قضية العدد

طفرة الكتاب في السعودية

هل هي أكثر من مجازفة بلاغية؟!

  • Riyadh book fair, panoramic view
  • getImage.aspx
  • jadawel_net_book_20120313080657
  • shutterstock_33798583
  • shutterstock_83464636
  • shutterstock_92959072
  • ZAK_6702
  • 509930_150700
  • 691326
  • 478905629839
  • 20090124004757!شقة_الحرية
  • Riyadh book fair, panoramic view

نستطيع القول إن سوق الكتاب السعودي ظلت نائمة لعقود، سوى بعض الالتماعات التي تظهر بين الحين والآخر ثم تختفي. لكن المتابع يستطيع أن يشهد أن حركة دؤوبة قد اجتاحت ميدان النشر السعودي في السنوات العشر الأخيرة. دواعي ذلك ومسبباته كثيرة ويطول الحديث فيها، بل وتتعدَّد التفسيرات بين مؤيد ومعارض، لكننا لا نستطيع إهمال شواهد ملموسة أهمها الازدحام الشديد الذي يشهده معرض الكتاب الدولي الذي ينعقد في الرياض كل عام، وصعود عدد من دور النشر السعودية إلى منافسة دور نشر عربية عريقة هيمنت على سوق الكتاب العربي لزمن طويل. الباحث سعد بن محارب المحارب الذي تابع عن كثب متغيرات ساحة النشر السعودي يضع في هذا التحقيق خلاصة ملاحظاته، كما يستضيف كلاً من الدكتور حمزة المزيني،
والكاتبة بدرية البشر للحديث عن تجاربهما الخاصة في مجال نشر كتبهما.

هذه ليست قلادة تامة، أحاطت بعنق السؤال أعلاه، وإن طلبت ذلك. إنها محاولة لتطويق مساحة من التفكير في تنامي حضور الكتاب في السعودية: المكان والموضوع.

لم أكن حيث بدأت هذه المحاولة أعلم إلى أين أمضي، ولكن كنت أعلم ما ينبغي أن أتلافاه؛ لذا تجنبت إعادة ما اعتبرته معلوماً، مثلما تفاديت أن تكون هذه الكتابة محاولة مثالية للإحاطة بكل ما يمت للموضوع بصلة. إنها اجتهاد لتكوين مجموعة من المداخل وتوليد مزيد من الأسئلة، آملاً أن تكون بداية لما هو أعمق.

معرض الكتاب
منذ انطلاق معرض الرياض الدولي للكتاب بصيغته الحديثة تحت إشراف وزارة التعليم العالي ثم وزارة الثقافة والإعلام، وعبر ستة مواسم -إلى الآن- تحوَّل المعرض إلى المناسبة الموسمية الأبرز على الأجندة الثقافية المحلية. ومع الإقبال الجماهيري الواسع والفريد لمناسبة ثقافية هنا، تحوَّل المعرض إلى الوجهة الأبرز بوصفه سوقاً تجارية مغرية لناشري الكتاب العربي من مختلف أرجاء العالم، وسوقاً فكرية جاذبة للقارئ والكاتب المحليين، وكذلك مناسبة للصحافة الثقافية لتواصل يجتاز مساحة النخبة؛ التي تكتبها وتقرأها.

المعرض الذي ينطلق في الأسبوع الأول من «مارس» في كل عام جاء بسقف رقابي مرتفع بالقياس إلى السقف العام لمكتبات المملكة، وفتح أبوابه للجمهور من الجنسين دون تمييز، وتفاعل مع مناخ تنمو فيه وسائل الاتصال والإعلام، وتتوسع فيه نطاقات التعليم بدرجتيه -العام والعالي- كما تتضاعف أعداد المبتعثين والمبتعثات إلى مختلف أنحاء العالم. وعلى هامشه عقدت في كل عام ندوات ومحاضرات أمكن نعت بعضها بالجرأة، وتكررت ردود أفعال ممانعة اتسمت بالحدة أحياناً، فزادت هذه وتلك من إثارة المناسبة وجاذبيتها لتكون دائماً أكثر من معرض للكتاب.

