عين وعدسة

في جبّة والشويمس

أمام المكتبات الحجرية في المملكة

في مختلف أرجاء المملكة تنتشر الآثار التي خلّفها البشر بعد أن استوطنوا أو مرّوا فوق هذه الأرض، لكنَّ أهمها وأقدمها زمناً هي الرسوم الصخرية المنتشرة في أماكن مختلفة على رأسها “الشويمس” و”جبّة” في منطقة حائل، وفي جوار أبها بمنطقة عسير. والنقوش المحفورة على الصخور في هاتين المنطقتين تشترك في عناصــر فنيَّة كثيرة، وتختلف أيضاً في جوانب منها، ولكنَّها ذات دلالات كبيرة تاريخياً وثقافياً وعلمياً بالنسبة لدارسيها، كما أنها ذات جاذبية يصعب على مَنْ يراها أن يبدِّد غموضها دون استكمال زيارته وما تراه العين بالاطلاع على ما توصَّلت إليه قراءات العلماء والخبراء لهذه المكتبات الحجرية الفريدة.

لطالما ترك البشر أثراً خلفهم، أثناء مشيهم فوق رمال الصحراء أو في الأراضي الموحلة أو فوق الثلوج. تركوا آثار أقدامهم التي سرعان ما اضمحلَّت. وربما تركوا بقايا نارٍ مشتعلة دلَّت على أنهم مرّوا بهذا المكان أو ذاك، أو تركوا طللاً من حجارة قليلة قبل أن يشدوا الرحال.. كان هذا دأب البشر الأوائل المتوطنين على الترحال بحثاً عن الماء والكلأ.

لم يكن تركُ الأثر مقصوداً في البدء. كان دلالة على الوجود في مكان معيَّن أو المرور به لا أكثر. لكنَّ الإنسان سرعان ما تعلَّم الاستقرار بعدما طوّع الطبيعة ودوابها، فسهُل العيش في مكانٍ واحدٍ، وتغيّرت قواعد البناء والبقاء والارتباط بالمكان. لذا بدأ الأثر المتروك يضحي أكثر ثباتاً، بل وربما مقصوداً في كثير من الأحيان. ومن هذه الآثار التي تروي ما لا يمكن لغيرها أن يرويه، النقوش الحجرية في الشويمس وجبّة في منطقة حائل التي أدرجت على لائحة التراث العالمي عبر التصويت بالإجماع على ذلك في منظمة اليونيسكو، على أن تُضمّ لاحقاً رسوماً ونقوشاً أخرى إلى اللائحة بعد الانتهاء من عملية استكشافها.

والتسجيل على لائحة التراث العالمي لا يعني فقط إضافة “رفّ” جديد إلى مكتبة النقوش التي خلّفها إنسان العصر الحجري الأخير، بل يدلّل أيضاً على بدء الأهتمام الرسمي في المملكة بالرسوم الصخرية علمياً وأكاديمياً، وعلى التعاون مع المؤسسات الدولية لحماية هذه الآثار وإعادة اكتشافها، وكذلك عبر تحميل المجتمع الدولي مسؤوليتـه في الحفاظ عليها، إذ إنها ملك للإنسانية جمعــاء وإرث بشري عام.

وكان التقدير العالمي لهذه الرسوم الصخرية قد بدا واضحاً خلال جلسة التصويت على ضمّها للائحة في مدينة بون الألمانية، إذ عبّر أعضاء لجنة التراث العالمي بالإجماع عن شكرهم للمملكة على تقديمها هذا الموقع الفريد للتسجيل، لأن خارطة التراث العالمي ستبدو أكثر ثراءً بهذه الرسومات التي تبدو كأنها متحف صخري في الصحراء.

آثارٌ أم فنون؟
ليس من قبيل اليقين إطلاق تعبير “فن” على النقوش الصخرية التي خلَّفها الإنسان القديم. لأن العمل الفني بالمعنى المعاصر ينطلق من الفنَّان نفسه وتهويماته وأفكاره الخاصة، في حين أنّ ما قام به ناقِش الرسوم الصخرية نابع من حاجة اجتماعية أولاً، وبتوافق جماعي ثانياً، ولغاية أرشيفية وليست تجميلية، على الأقل حسبما يعتقده بعض المؤرخين والمستكشفين. ولكن من جهة ثانية، هناك من يقول إن الغريزة التعبيرية لدى الإنسان البدائي تشبه غريزة التعبير لدى الطفل المعاصر. وبالتالي، هذا ما يجعل الآثار التي تركها الإنسان البدائي فناً، كما هو حال الفنون التي مازالت تؤديها الشعوب البدائية في غابات الأمازون وإفريقيا في عصرنا الحديث. لذا أطلق البعض تسمية الفنون البدائية على الرسوم والنقوش التي وجدت داخل المغاور أو فوق الصخور والتي تركها إنسان العصر الحجري، كما فعل في نواحٍ متفرِّقة وعديدة في المملكة.

