميم العام إلى التفاصيل. والناس تعرف الإتقان بالفطرة، وهو ما يقودها إلى احترام العمل حتى ولو كانت غير معنية مباشرة بموضوعه العام، أو يخرج عن اهتماماتها الشخصية أو المهنية. صحيح أن هذا المعرض موجه أساساً إلى الناشئين الذين تُراوح أعمارهم بين العاشرة والخامسة عشرة تقريباً. ولكن عندما يكون المنتج على مثل هذا المستوى من الإتقان فإنه يسر الراشدين أيضاً، حتى أولئك الذين يعرفون سلفاً كل ما يقوله المعرض، إذا كان هناك من يزعم ذلك.
الأمر نفسه لمسناه في خيمة «علمية» أخرى، هي خيمة «101 اختراع غيَّرت العالم»، وهو معرض عالمي أيضاً أطلقته من أستراليا مؤسسة «غراندي إكزيبيشن». ويستعرض أهم الاختراعات في تاريخ الإنسانية منذ العصر الحجري وحتى اليوم. فبعد شاشات العرض العملاقة التي تتعاقب عليها صور هذه الاختراعات عشوائياً، يمكن للزائر أن يطلع عليها بمزيد من التفاصيل والترتيب عبر شاشات اللمس الموجودة في قاعة مجاورة ضمن الخيمة نفسها.
وغني عن القول أن تجليات الإتقان تبلغ ذروتها في معرض الفن المعاصر، حيث تصبح عبارة عن لائحة طويلة من الشروط التي يرتبط بها وجود هذا المعرض جملة وتفصيلاً من عدمه. ولائحة الشروط هذه هي من الصعوبة إلى درجة مُحبطة، قليلة هي الجهات في عالمنا العربي التي تجرؤ على التصدي لها. وليس أقلها حماية كل عمل فني في خزانة زجاجية ضمن حرارة محددة ومستوى رطوبة محدد، وإضاءتها في شكل محدد، وتخطيط تسلسلها وحمايتها من أي ظرف طارئ، وغير ذلك مما لا يُحصى من الاعتبارات والشروط التي كان يمكن للإخلال بواحد منها أن يلغي مشروع هذا المعرض برمته.
وفي ختام جولتنا على هذه الخيام بالذات، كنَّا قد لمسنا إضافة إلى الإتقان التقني (والمحتوى الباعث على التفكير في الدوافع إلى انتقاء هذه الاختراعات دون غيرها) حيوية تفتقرها عادة العروض المتحفية الجامدة، بفعل التفاعل ما بين الزوار والمعروضات، الأمر الذي يستحق التوقف أمامه.