الكتاب عن السعودية
من أبرز ما أنتج المعرض التنامي الطردي لإنتاج الكتاب وقراءته –أو على الأقل اقتنائه-، وشيئاً فشيئاً تبلور في قلب هذا الإنتاج خط يخص الكتاب المنشغل بالسعودية موضوعاً. يقدّر بعض الباحثين -وأنا منهم- أن موجة هذا الكتاب انطلقت بالرواية السعودية التي تتجاوز الخيار الفني إلى نظيره الاجتماعي من خلال رصد وتحليل المجتمع المحلي عبر خيار رواية السير الذاتية لشخصيات يقول المؤلفون عادة إنها خيالية. بهذا يمكن الانطلاق من رواية «الرياض نوفمبر 90» لسعد الدوسري التي انتشرت نسخة مطبوعة ضمن دوائر يمتنع تقدير حجمها منذ عام 1992م، ولم تنشر في كتاب قبل عام 2011م، أو من رواية «شقة الحرية» لغازي القصيبي في 1994م. ومع بلوغ هذه الصيغة من تجربة الرواية مدى بدا أنه الأقصى، انطلقت موجة ثانية من الكتاب الذي يتناول السعودية رصداً وتحليلاً اتسمت بتخلي مؤلفيها عن القناع الأدبي؛ غير أن الكاتب السعودي عبدالعزيز الخضر -مؤلف كتاب «السعودية: سيرة دولة ومجتمع»- قال لي إن هذه الظاهرة معروفة منذ الثمانينيات الميلادية من القرن العشرين، إلا أن متغيرات مرحلة التسعينيات وما بعدها أعانت على تحرر الكتاب في السعودية من بعض القيود الاجتماعية والدينية والسياسية. ويرى باحث سعودي -يفضّل عدم ذكر اسمه- أن الكتب التي تتناول المجتمع المحلي، دون قناع أدبي، سابقة على موجة الرواية، مشيراً هنا خصوصاً إلى الكتب التي ناقشت مسائل التنمية منذ سبعينيات القرن العشرين. وفي الإطار نفسه يستدرك عبد الله فهد -مؤسس دار «أثر» للنشر- أن الإقبال على الكتب الفكرية والنقدية ظاهر بفعل قلة حضورها لسنوات «لكن جمهور الرواية لا يزال شغوفاً بها».

مساهمة الأندية الأدبية
في هذا الإطار يمكن النظر إلى توسع الأندية الأدبية في نشر وتسويق كتبها مستفيدة ولو بالحد الأدنى من نافذة المعرض، وقد امتلكت هذه الأندية ميزة نوعية كون كتبها مدعومة من وزارة الثقافة والإعلام. وقد أدى لجوء بعض الأندية إلى مشروعات نشر مشترك مع دور نشر أجنبية -لبنانية حسب اطلاعي- إلى ارتفاع مستوى المنتج وإمكانات توزيعه وانخفاض نسبي في ميزة الدعم التي كان من المفترض أن تؤثر في تخفيض سعر الكتاب. وربما يفسر هذا تباين خيارات الأندية في هذا الشأن. وموضوع الأندية الأدبية والنشر أكبر من أن يحتوى ضمن هذا العمل إلا أن الإشارة إليه هنا إنما جاءت في سياق التأكيد على تنامي نشر الكتاب في السعودية.

دور النشر السعودية .. بعضها مهاجرة
وعلى كل حال يقرر المؤلف السعودي محمد السيف -الرئيس المشارك في دار «جداول»- أن معرض الرياض الدولي للكتاب لعب دوراً رئيساً في ظهور تطورات نوعية لظاهرة الكتاب المهتم بالسعودية، مرجعاً هذا إلى حجم المبيعات الضخم مقارنة ببقية المعارض العربية؛ يقول السيف: «مبيعاتنا في يوم واحد من معرض الرياض تساوي إجمالي مبيعاتنا في معرض الشارقة، مثلاً». وهذه إشارة مثلما تفسر عناية الناشر، تعيدها ضمناً إلى إقبال القارئ.

هذا التوسع في نشر الكتاب المعني بالسعودية جاء عبر دور نشر لبنانية بصفة أساسية، ثم دخلت المشهد ظاهرة جديدة يمكن وصفها بدور النشر السعودية المهاجرة، وهي مجموعة من دور النشر الموجودة في لبنان لمستثمرين سعوديين. يستدرك المؤلف السعودي نواف القديمي -مدير عام دار الشبكة العربية للنشر- بأن توسع العناية بهذا الكتاب سابق على الدور المهاجرة، فهي النتيجة وليست السبب. كان السعوديون -بحسب القديمي- يميلون إلى نشر كتبهم عبر الدور اللبنانية التي مالت بدورها إلى الاستفادة المالية، لكن الدور السعودية المهاجرة استفادت من كون القائمين عليها سعوديون مهتمون بالشأن الثقافي، عارفون بدرجة أفضل بالمؤلفين والجمهور المحليين، فتحسنت الخيارات واتسعت -لتشمل أكثر من الرواية-. وكان هذا خياراً صائباً في رأي القديمي: «أن كتبنا الأكثر مبيعاً في معرض هذا العام كانت ستة؛ خمسة منها لمؤلفين سعوديين، والسادس يتناول موضوعاً سعودياً». وفي سياق التأييد يعزو عبدالله فهد هذا التميز للناشر السعودي في سوقه المحلية إلى أن القائمين على الدور السعودية الجديدة هم أبناء للوسط الثقافي بالمساهمة أو المتابعة؛ الأمر الذي أكسبهم صلة لم تتوافر للدور العربية بالقارئ المحلي جعلتهم أكثر قدرة على انتخاب منشوراتهم.

