الرحلة معاً

في قلب العصر الرقمي

Cans logoكلمة «تواصل» هي إحدى المفردات السحرية في حياتنا، وإذا كنا نتواصل في الزمن الماضي لكي نوطّد أواصر القرابة والأخوة والوجود، فإننا نقفز بمفهوم التواصل اليوم، خاصة عبر المنصّات الرقمية، إلى أفق آخر، لا نتواصل من خلاله فقط، بل نتعلَّم ونتعرَّف، ونكتشف الفرص، ونعقد الصفقات، ونتبادل الأدوات والأشياء ونطلّ على ثقافات الأمم الأخرى، نتأثر بها كثيراً ونؤثر فيها أحياناً.

هكذا لا يصبح التواصل ترفاً أو خياراً، بل حاجة وضرورة، ومهما كانت مهارات أو قدرات أولئك الغائبين عن قنوات التواصل الاجتماعي، ومؤهلاتهم المعرفية والحياتية، فإنها لا تشفع لهم أمام جيل طالع تكاد تلك الوسائل تكون ملاذه وجسره نحو العالم الصاخب بالأحداث والقصص والاكتشافات.

هذه الأفكار والخيالات كانت تدور في رأسي طيلة يومين وأنا أحضر فعاليات منتدى «التواصل في العصر الرقمي» الذي نظَّمته أرامكو السعودية، مؤخراً، في الخبر، وألقى فيه باحثون مرموقون خلاصة أبحاثهم الجديدة، ضمن حضور كثيف واظب على الحضور وطرح المداخلات.

في ساحة هذا الخضم الإلكتروني، هناك تدافع كبير نحو استهلاك منتجات الإنترنت واستخدام شبكاتها وقنوات تواصلها عبر الكلمة والصورة، وهناك ابتهاج كامل بما تتيحه تلك الشبكات من معارف وعلوم كانت حكراً على أمم دون أخرى. فكل الخدمات أصبحت على مرمى أصبع، والخيارات أمامنا واسعة لا تحدّ ولا يسيطر عليها أحد. وأصبح اختصار الجهد والمال والوقت أحد علامات هذا الزمن «الإنترنتي»، بل إننا أمام ظواهر جديدة، مثل: إنترنت الأشياء، حيث يمكن للمواد والمنتجات والأجهزة أن تعمل وأن تتلقى الأوامر من بعضها خارج سلطة الإنسان التقليدية.

لكن بعض أوراق هذا المنتدى عبَّر عن قلق كامن أيضاً، يختصر في هيمنة شاملة لهذه الوسائل على حياتنا، ووقتنا، وعقولنا، وأنفسنا، بل ونومنا ومزاجنا وعلاقاتنا الإنسانية، وفي فقدان الخصوصية الفردية، إلى درجة أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ينص على عدم جواز تعرُّض أي شخص على نحو تعسفي أو غير قانوني للتدخل في خصوصياته أو شؤون أسرته أو مسكنه أو لأي حملات غير قانونية تمس شرفه أو سمعته، يتعذَّر تطبيقه في زمن الثورات المعلوماتية المتتالية.

إننا إذاً نعوم أو نغرق في محيط هائل من المعلومات التي تذكيها وسائل التواصل الاجتماعي، فمستخدمو الإنترنت في المملكة يتجاوزون الآن أكثر من %60 من سكانها، كما أن %54 من الأطفال يعدون الإنترنت مصدراً للمعرفة، فيما يعد %50 منهم الألعاب الإلكترونية رابطتهم المعرفية، وأصبح الهاتف الذكي عالمياً هو سيد الدخول إلى الشبكات بنسبة تصل إلى %80 هذا العام، وهي نسبة مرشحة للنمو. وكل هذا يشير بجلاء إلى أن الأجيال الجديدة شارفت على قطيعة كاملة مع وسائل التعلم والمعرفة التقليدية.

هناك ظاهرة لافتة، طرحها المنتدى، وهي أننا نشهد حياة وموتاً سريعين لعمر المعلومات، فلا أحد يفكر بما حدث في الأمس، بل بما يحدث الآن أو بعد برهة من الزمن، لذا يتحدث مختصون عن موت للتاريخ بأحداثه ودروسه أمام شراهة استهلاكية لكل معلومة أو واقعة آنية، فالمستخدم الشبكي لم يعد يعنيه مصدر المعلومة على هاتفه الذكي، ولا يدقق في مدى صحتها، فقيمتها بالنسبة له تكمن في كونها أجابت عن سؤاله اللحظي أم لا. وما يثير الدهشة هو أن هذه الحقائق تطلق ليسلّم بها الجميع وليس كمعضلة تتطلب النقاش واقتراح الحلول.

على الرغم مما يشيعه الحقل الرقمي من آمال عريضة بالتشارك في المعرفة وصناعتها وقدرتها الخارقة على اجتياز كل نقاط العبور، فإن المخاوف قائمة أيضاً، بعضها يهدِّد خصوصية الإنسان وحرياته وأعمق أسراره ومعلوماته، وبعضها يؤثر في أمن الأوطان ومكتسباتها. وهناك الترويج لأشكال التعصب والعنصرية والعنف، وتحطيم منظومات القيم والأخلاق في المجتمعات، وبعضها يتصل بالإدمان الشبكي والآثار الصحية السلبية. وهي ظواهر اقترحَ أحد المحاضرين محاربتها بميثاق شرف، لكنني أعتقد أن تشريع القوانين الصارمة واللوائح الملزمة لمواجهة هذه الظواهر هو ما سيخفض من آثارها السلبية، خاصة وأن حقل الجرائم الإلكترونية في حق الشركات والأفراد آخذٌ في الاتساع.

أضف تعليق

التعليقات