التفاعل مع الفنون والتقنيات للإمتاع والتأثير في العمق
في سبعينيات القرن العشرين، وسعياً إلى إيجاد تأثير لبعض النشاطات الثقافية في نفوس المتلقين أكبر مما هو حاصل في المتاحف التقليدية والمناسبات الأدبية كالقراءات الشعرية وما شابه، ظهرت فلسفة جديدة في الترويج للمنتج الثقافي من خلال إشراك الجمهور فيه. وتطورت لاحقاً هذه السياسة في أوجه عدة من الحياة الثقافية والتربوية والإعلامية، وأثبتت جدواها حيثما كان تطبيقها ممكناً، في إضفاء حيوية ملحوظة على المنتج الثقافي وتعزيز وقعه في النفس، وأيضاً ردم الهوة ما بين المنتَج والمتلقي.
فالتفاعلية التي لمسنا طلائعها في الخيام العلمية من خلال شاشات اللمس وورش العمل الخاصة بالأطفال، حاضرة أينما كان تقريباً في كافة أقسام هذا البرنامج وأجنحته، وصولاً إلى المعرض الذي يُمنع فيه اللمس، ونعني بذلك معرض مركز بومبيدو المتنقل.
في هذا المعرض، كان الزوار يدخلون في مجموعات محددة العدد، ويجولون على الأعمال الفنية المعروضة بصحبة دليل متطوع ليشرح لهم أهمية هذه اللوحة أو ذاك التركيب. ويبدو أن إدارة البرنامج وعت مسبقاً كافة الأسئلة والمواقف التي قد تثيرها هذه الأعمال المعاصرة، فحرصت على تدريب الأدلاء على التفاعل مع الزوار. فلم يكتفِ هؤلاء بالشرح وتلاوة المعلومات، بل وجدناهم يحرصون على محاورة الزوار من خلال طرح الأسئلة عليهم مثل: ما رأيكم بهذا العمل؟ هل تجدونه صعباً أم لا؟ ما الذي يلفت نظركم أولاً هنا؟ … الخ.
التفاعلية نفسها وجدناها في صيغ مختلفة في كافة أرجاء هذا البرنامج. ففي معرض «كفاءة الطاقة» الهادف إلى نشر التوعية حول «أحد أكبر تحديات المجتمع السعودي وهو ارتفاع مستويات استهلاك الطاقة» وجدنا بجوار الرسوم البيانية والأرقام المثيرة للقلق، وأيضاً الأدوات المنزلية وطرق استخدامها السليم تلافياً للهدر، الكثير من العروض التفاعلية الشيِّقة خاصة للصغار الذين وجدنا بعضهم على دراجات وقد تحولت طاقتهم الحركية الجسمانية إلى كهرباء تضيء المصابيح أمامهم، وتظهر اختلاف حاجات مختلف أنواع المصابيح إلى الطاقة، من خلال اختلاف الجهد الجسماني الذي يبذلونه.
ويبلغ التفاعل ذروته وذروة إمتاع الصغار أيضاً في حديقة السلامة المرورية المخصصة لتوعية الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين السادسة والثامنة. ففي هذه الحديقة، يقتصر الجانب الوعظي على تعليم الصغار معاني بعض إشارات السير وغير ذلك من الأساسيات البسيطة، ويُدعى الطفل بعد ذلك إلى اجتياز امتحان من خلال قيادة سيارة كهربائية صغيرة على طريق يتخلله عدد من إشارات المرور المضيئة والمنعطفات وممرات المشاة وغير ذلك.. ليُعطى بعد ذلك «شهادة قيادة» يمكننا أن نتخيل وقعها على نفسه. ويقول المشرفون على هذه الدورة التدريبية إنه إذا حفظ الطفل مبدأً واحداً من المبادئ التي يتلقاها هناك، فسيكون الأمر عندها يستحق العناء.

تلامس الثقافة الجادة والترفيه
ابن الهيثم، بيكاسو وكلاين، الرقص الشركسي والمسرح الحديث، السلامة المرورية، وقضية هدر الطاقة.. من المرجَّح أن الصورة ازدادت غموضاً في ذهن القارئ الذي لم يزر هذا البرنامج الثقافي، لأننا اعتدنا أينما كان في البلاد العربية على المناسبات الثقافية المتخصصة في شأن واحد أو محور واحد. فمهرجان الجنادرية وسوق عكاظ في المملكة مثلاً هما للاحتفاء بالتراث، ومعرض الكتاب في الرياض كما في القاهرة هو للكتاب فقط، و«مهرجانات بعلبك العالمية» في لبنان هي للعروض الإبداعية فقط لا غير.. أما في هذا البرنامج فالخلطة تضم القليل (الممتاز) من كل ذلك تقريباً.. وصولاً إلى الكتاب، من خلال استضافة البرنامج لتصفيات مسابقة «أقرأ» وحفلها الختامي. وهي المسابقة التي أطلقها برنامج «إثراء الشباب» مطلع خريف هذا العام، وأرفقها بمسابقة في التصوير الفوتوغرافي استقطبت أولاً أكثر من 6000 لقطة، لترسو على 40 صورة مختارة، يمكن لزوار البرنامج أن يطلعوا عليها.
عن سؤالنا حول هذه الخلطة وسرها وعلى ماذا تقوم، يقول رئيس مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي المهندس فؤاد الذرمان: «إن للبرنامج دائماً منظومة رئيسة تتألف من أربعة محاور: محور الثقافة والفنون، ومحور العلوم والابتكارات، ومحور التوعية المجتمعية، وأخيراً محور الخدمات المساندة وخدمات الزوار. وكل برنامج نقدِّمه هو تركيبة من هذه المحاور الأربعة».
ويضيف: إن البرنامج يقوم على التعليم بالترفيه. ولأنه كان يُقام سابقاً خلال الصيف، كانت جرعة الترفيه فيه أكبر. أما هذه السنة فقد تقرر نقله إلى الخريف بسبب الرغبة في ربطه أكثر بالفترة الدراسية. ولذا زادت نسبة الشق التعليمي على الشق الترفيهي، فصار يمثل جوهر الإثراء المعرفي. ولهذا صار يحمل اسم «إثراء المعرفة» فوق اسمه القديم «برنامج أرامكو السعودية الثقافي».
والواقع أنه في زمن يروج فيه الفصل الحاد بين ما هو «ثقافي» من جهة، وما هو «ترفيهي» من جهة أخرى، وكأن الواحد نقيض الآخر، حتى ليبدو الأول جافاً متجهماً، والثاني ممتعاً ولكن من دون أي مضمون أو معنى، نرى أن هذا البرنامج تمكن من مصالحة الاثنين وجعل الواحد مكملاً للآخر.
لا رشوة ترفيهية بحتة لاستدراج الزوار إلى هذا البرنامج، كالألعاب النارية مثلاً، (وهي غير واردة أصلاً لأننا في منطقة صناعية)، ولكن هل يمكننا أن نصنِّف عرضاً مسرحياً لمواهب سعودية شابة عملت أشهراً على التدريب عليه وإنتاجه نشاطاً ترفيهياً؟ والرقص الشعبي المستقدم من ثقافة لا نعرف عنها إلا القليل، أهو ترفيهي بحت أم يحمل في طياته قيمة ثقافية ومعرفية كثيراً ما تكتفي بها بعض الجهات لإطلاق اسم «الثقافي» على نشاط لا يضم غير مثل هذه الفعاليات. فبموازاة انتقاء العروض الفنية والإبداعية الممتعة للعين والأذن والنفس، وتحمل في طياتها مضموناً ثقافياً ومعرفياً لا لبس فيه، نرى أن الشغف العاطفي الذي ميَّز تفاعل الكثيرين مع شؤون ثقافية وعلمية في غاية الجدية كما هو حال الأطفال مع فن الرسم أو السلامة المرورية، جرَّد هذه النشاطات من طابعها المدرسي الجاف الذي غالباً ما تتخذه وجعلها قريبة قليلاً من اللعب المفيد، بعبارة أخرى قريبة من الترفيه. الأمر الذي يمكنها من التغلغل عميقاً في ثقافة المجتمع الذي تتوجه إليه.