في المقابل يبدو لبعض المهتمين أن الظاهرة هي في الدور السعودية التي اعتمدت على معرفتها المتميزة بالجمهور المحلي وليست في الهجرة، يلمح هؤلاء إلى دور نشر سعودية مهاجرة إلى مصر منذ سنوات طوال؛ بعضها أغلق أبوابه وبعضها الآخر تركز نشاطه في مجالات محدودة الجمهور مثل الكتب الجامعية. في هذا السياق يقول عبدالله فهد إن دار «أثر» التي تتخذ من الدمام مقراً لها، تراهن على ثلاثة عناصر؛ أولها الالتزام تجاه المؤلف والموزع وحتى القارئ، «الدور التي تخفق في تحقيق الالتزام تخسر مكاسبها مهما عظمت». والعنصر الثاني هو المتابعة ثم الاستفادة من تطورات حركة النشر عربياً وعالمياً. وثالثاً الاستقلال عن التوجهات الأيدلوجية وإعلاء القيمتين الموضوعية والفنية. ويضيف إن نجاح الناشر السعودي لن يكتمل إلا بحضوره في السوقين المحلية والعربية. لكنه يقصد -كما فهمت- أن الانطلاق من الخارج ليس شرطاً لتحقيق هذا الهدف.

لماذا بعض الدور السعودية مهاجرة؟
يجيبني القديمي بأن العملية تنقسم إلى ثلاث مراحل، الأولى ما قبل الطباعة وتشمل التحرير والترجمة وتدقيق الهوامش ونحوها «هذه متوافرة في مصر ولبنان، وبتكلفة أقل مما هي في السعودية». المرحلة الثانية الطباعة، وهذه متوافرة في السعودية ومصر بمستوى أقل مما هي في لبنان. الثالثة هي الشحن، وهنا «الموقع الجغرافي والخدمات تجعل لبنان في المركز الأول». يضيف السيف أن الإجراءات الإدارية في لبنان أقل تعقيداً مما هي في مصر أو السعودية. ويتفقان أن الرقابة ما قبل الطباعة في السعودية عائق إضافي، إذ يتطلب الأمر الحصول على موافقة على مسودة الكتاب قبل الشروع في طباعته. إلا أن عبد الله فهد قال لي إنه تلقى نصائح بأن يبدأ من بيروت لكنه فضّل أن تكون الدار في الدمام لأنه يرى أن الفروق تقلَّصت بين السعودية وغيرها من البلدان العربية في عموم عملية إنتاج الكتاب، فضلاً عن أن الوجود في الداخل يتيح الفرصة للتعاون مع مصممين وفنانين سعوديين.

فتش عن الهدف
وفي إطار استعراض المبيعات بحثت في القيمة التجارية على لائحة دور النشر السعودية الجديدة. يقول القديمي إن البعد الثقافي في أكثر الحالات، والشخصي في أقلها، متقدِّم على البعد التجاري لدى هذه الدور، وإن الملاك السعوديين يسعون إلى هدف مثالي هو معادلة الإيرادات للمصروفات، وهو هدف سيحتاج تحقيقه إلى انتظار طويل، «أو إلى الأبد». في المقابل يعتقد السيف أن «جداول» التي بدأت في نهاية 2010م ستبلغ هذه النقطة خلال أبريل من عام 2013م، بحيث تغطي إيرادات الدار مصروفاتها، ثم يضيف «لم ننشئ الدار لنجني أرباحاً مالية، لكن استمرارها مرتبط بنجاحها المالي». وبعيداً عن التدقيق في هذين النموذجين المطروحين، أو البحث في نماذج أخرى، يمكن القول إن الهدف المالي لا يقع في رأس القائمة غالباً، ويبدو أن السؤال عن الهدف سيحتاج تراكماً ونضوجاً للتجارب القائمة حتى تتبيَّن إجابته، أو إجاباته.