هناك من يقول إنَّ الغريزة التعبيرية لدى الإنسان البدائي تشبه غريزة التعبير لدى الطفل المعاصر، وهذا ما يجعل الآثار التي تركها البدائي فناً، وهي حالة شبيهة بالفنون التي ما زالت تؤديها الشعوب البدائيـة في غابات الأمازون وإفريقيا في عصرنا الحديث.

ومهما تكن دوافع الإنسان للقيام بهذه الأعمال، فإنَّ الفن في هذه العصور قد اتبع على ما يبدو تسلسلاً معيَّناً، فالمحاولات الأولى تكون عادة خالية من المهارة، تليها مرحلة الصور والرسومات التي تظهر سيطرة الإنسان على موضوعه، وتؤكِّد تطوّر قدرته على الملاحظة والتعبير.وأصبحت بعد ذلك تُرسم هذه الأعمال لذاتها بعيداً عن وظيفتها الدينية أو الشعائر. وفي المرحلة الثالثة، يصل الفن إلى ذروته المثالية حين يتخلّص من كل التفاصيل ويتجه إلى جوهر الأشياء، أي مرحلة الرمز، وعموماً، سواء أكان الفن واقعياً أم رمزياً، فإنه يمثّل تطور فكر الإنسان الذي لم يتردَّد في إحداث التعديلات المتكرِّرة تأكيداً على سيطرته على مجريات العملية الإبداعية التي كان يقـوم بها، وبالتالي سيطرته على فكرته عن الطبيعة التي يعيش بين جنباتها.

رسوم حائل الصخرية وأنواعها
تنتشر الرسوم والنقوش الصخرية في مواقع عِدَّة بمنطقة حائل، وهي منفَّذة على الواجهات الصخرية بالحز والحفر الغائر. وتمثِّل مظاهر حضارية عبّر من خلالها سكان تلك المنطقة خلال العصور السابقة للتاريخ والعصور التاريخية عن أنشطتهم المعيشية وحياتهم اليومية، وممارساتهم الدينية، وتفاعلهم مع البيئة.

إنَّ معظم هذه الرسوم يرجع إلى فترة ما قبل التاريخ أو العصر الحجري الحديث (أربع عشرة ألف سنة قبل العصر الحاضر). شاهدنا منها ما يمثِّل أنواعاً عديدة من الحيوانات التي استخدمها الإنسان أو كان يصطادها، مثل: الأبقار الوحشية، والوعول، والغزلان، والنعام، والماعز الجبلي. وبعضها بدا لنا صوراً تجريدية لشخوص آدمية متجاورة تصوِّر احتفالات جماعية، أو ممارسات دينية، أو معارك حربية ومبارزات ثنائية، يظهر فيها الإيقاع التعبيري والحركة في ممارسات الصيد، وصور الحيوانات المفترسة كالأسود والنمور. كما توجد رسوم عائدة إلى الفترة الإسلامية المبكِّرة، ونقوش كتابية بالخط الكوفي بعضها مؤرخ بالقرن الثاني الهجري.

وبحسب بعض الباحثين والمستكشفين فإنَّ هذه الرسوم تشير إلى أن جبّة والشويمس شهدتا في تلك الفترة مناخاً مطيراً. حيث كانت في جبّة بحيرة كبيرة يستوطن حولها الناس، كما كانت الشويمس منطقة أحراش ومراعي حشائش طويلة (سافانا)، وذلك قبل التصحُّر الأخير. أما رسوم الفترة التاريخية فتمَّت في وقت عمّ فيه التصحُّر (من مقالة للدكتور عبدالله الغبين). وقد أكَّدت الدراسات الأثرية في جبّة والشويمس هذه التحولات البيئية، بل إنَّ بعض واجهات الرسوم تُخبىء تحتها طبقات أثرية تركها الإنسان الذي نفذ هذه الرسوم، وهذا ما يُعدُّ أمراً نادراً في مواقع الرسوم الصخرية.

الرسوم الآدمية
تختلف الرسوم الآدمية من حيث الشكل وأسلوب التنفيذ من حقبة لأخرى. فهناك الأشكال الآدمية العودية. ويتكوَّن الشكل العودي من خطوط بسيطة ترمز إلى الأطراف مرسومة بأقل جهد ممكن من راسمها، حيث يصوَّر هذا الرسَّام الشكل شبه الآدمي بأدنى حدٍ من التفاصيل التي يمكن تمييزها.