ما يقوله الناس: «مهرجان..»
والناس هم بالآلاف (وليس المئات) الذين يزورون هذا البرنامج كل مساء على مدى شهرين، وهم أيضاً نحو ثلاثين ألف طالب مدرسي من مدارس المنطقة الشرقية، نظَّمت لهم أرامكو السعودية زيارات صباحية من ألفها إلى يائها. من المستحيل رصد ردود الفعل عند كل هذه الجموع. فلأن الاهتمامات تتبدَّل من شخص إلى آخر، كان من الطبيعي أن نجد من تجذبه معارض العلوم أكثر من معارض الفن أو العكس. أو معرض كفاءة الطاقة أكثر من معرض «ألف اختراع واختراع»، تماماً كما أنه من الطبيعي أن ينجذب الصغار إلى حديقة السلامة المرورية أكثر من انجذابهم إلى معرض الفن المعاصر. المفارقة، أنه في تلخيص ردود الفعل والانطباعات، وجدنا واحداً من أعمقها في معرض مركز بومبيدو، الذي بدا سابقاً في نظر بعض المنظِّرين، أنه سيكون الأبعد عن مزاج الناس واهتماماتها لاحتوائه على أعمال فنية لا تزال على الرغم من عالميتها موضع نقاش وشيء من سوء الفهم، حتى في الثقافات التي أنجبتها.
فقد تفاوتت التعليقات أمام هذه الأشكال «المُربِكة» من الفن التشكيلي المعاصر. بعضها، والحق يقال، نفى عن هذه الأعمال صفتها الفنية، وبعضها تضمَّن تعبيراً عن إعجاب متفاوت الوضوح. وغالبيتها كان أسئلة وتساؤلات.. ولعله هنا تكمن أهمية هذا المعرض. فالثقافة الحية والحقيقية هي التي تُحرك الوعي وليس تلك التي تفرض رسالة محددة. وتحريك الوعي يبدأ بالمعرفة. وخير من عبَّر عن ذلك زائر شاب بدا عليه أنه طالب جامعي، عندما قال: «لا أعرف إن كنت أحب هذا الفن أم لا.. ولكنني سعيد لأنني شاهدت هذه الأعمال. فإذا تحدث أحدهم أمامي عن بيكاسو، صار بإمكاني القول أني شاهدت إحدى لوحاته، وأنني أعرف أسلوبه بالرسم. كما صرت أعرف أن إيف كلاين رسم لوحات بلون واحد.. ومثل هذه المعرفة كانت مقتصرة على الأثرياء القادرين على السفر والسياحة في أوروبا».
ختاماً، ولو كان مفروضاً علينا اختصار مكانة هذا البرنامج الثقافي ووقعه على بيئته الممثلة بزواره، من خلال كلمات قليلة، لوجدنا أفضل تعبير عن ذلك في تسميته الدارجة على ألسنة الزوار.
ففي حين توخَّى المسؤولون في أرامكو السعودية الدقة في التعبير عند إطلاق اسم «برنامج أرامكو السعودية الثقافي»، ومن ثم تعديله وإضافة «إثراء المعرفة» إليه، نجد أن الجمهور، يختار عفوياً اسماً آخر، يسري على ألسنته أكثر من أية تسمية أخرى «مهرجان أرامكو الثقافي»، وذلك لجو البهجة والحبور الذي يسود موقعه وأقسامه وفعالياته.. نعم، إنه «مهرجان»، والاسم الشعبي هذا يدل على ما يكنه المجتمع من عاطفة لهذا البرنامج الثقافي، تتجاوز الحسابات والتعاملات الباردة، لتتغلغل عميقاً، وعميقاً جداً في النفس.