الكتاب الإلكتروني: خطر أم فرصة؟
لا يكاد يطرح اليوم حديث عن التحولات التقنية المتوالية إلا ويصاحبه جدل حول المصير الذي ينتظر القائم «القديم» في وجود الجديد -الذي قد يكون بديلاً-. ستسمع -كالعادة- عن الصحافة الباقية رغم الإذاعة، والإذاعة المستمرة رغم التلفزيون؛ لكن قد تستدرك أن كل وسيلة ظهرت تركت على سابقاتها آثاراً لا يمكن نفيها، فليست الإذاعة التي كانت قبل التلفزيون هي نفسها التي بعد ظهوره، كما أن التلفزيون لم يعد كما كان قبل ظهور الإنترنت، وبثقة أدنى يمكن القول إن موقع الكتاب ودوره تأثراً بتحولات ممتدة عبر تاريخه.

الحديث الآن، وهنا، عن استعمال التقنيات الحديثة في نشر الكتاب، سواء عبر نسخة إلكترونية من أصل ورقي، أو حتى عبر كتاب إلكتروني دون مقابل ورقي. هنا يمكن الحديث عن تجاوز متنامٍ لقدرة الرقابة، وبلوغ متوقع لمناطق أبعد من قدرة وسائل النقل التي يتم عبرها شحن الكتب عادة، فضلاً عن تخفيض استثنائي في التكاليف عبر تاريخ صناعة الكتاب؛ كما أنه حديث لابد أن يبلغ تطور إمكانية النسخ والاعتداء على الحقين المادي والأدبي للمؤلف والناشر.

بعض دور النشر العربية والمحلية بدأت عملياً خطوات تدشين مسار إلكتروني لإصداراتها، ويعتقد عبدالعزيز الخضر أن هذا خيار أفضل «لأن النسخ الإلكترونية حاضرة الآن وبدون إذن المؤلف ولا الناشر»، معتبراً أن هذا لن يؤثر على مبيعات النسخ الورقية للكتب «الجيدة». فيما يتوقع محمد السيف أن الاستثمار الأساسي للناشرين سيبقى في الكتاب الورقي على المدى المنظور، «هذا هو الواقع الآن، وهو واقع قابل للتغيير ولو بعد حين، والناشر الجيد يجب أن يكون جاهزاً». يؤيد عبدالله فهد هذا الرأي «الكتاب الإلكتروني ليس بديلاً عن الورقي؛ رغم توافر النسخ الإلكترونية، إلا أن الإقبال على نظيرتها الورقية لا يزال عالياً».

دهليز الأرقام
إحدى المعضلات الرئيسة في تقييم ظاهرة طفرة الكتاب في السعودية هي الأرقام؛ فحيثما يممت وجهك سترى من يجزم بأرقام مبيعات كتاب ما، وستسمع من يشكك في هذه الأرقام. وقلب هذه المعضلة أن الأرقام هي من ضمن الملكيات الحصرية العائدة للناشر، وحيث إن الأخير صاحب مصلحة مباشرة فإن افتراض صحة الأرقام بصفة دائمة متعذر، تماماً مثل افتراض أن من لا يملك الأرقام يمكنه التأكيد أو النفي. وحتى في الحالات التي تسعى فيها الصحافة بلوغ أرقام دقيقة -أو تكاد- عبر تجاوز الناشر فان اجتهادها يضيع بفعل الاعتماد على الدوائر القريبة إلى الصحافي أو العينات المتاحة من الجمهور، وكلا الخيارين لا يعكسان بالضرورة خيارات بقية الجمهور.

شرع بعض من الناشرين في الإفصاح عن شيء من الأرقام بعيد معرض الرياض الدولي للكتاب، إلا أن المنظمين لا يعلنون -ويبدو أنهم لا يملكون- أرقاماً دقيقة ولا تفصيلية لمبيعات الكتب. وفي العموم يبدو النفي أسهل من الإثبات في هذه الحالة، إذ إن إدارة المعرض لا تسمح بأن يتوفر في جناح الناشر أكثر من 100 نسخة من كل عنوان، وحيث إن التزويد يتم مرة واحدة في اليوم بما لا يتجاوز 100 نسخة للعنوان، وأن المعرض يمتد لعشرة أيام، فإن القول لو أن كتاباً ما بيع منه ما يزيد على 1000 نسخة خلال المعرض لا يَعدو أن يكون مبالغة؛ بل يمكن القول إن هذا الرقم هو الحد الأقصى الذي يتعذر بلوغه في الأغلبية العظمى من الحالات. ويساند هذا الاعتقاد أن توزيع المستودع بين الناشرين لا يبقي لكل منهم إلا مساحة محدودة -في أفضل التقديرات هي 24 متراً-، ومع التعدد الكبير في العناوين لكل ناشر فإن تخزين آلاف النسخ من عنوان واحد يبدو أمراً متعذراً. ومع كل هذا فإن القول إن الاستثناء كان غائباً بصفة مطلقة متعذر بدوره. وعليه فإن هذه الاستنتاجات لا تقوم أدلة قطعية وإنما قرائن ينصح معها المتلقي أن يكون أكثر حذراً في تصديق كل الأرقام المعلنة، والأهم أن غياب الأرقام الدقيقة يبقي السؤال بلا جواب آني أو منتظر، خصوصاً مع انعدام جهة مستقلة تملك أدوات التحقق من الانتشار.

