فرشاة و إزميل

عُلا حجازي..

رهينة اللون الأحمر وبقايا حكايات الأطفال

ما إن تتسلّق سلّم الدورين الذي عليك صعوده لتصل إلى مرسم عُلا حجازي، وتلقي النظرة الأولى على الداخل، حتى يتهيّأ لك أنك دخلت القاعة المخصَّصة لقسم التربية الفنية في مدرسة أطفال. فأشكال الرسوم على الجدران وكثافة علب التلوين والفراشي لا تترك لك مجالاً للشك أو الاستفهام. والمفاجأة، أن هذا الانطباع ليس كله خطأ، بل فيه كثير من الحقيقة. إذ إنَّ رحلة هذه الفنَّانة منذ بداياتها الأولى كانت مع الطفولة وكأنَّ الطفولة لم تفارقها لا في عملها ولا في فنّها ولا في ذاتها أيضاً. وهذا أمر بحاجة إلى توضيح.

“الأطفال بداخلي .. دائماً”
على جدران الدور الأوّل رسوم مختارة مما تركه الأطفال الذين كانوا يحضرون إلى غرفة نومها أولاً، وإلى مرسمها في ما بعد، وكانت تعطيهم دروساً أو تدرِّبهم في كافة الفنون.

فمنذ أن أنهت عُلا دورات الفنون التي واظبت عليها في معاهد بريطانيا، ومع بداية ممارستها هي نفسها للرسم، قرَّرت أن يكون جزء من جهدها موجَّهاً للأطفال. فتقول:

“بدأت مع الأطفال من غرفة نومي. أحضرت طاولة وألواناً وبدأت استقبل الأطفال. كان المهم عندي هو وجود الطفل. الأطفال هم الذين أخرجوني من اللون الأحمر إلى الألوان الأخرى، وهم الذين جعلوني أسافر لكي أوفِّر لهم مستلزمات الرسم وبعض التقنيات الخاصة بهم، وكذلك الأفكار. وهم الذين جعلوني أقرأ أكثر، وأمارس أشياء عفويَّة. الأطفال هم الذين غيَّروا مساري. وكان من الطبيعي أن تكون لوحاتي طفولية”.

وتضيف إنها بقدر ما علَّمت الأطفال الفن فإنها تَعلّمت الفن منهم. بل الحقيقة، أنها تعلَّمت منهم أكثر مما علَّمتهم. فهم علموها التعبير الحر والجرأة في استخدام الألوان والصبر والاستمتاع بمفاجأة اللوحة.‮

وفي عودة سريعة إلى بدايات تفتح موهبتها، تتحدَّث علا عن نفسها فتقول: “أنا لا أقول إني دخلت الفن، بل ولدت وأنا أرسم. فقد رسمت قبل أن أعرف كتابة اسمي. وعندما قالوا لي إنني فنَانة لم أكن أعرف ما معنى هذه الكلمة، ما أبحث عنه هو نجاحي في أعمال ذات حكايات عفوية”.

وتجزم حجازي بأنها تنتمى إلى الحكايات: “النقَّاد يطلقون على أعمالي “الفن العفوي”، لكني لا أجد في نفسي هذا الشيء، لأني أرسم حالتي بقدر ما أدرس عفويتي. وقد أقمت حتى الآن ثمانية معارض، احتوى أولها  على 99 لوحة. وقد غلب اللون الأحمر على معظم هذه المعارض، وأغلب الجوائز التي نلتها كانت معارض باللون الأحمر”.

وما إن تجلس على أحد مقاعد المرسم المريحة ويجول نظرك فيه بتمعن أكبر، حتى يُضاف إلى انطباعك الأول انطباع آخر، وهو أنك في متجر للحِرف الشرقية أو ربما الهندية أو حتى الإفريقية. فالرسوم على اللوحات المرفوعة على جدران المرسم، إضافة إلى الأشياء الأخرى التي تكسوها الألوان والرسوم رغم تنوِّعها، يجمعها هذا الحس الطفولي وأسلوب الرسم الفطري، والطابع الحِرفي. إنها أعمال لا ينقص كثير منها التعبير الفنّي في شيء.‮

مديح الكاكاو
ويعزِّز هذا الانطباعَ مشروعٌ تعمل عليه عُلا بحماس جميل ينطلق من فكرة تدوير المواد.‮ فقد كُلِّفت بتزيين عدة مئات من علب السيجار الفارغة برسوم مستوحاة من شجرة الكاكاو.

وحسبما هو متوقّع (وكما هو عادة الفنَّانين) استنكرت أن يُطلب منها عمل بهذا التحديد:

علب خشبية عليها رسوم من الكاكاو. ولكنها، وبسرعة، تغلّبت على تحفظها وبدأت بدراسة معمّقة لهذه الثمار وأشجارها. وبدأ الحماس يدبُّ فيها وراحت تطوِّر الرسوم. وصارت ترى في ثمرة الكاكاو أشكالاً على هواها. فهي قلب أو نصف القلب، ولا يكتمل القلب إلٰا بثمرتين.‮

شعرت أن الموضوع فيه حكايات، فيه شجرة وفيه حبُّ، وفيه رسائل مخبأة، “ستقودني إلى آفاق مختلفة، خاصة وأنَّ الشوكولاتة هي قلب، وهي مصدر للسعادة والبهجة عبر مذاقها”.