————————————

كادر

الخدمات المساندة ومقاييسها..
حصاة تسند الصخرة
أن تكون أرامكو السعودية الجهة الوحيدة (غير الحكومية)، القادرة على تحمّل التكلفة المادية الضخمة لهذا البرنامج الثقافي، فهذا نصف الحكاية. لأن مقاييس هذا البرنامج تتطلب من الخدمات المساندة واللوجستيات ما يحتاج بدوره إلى خبرات لا نعرف إن كانت موجودة حولنا في غير هذه الشركة. فإن كان ما ذكرناه حول نوعية الفعاليات والمعارض يعطي فكرة مبسطة ومختصرة عنها، فإنه لا يكفي لوحده في تفسير النجاح المتكرر الذي يلقاه هذا البرنامج.
فاختيار موقع المهرجان على أرض منحدرة بدلاً من بلادة الأرض السهلية المنبسطة، أضفى عليه تلقائياً شيئاً من الحيوية الطبيعية المتمثلة في حركة الناس صعوداً ونزولاً في كافة الاتجاهات.
وإضافة إلى الخيام الرئيسة السبع التي ضمت الفعاليات والمعارض، يتطلب تنفيذ هذا البرنامج إقامة عديد من المنشآت والخيام المساندة مثل مصلَّى للرجال وآخر للنساء، وساحة مطاعم في خيمة عملاقة، وأمامهما مقهى في الهواء الطلق على ساحة معشبَّة، وخيمة استعلامات سُميت «اسألني»، ومركز للمتطوعين وآخر للمتطوعات، ومقر لرجال الأمن، وعيادة ودورات مياه وغير ذلك مما نكون قد نسيناه. وتعداد هذه المكونات الثانوية والضرورية لا يكفي أيضاً، إن لم نُشر إلى النوعية والمقاييس التي اعتمدت في إنشائها وإدارتها، وهي مقاييس أرامكو السعودية الصارمة جداً فيما يتعلق بالجودة والسلامة. ومن الأمثلة التي يمكن ذكرها في هذا المجال، منع التدخين حتى في الهواء الطلق داخل موقع البرنامج، لدواعي السلامة من جهة، وبسبب وجود كثير من الأطفال من جهة أخرى، الذين لا يستساغ لهم أن يشاهدوا أناساً يدخنون.
ومن الأمثلة غير المألوفة أيضاً هو تدخل أرامكو السعودية في نوعية الطعام والشراب الذي يُباع في المطاعم العديدة التي كانت قائمة هناك، وصولاً إلى حد منعها من بيع المشروبات الغازية لعدم ملاءمتها للصحة العامة!! وأكثر من ذلك، ففي حين أن المطاعم والمقاهي تستغل عادة وجودها المؤقت في مثل هذه المناسبات لتضاعف أسعارها، فرضت أرامكو السعودية على كل المطاعم والمقاهي الالتزام بالأسعار المتعارف عليها في فروعها العادية في الأسواق. وغير ذلك كثير مما يوفر للزوار كل المتطلبات التي يمكنها أن تظهر خلال الساعات الطويلة التي يمضونها هناك، لأن هذا البرنامج ليس من الفعاليات التي تُزار لساعة أو ساعتين.. بل يمسك بالزوار لما لا يقل عن خمس ساعات، وربما لأكثر من مرة.

أضف تعليق

التعليقات