وفي الخلاصة فإن التركيز هنا على هذه المسألة يهدف إلى تعزيز الشك المبدئي في دقة وصف ما يجري بمصطلحي «الظاهرة» و«الطفرة». وبمنظور أوسع فإن هذا الغياب حالة عامة تاريخياً بما يجعل الباحث على شك في ماضي ظاهرة انتشار الكتاب في السعودية لا في حاضرها فحسب. كل تلك العناوين الشهيرة في ذاكرة المكتبة المحلية هي مؤثرة في وعي النخبة وبناء على تقديراتها؛ لكن ما هي درجة انتشارها خارج نطاق النخبة؟!. الإجابة التي لا تزال ممتنعة عن هذا السؤال هي الطريق الأسلم علمياً لتكوين تصور يتصف بالجدية في تقييم «الظاهرة».

التسويق .. أخيراً يشمل الكتاب
ظلت مسألة التسويق التجاري للكتاب في السعودية محصورة في نطاق الصفحات الثقافية ضمن الصحافة الورقية بصفة أساسية؛ جاء هذا عبر مبادرات الصحافيين أو المؤلفين، بالإضافة إلى تناقل الخبرات من خلال التواصل الشخصي بين القرّاء. مع ولوج مرحلة الإنترنت في نهاية القرن الميلادي العشرين تحول هذا التناقل إلى صيغة إلكترونية أوسع انتشاراً. بات من الميسور على المؤلفين، وكذلك الجمهور المهتم، نشر إعلانات عبر الشبكة تتسم بالمجانية وسعة الانتشار ودقة التوجه إلى المهتمين، سيصل هذا المسار إلى مرحلة أكثر تميزاً عبر طريقين؛ أولاهما مع المواقع على الإنترنت التي تقدِّم خدمات البيع المباشر، سواء كانت هذه المواقع تابعة لمكتبات أو لناشرين، مثل «النيل والفرات» و«الساقي». والثانية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، يجدر التمثيل هنا بحسابات «طوى» و«الشبكة العربية» و«مدارك» و«جداول» و«أثر» على (تويتر).

دور النشر السعودية المهاجرة لعبت في الآونة الأخيرة دوراً أبرز مما سواها في تسويق كتبها عبر حزمة من الإجراءات التي لم تكن من قبلها. قدّم لي محمد السيف نموذجاً في هذا الشأن، ترسل «جداول» إلى ألفي شخص -مثقفين وإعلاميين ومهتمين- عبر البريد الإلكتروني عناوين ونُبذ وأغلفة الكتب الجديدة. كما تقوم بإرسال 20 نسخة من كل إصدار جديد إلى الصحف في السعودية ولبنان. بالإضافة إلى عرضها على صفحتها على «فيس بوك» وموقعها على الإنترنت الذي تتاح فيه خاصية الشراء.

منافذ البيع المباشر .. في السعودية
يقر محمد السيف بأهمية وجود منفذ بيع محلي في ظل قلة المكتبات الكبيرة التي توصل الكتب إلى الجمهور طوال العام وليس فقط خلال معرض الرياض؛ المحدود زمناً ومكاناً. لكنه يرى أن قيام جميع الدور السعودية المهاجرة بإيجاد منافذ بيع سيؤدي إلى إضعاف فرص النجاح في هذا النشاط. ومن هنا فإن «جداول» تميل إلى توزيع كتبها ضمن المكتبات القائمة أو الجديدة التي يحاول الناشرون المهاجرون إنشاءها قريباً في السعودية.

ويربط السيف بين هذا التخلي وتخلي أغلب الناشرين عن تملك المطبعة. تملك المطبعة يكلف الناشر حمولة مالية وإدارية تثقل حركته، فضلاً عن أي مخاطر تتعرَّض لها المطابع نتيجة أي تطورات في لبنان. «الآن نحن نطبع في بيروت وعند حدوث أي مشكلات يمكن أن نحوِّل مسار الطباعة إلى أماكن أخرى». بالمثل فإن إيجاد منفذ بيع في السعودية أو غيرها يعني حمولات مالية وإدارية إذا أمكن تجاوزها من خلال البيع المباشر للمكتبات فهذا أفضل وأسلم.