مشهد مجموعة العلب المُنجزة بأحجامها وألوانها ورسوماتها المختلفة تفتح شهية الرغبة في الاقتناء. ولا شك في أنها لو عُرضت في غاليري أو متجر للحِرف الفنية لبيعت برمّتها. ‮

ذروة الفنَّان.. في التكليف أم الاختيار؟
لكن هذا التكليف جعلنا نقف أمام تساؤل مهم. هل من المؤكّد أن الفنَّان يعطي ذروة ما عنده حين يكون إنتاجه الفني حراً، يعمل عليه وفق مزاجه الشخصي وبلا أي قيود أو متطلبات؟ أم يمكن للفنَّان أن يعطي ذروة ما عنده حين يكلّف بعمل فني ينطوي على قيود ومتطلبات، وربما مقاييس وحتى الألوان المشترطة؟. وكان رد عُلا أنه يمكن للفنَّان أن يعطي ذروة ما عنده في الحالتين، وأن التكليف بشروطه يضع أمام الفنان تحدياً يجعله يرغب في التغلب عليه. وأعطت مثالاً على ذلك العلب الخشبية التي بين أيديها. ولكنها ذكرت أيضاً بأنَّ بعض أعظم الأعمال الفنية في الماضي السحيق، كما فِي القرون الماضية، كانت بتكليف وبأجر مسبق.

أنا لا أقول إني دخلت الفن، بل ولدت وأنا أرسم. فقد رسمت قبل أن أعرف كتابة اسمي

وهنا تحدّثت عن حاجة الفنّان إلى الدخل، ليس فقط للمعاش، ولكن أيضاً لكل شيء آخر يتعلَّق بتطوير ثقافته الفنية واطّلاعه من كتب وسفر ومشاركات، ناهيك عن جودة المواد الفنية المُكلفة، وأشارت إلى أن اختيارها أن يكون تعليم الأطفال الفنون أحد مسارات رحلتها الفنية يعود إلى أنه يضمن لها بعض الدخل المفيد، خاصة في بداية انخراطها في هذه المهنة.‮

من الزنكوغراف إلى فن اللّوحة
عن مراحل رحلتها مع الفن، تذكر عُلا كيف أنها انكبّت في البداية على فنون الحفر، خاصة الزنكوغراف، وتزوَّدت بالمعدّات المطلوبة، التي ما زالت تحتل حيِّزاً في محترفها. وكما أنها وفَّرت مكبساً كبيراً لأعمالها، فقد وفَّرت أخاً صغيراً له يتدرّب عليه الأطفال. ‮ واستمتع الأطفال بتجارب الطباعة بالحفر استمتاعاً فاق جلسات الرسم المعهودة.

كانت أعمال الحفر (الزنكوغراف) هي الغالبة على معرضها الفردي الأوّل بشكل رئيس.‮

وكتب هشام قنديل مدير “أتيليه جدة” في كتيب المعرض “أنّه على الرغم من الإسهام الكبير للتشكيليات السعوديات، إلا أنَّنا لا نجد من هذه الأسماء في مجال فن الجرافيك إلا أسماءً قليلة جداً، ومن بين تلك الأسماء يبرز اسم الفنانة عُلا حجازي. فعلى الرغم من قصر عمرها الفنِّي، إلا أنَّها أظهرت تفرداً واضحاً لشخصية واضحة المعالم والسِّمات ولها كيانها المستقل”.

وفِي مقدمةٍ كتبها للمعرض نفسه، قال الناقد الفنَّان عمران القيسي: “لا تلبث لوحة الجرافيك عند الفنَّانة عُلا حجازي أن تتبلور كصياغة لأفكار ذات مدلولات نثريَّة واسعة تفرض حضورها وأُسلوبها، لتجيب عن أسئلة عديدة ما برحت تثقل كاهل المراقب للتيار التعبيري العربي الحديث”.

هكذا، من فنون الحفر انتقلت حجازي إلى فن اللّوحة. خاصة وأن الأعمال الأولى لم تبلور لها حُب الحياة، ووجدت أنها كانت تخرج على شيء من الكآبة . وميّز المرحلة التالية من أعمالها التوسّع في استخدام اللون الأحمر على مدى سنوات عديدة. وفازت أعمالها “الحمراء” بجوائز كثيرة، حتى كاد هذا اللون أن  يصبح لقبها الثاني: عُلا الأحمر. ولكنها شعرت فجأة أنها اكتفت. وجاء موعد معرض لها في باريس ليشكِّل لها حافزاً  للتحرُّر من اللون الأحمر. وهكذا كان. تخلَّت أو تخلّصت من الأحمر، لكنها لم تتخلَّص من التعبير الطفولي. وهنا توضِح عُلا أنها لا ترى عملها تلقائياً فطرياً، بل ربما تكون له شخصية خاصة به. فهي تدرس أعمالها وتجهد في تطوير مشاهدها التي يغلب عليها الحس الإنساني الحميم أولاً وأخيراً.

نبذة عن سيرة الفنانة
كانت بداية رحلة عُلا حجازي مع الفن عند نهاية القرن الماضي. إذ بدأت عملها رسماً وتعليماً للأطفال عام 1999م. وكان أوّل معرض فردي لها عام 2001م، والثاني عام 2007م. وبعدها انطلقت كفنَّانة معترفٌ بها تدعى إلى المعارض التي تقام في الداخل والخارج. وهي تعد أنها تنتمي إلى جيل مخضرم مع فهد الخليف وزمان جاسم وتغريد البقشي.

——————————————————————

تعليقات الصور

المشغل بألوانه الكثيرة والأحمر الطاغي

يغلب على أعمال عُلا حجازي الحس الإنساني الحميم النابع من نظرة طفولية إلى الأشياء

 

أضف تعليق

التعليقات