أقول شعراً

فاطمة الشيدي:

أحب القصيدة التي تقولني

 

ladyلا أعرف لِمَ يحب شاعر قصيدة دون أخرى ويرشحها للظهور، لتكون ظله في مكان ما، وصوته في محفل ما، وصورته في أوراق ما. يقول البعض إن القصائد كالأبناء، وبالتالي فنحن نحبها بالتساوي، ولكنني أحب القصيدة التي تقولني، التي أستطيع أن أنسبها إليَّ، بعض أبنائنا نحبهم لأنهم أبناؤنا فقط، وبعضهم نحبهم لأنهم يشبهوننا. أنا أنانية بعض الشيء أحب من يشبهني، في الروح والفكرة والوعي، أحب المرايا، كأي امرأة، يطيب لي الحوار معها، والحكي على لسانها، حتى لو عكست بعض التجاعيد، وكثيراً من الإرهاق والحزن والتعب. المرآة هي صورة طبق الأصل منا، لا شيء كالمرآة يشبهنا، وهذا ما أحبه في الشعر أيضاً.

القصيدة هي لساني المقطوع، وعيي المخبوء، حيرتي العميقة، وجعي الذي ينهشني في الخفاء، لا أحد يعرف عني ما يستطيع الشعر أن يصل إليه، الشعر الذي نكتبه من الخارج هو شعر سطحي، شعر يسلي قارئاً سطحياً. وأنا أحب الشعر الجارح، ذلك الذي يعمل كطبيب نفسي ماهر، يصيبني بالدوخة والدوار وهو يدخلني في غيبوبة التنويم المغناطيسي، ثم يحفر في لاوعيي عميقاً جداً، ليستخرج مكنونات ذلك الغائب، هناك سيجد الرفض، والوجع، والحيرة من الناس والفكرة ومن كل شيء.

حين يصل إلى ذلك المستوى من الحفر العميق سيعرفني تماماً، سيعرِّيني من التصنع الذي أضعه ككل البشر قناعاً على وجهي ثم أمضي بحرقتي ووجعي ويأسي وشكي بينهم، بلا جرأة من أحدهم على اقتحام أسوار داخلي المظلم. وحده الشعر يعرف ذلك، وحده يدرك حيرتي أمام الله الذي أحبه، وأسأله الصفح والرحمة أكثر، وحيرتي أمام الناس وهم يشهرون أظافرهم حقداً وشراً في وجوه طيبة وضعيفة بلا إنسانية ورحمة، وأمام السياسة التي تحرك عالمنا نحو ليل لا نهار له، ووجع لا راحة فيه، وأمام هذا العالم الذي أصبح فارغاً من المحبة ويسير في سباق محموم بالمادة والشر والقبح.

أحب هذه القصيدة لأنها تعمِّق السؤال في داخلي، لِمَ أكتب؟ وهو سؤال جارح وطويل وممتد ومتجدِّد، لا أستطيع تجاهله أمام كل الوجع الذي يكبر داخل الروح يوماً بعد يوم، دون أن تستطيع أن تنفثه خارج الكلمات، لأنه وجع متماهٍ لا شكل له ولا لون، فقط له طعم ورائحة تجدها في لسانك وأنفك، وأمام الخراب المحيط بالعالم، وعجز الكتابة عن أن تكون صديقاً لا يمل، تحكي له وجعك الغريب، وحزنك المريب كل لحظة دون أن يهرب من تفاهتك التي يظن، أو ضمادة تسعف جراح الأطفال، أو سقفاً للمتشردين، أو لقمة خبز، أو مدفئة لأيتام العالم ولاجئيه.

فلربما تستطيع الكلمة الواهنة الضعيفة أن تكون دمعة ساخنة تريح الروح وتخفِّف الوجع وتدرأ القليل من الحيرة والألم. ولعلها تصبح بوحاً لقارئ لا يكتب فيجد في القصيدة وجعاً يقول عنه ما يريد، لعلها تصبح لسان الحيارى، وصوت المقهورين في هذا العالم الذي يسير إلى حتفه، فلهذا فقط أكتب، وفي مناسبة كهذه كتبت هذه القصيدة يوماً ما.

حِرْفَة

– 1 –

أكتب كراقصة باليه عرجاء
تتخبط في الحركة، ولكنها لا تتنازل عن حلمها
كسلحفاة بحرية تعيش في حوض سمك
ينظر لها الصغار بغبطة
كعازفة بيانو عمياء
تتحسس المفاتيح بروحها المبصرة
كشحَّاذ على طريق مجهول
يدرك أنه لن يتحصل على المال
ولكنه يلتذ بالانتظار
كعامل نظافة عجوز يرى في الشارع بيتَه
وفي كل عابرٍ ابناً سيحتضنه يوماً
أكتب الحياةَ بزاوية النقص
وبدمعةٍ تترقرق في العيون
لأن الكمالَ وهَمْ
والسعادةَ فكرة