في المقابل تملك «الشبكة العربية» خطة مختلفة؛ يقول نوّاف القديمي: إن الدار تملك بالفعل مكتبتها الخاصة في القاهرة، وستكون مكتبتها الثانية في الرياض؛ «نبحث حالياً عن الموقع المناسب». وفي مسألة ضعف فرص النجاح مع كثرة مكتبات الناشرين المتوقع إنشاؤها يقول القديمي إنه لا يظن أن الجميع سيأخذون نفس الخطوة.

معضلة حقوق الناشرين الأجانب
د. حمزة بن قبلان المزيني

نُشر لي إلى الآن سبعة عشر كتاباً، واثنان في طريقهما للنشر.
ويمكن تصنيف كتبي إلى كتب في اللسانيات (وهو تخصصي العلمي) وكتب في قضايا فكرية وثقافية وتعليمية تدخل كلها في إطار الاهتمام بالشأن العام في المملكة. ونشر بعض هذه الكتب في المملكة ونُشر بعضُها خارج المملكة: في المغرب ومصر ولبنان.
وقد واجهت بعض المشكلات المزعجة شيئاً ما في نشر الكتب العلمية في اللسانيات. ذلك أنه لما كانت معظم كتبي في هذا التخصص ترجمةً من اللغة الإنجليزية فقد كان يعترضني دائماً عدم سماح الناشرين الأصليين للكتاب بلغته الإنجليزية بإعطائي حقوق النشر اتباعاً لسياسة متَّبعة تقضي بعدم إعطاء تلك الحقوق للأفراد وحصر الاتفاق بشأنها على الناشرين العرب المعتمدين.
وكان بعض الناشرين العرب لا يريدون توقيع اتفاقيات حقوق النشر مع الناشر الأجنبي؛ ذلك أنه يترتب عليه دفع مبالغ معيَّنة مقابل الاحتفاظ بحقوق النشر باللغة العربية. وهذا ما جعل بعض الناشرين العرب يتمنَّعون عن نشر ترجماتي، وهو ما ترتب عليه تأخر نشر بعضها لسنوات. كما كان بعض الناشرين العرب يمتنعون عن نشر هذه الكتب العلمية لأنها لا تحقق مردوداً مادياً مجزياً، كما يقولون، بسبب العدد المحدود من القرَّاء العرب المهتمين بهذا الموضوع. ويريد بعضهم حذف أجزاء الكتاب المترجم بسبب كثرة صفحاته، إذ يرون أن الكتاب كبير الحجم يترتب عليه جهد مضاعف ويمكن أن يكون سبباً في عدم رواجه!
أما الكتب الفكرية والثقافة والتعليمية فكان نشرها أسهل. ذلك أنها تتناول قضايا موضع اهتمام من القرَّاء على مختلف المستويات. وقد نشرتُ ستة كتب جمعتُ فيها بعض المقالات التي نشرتْها لي بعض الصحف السعودية والعربية عن قضايا التعليم، والتشدد الديني، والتجانس المجتمعي، وبعض القضايا الثقافية واللغوية.
ولابد من القول هنا إن تجربتي مع الناشرين كانت ممتازة جداً! فقد وافق أكثرهم على نشر كتبي مباشرة، ومن غير اهتمام بتفاصيل العقود. ويمكن أن أحكي تجربتين دالتين على ذلك:
فقد كنت في القاهرة في صيف سنة 2003م، وكنت قد ترجمت عدداً من المقالات والمحاضرات السياسية التي كتبها أو ألقاها الناقد السياسي البارز واللساني الأبرز نعوم تشومسكي، وعدداً من المقالات والمحاضرات والبيانات التي صدرت عن شخصيات مماثلة عن قضايا الإرهاب والحرب عليه وعن التدخل الأمريكي في المنطقة. فذهبت إلى صاحب مكتبة مدبولي، الحاج مدبولي -رحمه الله-، وعرضت عليه الكتاب، فطلب مني نسخة إلكترونية منه على (سي دي) فأعطيته ذلك وطلب مني العودة إليه بعد أسبوع. فلما قابلته بعد أسبوع قال لي إن الكتاب سيكون بين أيدي القرَّاء بعد أسبوعين! وهذا ما حدث! وأود الإشارة إلى أنه ناولني عقداً لتوقيعه فوقعته لا يتضمن أية حقوق مادية. لكنه زودني بعدد من النسخ من الكتاب بعد نشره.
والمثال الثاني أني ذهبت في صيف 2004م لمقابلة الدكتور جابر عصفور، المدير السابق للمركز القومي للترجمة في مصر، لعرض ترجمتي لكتاب نعوم تشومسكي «آفاق جديدة لدراسة الذهن واللغة»، وهو الكتاب الذي كنت أخشى ألا أجد له ناشراً عربياً لأنه متخصص جداً في اللسانيات والأسس الفلسفية والفكرية التي تقوم عليها. وقد وافق الدكتور عصفور مباشرة على نشره وطلب من إحدى الموظفات في مكتبه مراسلة الناشر الأجنبي فوراً للحصول على حقوق النشر. وهذا ما حدث، إذ نشرت الترجمة في 2005م. والأمر نفسه، وبالتفاصيل نفسها، حدث حين عرضت على الدكتور عصفور ترجمتي لكتاب الأستاذ الجامعي السنغافوري، محبوباني: «هل يستطيع الآسيويون أن يفكروا؟». وقد دفع لي مركز الترجمة مقابلاً مجزياً وعدداً من النسخ من الكتابين.
وحدثت المعاملة نفسها مع صاحب دار الانتشار العربي، الأستاذ نبيل مروَّة الذي نشر ستة من كتبي التعليمية والثقافية والفكرية. فقد كانت موافقته على نشرها فورية. وكذلك الأمر مع أصحاب دار جداول للنشر التي نشرت ترجمتي لكتاب الفيلسوف الهندي الأصل أمارتيا سين «الهوية والعنف»، 2012م.
وملخص القول أن تجربتي مع الناشرين كانت جيدة على الرغم من بعض المنغصات الخفيفة التي أشرت إلى جانب منها. وكان الهاجس الأول لي، ولا يزال، أن تُنشر كتبي، وتأتي المطالبة بمقابل مادي عنها في آخر ما أهتم به. وسبب ذلك أنه حتى لو تقاضيت عائداً مادياً فسيكون قليلاً نظراً لأن ما يباع من أي كتاب في العالم العربي لا يتجاوز في العادة ثلاثة آلاف نسخة. وهو ما يؤدي إلى ارتفاع قيمة الكتاب على معظم القرَّاء في العالم العربي.