وهناك الأشكال الآدمية ذوات الرؤوس المقنّعة دائرية الشكل، وتخرج من هذه الأقنعة عصيّ تشبه الرايات. وقد رأى بعضٌ أن هذه الأقنعة هي ما كان يتنكّر بها الصيادون، أو أن هذه الأشكال قد تكون لراقصين مقنعين، أو أنها آتية من عالم العصر الحجري القديم. على أن هناك من يعتقد أن المقنعين الراقصين قد عثر عليهم في مختلف مناطق العالَمْ، وأنَّ هؤلاء يمثلون صيادين يقومون بوضع هذه الأقنعة شَرَكاً يخدعون به الحيوانات التي كانوا يقومون باصطيادها. ويرى هؤلاء أن هذه الأقنعة أو أن التنكُّر بحد ذاته يمثِّل قوة سحرية روحية حسب المعتقدات الوثنية القديمة. ولذا، نجد أن الإنسان استخدم القناع أو التنكُّر ليس في مجال الصيد فحسب، بل حتى في الطقوس الوثنية اعتقاداً منه أن التنكُّر يزيده قوة.

أما الأشكال الآدمية التجريدية الشديدة التخطيط، فغالباً ما تكون عملية معقَّدة، ويمكن تمييزها عن طريق مقارنتها بالرسومات التي تكون مقترنة بها. ولهذا نجد أن الشكل الإطاري وقسمات الوجه مرسومة بأسلوب تجريدي أو مختزلة أو مكبَّرة أو ناقصة أو معَّدلة إلى أبعد حد. مع محافظتها على أوجه الشبه، إما في شكل الجسم وإما في شكل الجذع والرأس مع الأشكال الآدمية، وهذا ما يمكننا من تمييزها على أنها رسوم آدمية.

هؤلاء المقنَّعون يمثِّلون صيادين يقومون بوضع هذه الأقنعة شَرَكاً يخدعون به الحيوانات التي كانوا يقومون باصطيادها.

وبالتأمل في هذه الأشكال من الرسوم، تعود بنا الذاكرة إلى ما سبق لنا أن شاهدناه في قمة جبـــل “السودة” في جنوب المملكة، حيث تكثر الرســوم الآدمية وهي في حالات راقصة. وقد استخدم في تنفيذها أسلوب النحت الكلي (engraving)، الذي يُعد من أصعب أساليب الرسم الصخري، ولم تكن الأدوات التي استخدمها الفنان في بدايات تنفيذ رسوماته ونقوشه سوى أزميل بسيط من الحجر. ثم استخدم الحديد بعد ذلك بفترات طويلة. وكانت ترافق الأزميل مكشطة لحذف الأجزاء غير المرغوب فيها، ثم يعمد بعد ذلك إلى تنعيم الصورة بحكها بأداة من الحجارة.

الأسلحة في الرسوم الصخرية
وهناك مجموعة من الأسلحة التي استخدمها الإنسان سواء في عصور ما قبل التاريخ أو في العصور التاريخية من أجل الحصول على غذائه بصيد الحيوانات التي كانت تتوافر في بيئته. وقد صنعت هذه الأسلحة من الأخشاب والنحاس والبرونز والحديد. ومنها الأقواس والسهام التي تُعد من أقدم الأسلحة استعمالاً في الجزيرة العربية، ومن أكثرها شيوعاً. وقد وجدت أيضاً في عديد من اللوحات التي عُثر عليها في منطقة عسير، حيث ظهرت مقرونة بالأشكال الآدمية فيشاهد الرجل عادة وهو يمسك القوس والسهم في حالة وقوف، وفي بعض الرسومات نرى الرجل وهو يصوب سهامه باتجاه الهدف المراد الذي غالباً ما يكون حيوان الوعل أو الغزال.

أما الرماح فتظهر بشكل مكثَّف في الرسوم الصخرية، وقد ظهرت الرماح أسلحة متأخرة في رسوم الجزيرة العربية، ويعتقد البعض أنها ظهرت في العصر الحديث. وقد اقترن هذا النوع من السلاح بشكل كبير براكبي الخيول في حالتي الحرب أو الصيد. وكذلك الدروع التي ظهرت مقرونة بالرجال، وهم يقبضون عليها بأيديهم اليسرى، ويحملون في أيديهم اليمنى أسلحة أخرى، ولكن هذه المناظر لا توحي بالحركة، بل تبدو جامدة، وكأنها رسمت هكذا لتوثيق أوضح صورة عما كانت عليه الأحوال في ذلك الزمن.

 

تصوير: ماجد المالكي

أضف تعليق

التعليقات