– 2 –
تأتي الفكرة آخر الليل
تعضُّ على روحي
ساذجة طيبة
كما يليق بفكرة متشردة
متشققةِ الملابس مغبرةِ الوجه
تدخل من ثقبٍ ما في رأسي أذني أنفي أو عيني
وتتربع هناك تماماً
تعوي في رأسي بعنف
كذئب وحيد
تعبث بأشيائي العميقةِ هناك
تشذب فكرة الشعر
تنتشل مفرداتٍ صارمةً كالأبدية والخرافة والموت
تلقي بها بعيداً وتضحك
يريـبها الحزنُ المتمترسُ خلف الفص الأيمن من عقلي
تهزه قليلاً
ينظر إليها برجاء أن تتركه في حاله
تلوك ما يحلو لها من مفردات
شماعة الأزل
التيه
الصحراء والسراب
وتبتلع على عجل أوهامَ الكلام المنمقِ والمحشور في زاوية
شماعة الوهم
خزعبلات كثيرة تجدها تسربت من الكتب
تضع قدماً على قدم وهي تتأمل فكرة العدم
تنظر لروح سيوران وكافكا المتمترستين هناك
تنفض الغبارَ عن الكلام
وتؤمن بالتفاصيل الجزئية
ودورَ الراعيةِ الذي يشغلني، وحفارَ القبور، وخيالَ المآتة، التي أركن إليها
تباركها
وتختار لنفسها كلمات جديدة لتصلح هيأتها في ضوئها
وتخرج بصندوق كبير كنعش لحبيب
أو جثة لجريمة قتل
تلقيها في البحر
وأسمع الطشطشة
وأنفض رأسي الذي يصبح خفيفاً جداً
وأبدأ في الكتابة

– 3 –
أكتب تماماً كما يعمل نحات مهووس
يقترب من جذع شجرة قرَّر أن يحولها لامرأة
يبكي في البدء عند أقدامها
يعتذر لها عن قسوة الفأس ولحظات الموت
وأنه سيحرمها من الهواء والماء والغابة
والعصافير، وتحديداً من نقار الخشب
يقول لها هذا تماماً سيكون دوري منذ اللحظة
مع أنك لن تشعري بدغدغات إزميلي
كما كنت تضحكين للثمات منقاره
ثم يخبرها عن فكرة الخلود والفن
ويعدها بأنه سيتجول بها في كل متاحف العالم
وأن الجميع سيشير إليها بانبهار
لكنه يهرب فجأة من يديها
لأنه شعر أنها سترفسه، لو لم يتوقف عن هذه التفاهات
أنا أيضاً هكذا أنهي النص خوفاً من رفس الكلمات
أو اتصالها معاً لتشكل حبلاً يلتف حول رقبتي ليخنقني
فأنتم لا تعرفون قوة الكلمات الحقيقية خاصة إذا اتَّحدن
ولذلك ليس عفواً أن يقول سيوران «الكلمة خنجر لا يُرى»
ولأنني امرأة جبانة تخاف الخنجر والحبل والرفس
أكتب نصوصاً قصيرة غالباً

سيرة
ولدت على حواف الماء بين ملح أجاج، وعذب وفرات، في الضلع الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية «مجان النحاس، ومزون الماء، وعُمان الإنسان»، حيث التاريخ يفترش أضابيره وأوراقه ليحكي تاريخ الماء والحروب والغزاة وتبدل الأحوال بين زمن وزمن في اليسر والعسر، وفي الغنى والفقر، وفي الظلم والعدل. وفي قرية يعتاش أهلها على حصاد النخل، وفيض البحر، وحنانات الرمل، وحنو الإنسان كالشجر على كل شيء بأمان وسلام، وعلى الرغم من قلة معطيات الحياة، كانت الصرخة الأولى. ولتبدأ الخطوات الواهنة المشي في طريق سيقدَّر له الامتداد في الحياة والدرس والألم والفرح، لتختار في بدايات مبكرة طريقة لدرء الأشواك، وإقصاء الوجع، وهي الكتابة. وستبدأ بها على مقاعد الدرس الأولى، وستمتد حتى تستقبل هي وجوه الجالسين على مقاعد الدرس في الجامعة، لتقدِّم لها العلم واللغة والأدب.
ولا تزال تحاول الكتابة، وتحاور اللغة في كل مستوياتها الأدبية سرداً وشعراً ونقداً. وتطلق للنص العنان ليتشكل كيفما يريد، وعبر كثافة لغوية تتعدد مدلولاتها وأشكالها وأحلامها، وعبر أمسيات شعرية ونقدية تطير بها على أجنحة سماوات جديدة كل فينة وأخرى بين مسقط، وأبوظبي، والمنامة، وعمَّان، والجزائر، وسيت، وغيرها، وعبر نصوص، وكتابات وحوارات ومقالات في غير مجلة عربية، وملحق ثقافي في معظم أقطار الوطن الكبير الذي يوجعها أبداً من الماء إلى الماء.
تكتب عن الإنسان، وعن الوجع، وعن الحلم في غد يكون فيه الكون أجمل، والدم المسفوح أقل.

أضف تعليق

التعليقات

jawdat

نص رائع وجميل …أسلوب عذب