تجاربي الخاسرة الرابحة
بدرية البشر

كنت للتو قد خرجت من تجربة نشر فاشلة مع أحد الناشرين السعوديين مع كتابي الأول «نهاية اللعبة» لم تسفر عن وصول كتابي للمكتبات بشكل مطلق. فانتهيت بالاتفاق معه على أن أشتري باقي النسخ وأوزعها بنفسي، وقد كانت تجربة التوزيع التي مررت بها أليمة وفاشلة بامتياز، لكنها زودتني بمعرفة كبيرة عن عالم النشر والتوزيع واكتشفت فيها أن كونك كاتب، ولو خاسر، أفضل من كونك ناشر رابح!.
بعدها صرت أطمح للنشر عبر دور نشر عريقة يفتش عن اسمها القارئ، حالما يحل في أي معرض كتاب، ويغامر بشراء الكتاب الذي تضع اسمها عليه. وعندما أصبحت مجموعة القصص القصيرة الثانية جاهزة قابلت بالصدفة المرحوم الدكتور سهيل إدريس، صاحب «دار الآداب للنشر» العريقة، إذ كنت قد تعرَّفت إلى ابنته رنا في معرض الكتاب بالقاهرة. كان حلمي يبزغ أمام عيني، وحين عرف أن لدي مجموعة جاهزة باسم «مساء الأربعاء» تحمَّس لنشرها، وبرَّر حماسه بأنه يريد لداره أن تدعم نشر أصوات سعودية شابة، وأن الحماس يزداد أكثر حين يكون هذا الصوت لأنثى؛ فالسعودية ظلت حتى وقت طويل بالنسبة للقارىء العربي جهة مجهولة المعالم غامضة، عصية عن السبر، وأن الحُجب تزداد حلكة مع الأنثى لذا فلا بد أن يكون نشر كتاب لكاتبة من السعودية حالة مثيرة للحماس والفضول بسبب ندرة الأصوات النسائية التي تنشر خارج المملكة؛ وقد كان محقاً. ففي تلك الأيام لم تكن الكاتبة السعودية قد بدأت بالنشر، وإن وجد فهي تجارب نادرة ومتعثرة وبعضها اكتفى بالنشر في الداخل. تبنت «دار الآداب» مشكورة نشر كتبي الأربعة؛ مجموعات القصص القصيرة ثم رواية «هند والعسكر». ولم ينقطع حماس الدار عن تبني أصوات سعودية شابة جديدة أبداً حتى بعد وفاة الدكتور سهيل إدريس.
بعد رواية «بنات الرياض» التي أعدها حدثاً يعادل أحداث 11 سبتمبر في تاريخ الرواية السعودية، على مستوى كشف المحجوب ليس من خلال مضون الرواية بل من خلال واقع النشر العربي وتجاوب القارئ السعودي؛ فالذي تسبب بنجاح «بنات الرياض» هم القراء السعوديون وليس العرب. لقد كشفت ظاهرة بنات الرياض أسراراً عديدة نلمسها ونعيشها، لكن تجربة نشر الرواية جعلتها حقائق معلنة وأكيدة. أولها النمو السكاني الهائل في فئة الشباب، وثانيها دور التقنية الجديدة من مواقع الشبكة الإلكترونية التي رفعت غطاء الحجب وساهمت في إزالة الستار. كما كشفت ثالثاً عن حجم العطش الهائل الذي تراكم في نفس القارئ والفضول الذي جعله يريد أن يعرف شكل من يعيش معه في نفس المدينة، لكن حواجز العزل والفصل ومحاربة الاختلاط وغياب الإنسان عن الشارع، جعلتهم كمن يعيش مع آخرين في غرفة مظلمة يسمع همهماتهم لكنه لا يفهمهم؛ فجاءت الروايات لتكشف له كيف يفكر هذا الآخر وما الأسرار التي يقترفها بعيداً عن السلطة الاجتماعية وربما انتقاماً من وصايتها. تحوَّلت الأعمال السعودية إلى نمائم واحتجاج واعتراض وربما سخرية، فأصبحت كل قصة أو رواية بمثابة اعترافات شخصية أوسيرة ذاتية يحق لمن شاء من القرَّاء أن يحاسب الكاتب على ارتكابها أو على التصريح بها. في هذا المناخ المشحون بالنميمة والملاحقة والفضول، عرف الناشر العربي أن كل ما يأتي من السعودية مضمون البيع وربما الربح، لهذا وقعت أسماؤنا وخاصة النسائية كوقع جواهر تلمع في قلب الناشر العربي.
لا يزال دور الناشر العربي من وجهة نظري قاصراً مقارنة بدور النشر الأجنبية، فدور لجنة القراءة التي يكلفها الناشر بقراءة الكتاب تنتهي عند التوصية بنشر الكتاب أو عدم نشره، ثم تصحيحه نحوياً ثم طباعته، لكن دور النشر العالمية لاتكتفي بتصحيح النحو في النص بل تقوم بعملية تحرير حقيقية تعالج النص وتشده وتربطه، وتعرف أين مواقع القوة فيه فتطلب من الكاتب تطويرها وتعرف أين مواقع الضعف فتعالج ضعفها إما بحذفها أو تعديلها. تعرف أين يمكن أن تتمدد شخصية أكثر وأين يمكن أن تتقلص. قالت لي مرة السيدة رنا إدريس ملاحظة ذكية هي إن شخصية «عموشة» في نص «هند والعسكر» كان يمكن أن تكون أكبر، والآن أرى أنها كانت محقة بشكل كبير، كان يمكن أن تكون البطلة الرئيسة التي تتمدد في الرواية بشكل أكثر لكنها ذكرت لي هذا الرأي كانطباع شخصي، ولم تقترحه لجنة القراءة أو تنتبه إليه. لا يزال دور الناشر العربي محدوداً مقارنة بالناشر الأجنبي وكما رأيت وسمعت فإن السوق السعودية للكاتب والناشر هي سوق رابحة منذ عقد من الزمن أو أكثر ولا يوجد مبرر لعدم تطوير هذه الصناعة بالقدر الذي نأمله خاصة أن الناشرين العرب لهم تجربة لصيقة بالتجربة الغربية، فمنهم من درس هناك ومنهم من يجيد لغات أجنبية، ويتصلون بناشرين غربيين، أي إن استفادتهم من التجربة الغربية ممكنة وغير مستحيلة.
كما جاءت جائزة «بوكر» اليوم كحافز تتبارى دور النشر قبل الكاتب في حيازتها لأن ناشر الرواية الفائزة يحظى بسمعة الناشر الفائز أيضاً فيلقى رواجاً وقبولاً واسعاً في مجتمع الكتاب والقراء. المحفزات على عكس ما يروج تزداد حتى بمحاذاة الخسائر التي يسببها الإعلام الجديد. على الأقل لا يزال الحماس لشراء كتاب أو رواية موجود؛ فعندما صدرت روايتي الثانية «الأرجوحة» قبيل معرض الكتاب بيومين وبعد عودة الناشر في معرض الكتاب اتصل بي يطلب مني التوقيع على طبعة ثانية فجميع النسخ بيعت في خمسة أيام. لا يزال جمهور الشباب شغوفاً بالقراءة، يقوده الفضول للتعرف إلى ماهو مسكوت عنه منذ عقود. ربما هي حالة لابد أن نمر بها حتى نتخلص منها بحسب رأي «هيغل» حين قال: إننا لا يمكن أن نتخلص من الماضي إلا بالمصارحة معه؛ وها نحن نتصارح.

أضف تعليق

التعليقات