فنان و مكان

طاغور وشانتينيكتان

image_2_1قبل قرن ونصف القرن، لم يكن اسم «شانتينيكتان» موجوداً على خريطة الهند، فقد كان المكان مجرد أرض زراعية في أحد الأرياف النائية. أما اليوم، فهو اسم عالمي اللمعان في مجال التعليم الجامعي بفعل احتضانه جامعة «فيشفا- بهاراتي»، التي تُعد من أرقى جامعات الهند، وأكثرها انفتاحاً على تطوير التعليم العالي. وما كان لكل هذا التحول أن يكون، لولا تلك الرابطة القوية التي جمعت الفيلسوف والشاعر والروائي والرسام والموسيقي رابندرانات طاغور بتلك المزرعة التي ورثها عن أبيه.

ولد طاغور عام 1861م في كولكاتا (كالكوتا سابقاً) بولاية البنغال الغربية حالياً. ومنذ ما قبل وفاته عام 1941م، كانت مؤلفاته في الفلسفة والشعر والرواية والقصة قد اصطفت في مكتبات العالم قرب مؤلفات أفلاطون ودانته ودوستويفسكي، بعد أن أتته بجائزة نوبل للآداب عام 1913م. ومحلياً، كان لأدبه الدور الأبرز في تحديث الأدب الهندي عموماً والبنغالي تحديداً، ووضعه على سكة القرن العشرين. ومن شعره اختير النشيدان الوطنيان للهند وبنغلادش.

المزرعة التي صارت مدرسة
10079128_tag_www-ward2u-comينتمي طاغور إلى أسرة ثرية كانت تمتلك أراضي كثيرة ومتفرقة في بلاد البنغال. وبعد ولادته بسنة، كان والده مهارشي ديفيندرانات طاغور في رحلة نهرية، عندما مرّ بأرض زراعية قرب قرية اسمها بولبور على بُعد 160 كيلومتراً من كالكوتا، فاستوقفته بتربتها الحمراء وحقول الأرز وأشجار نخيل التمر فيها. فاشتراها، وبنى فيها مركزاً للتأمل، سمَّاه «شانتينيكتان» ومعناه (بيت السلام).

كان طاغور في الحادية عشرة من عمره عام 1873م عندما اصطحبه والده لأول مرة إلى شانتينيكتان في إطار رحلة عبر الهند. ولكنه، ما بين الدراسة (من دون الحصول على شهادة) في بريطانيا، وانغماسه في التأليف الأدبي، وانتقاله عام 1890م مع عائلته إلى شيلايداها (حالياً في بنغلادش) لإدارة أملاك العائلة فيها لمدة سنوات عشر، فإنه لم يعد إلى شانتينيكتان إلا في عام 1901م، للاستقرار فيها حتى عام 1932م. وكانت شهرته في عالم الأدب قد خرجت من شبه القارة الهندية إلى العالم خلال العقدين السابقين اللذين شهدا بعض أعظم مؤلفاته، خاصة في مجال القصة.

نمت شانتينيكتان حتى أصبحت مدينة جامعية متكاملة، متصلة ببولبور التي كانت قرية صغيرة وصارت اليوم مدينة يبلغ عدد سكانها نحو 90 ألف نسمة

وفي شانتينيكتان، حوّل طاغور مركز التأمل الذي كان والده قد أنشأه إلى مدرسة تجريبية سمَّاها «باتها بهافان»، وأسس لها مكتبة خاصة بها، وخطط الحدائق من حولها، وطبّق فيها نظريته المتحررة جداً في التعليم. إذ كان يؤمن بالتعليم في الهواء الطلق ويقول «إن الجدران تحدّ من نشاط العقل»، وحول التعليم التقليدي الذي لم يكن يؤمن بقيمته، كان يقول: «لا أذكر ما لقنوني إياه في المدرسة، بل أذكر ما عرفته أنا». ومن الذي درسوا في هذه المدرسة أنديرا غاندي، التي أصبحت رئيسة وزراء البلاد لاحقاً، ومن الذين تخرجوا منها المخرج السينمائي العالمي ساتياجيت راي.

والمدرسة تصبح جامعة
screen-shot-2016-09-06-at-4-24-45-pmفي عام 1913م، كان طاغور أول أديب غير أوروبي يحصل على جائزة نوبل للآداب. وبعد ذلك بسنتين، منحه ملك بريطانبا جورج الخامس لقب فارس. غير أن المجزرة التي ارتكبها الجيش البريطاني في أمريتسار عام 1919م، دفعته إلى رفض اللقب. وقرر تركيز جهده على تطوير المدرسة في شانتينيكتان. فبالمال الذي كسبه من جائزة نوبل، وبالتعاون مع خبير بريطاني في الاقتصاد الزراعي يدعى ليونارد إلمهيرست، أسس طاغور عام 1921م «معهد التطوير الريفي» قرب المدرسة التي كانت ولا تزال قائمة حتى اليوم، ليكون بذلك نواة الجامعة التي نمت لاحقاً، وسمَّاها مؤسسها «فيشفا – بهاراتي».

بعد تأسيس المعهد ببضعة أشهر، تلقى طاغور دعوة لزيارة البيرو والمكسيك، وتخليداً لذكرى هذه الزيارة، قدَّمت كل من حكومتي البلدين 100 ألف دولار أمريكي هدية للجامعة الوليدة، التي راحت تتوسع وتضيف إلى التطوير الريفي تخصصات أخرى.

وخلال إقامته في شانتينيكتان، كان طاغور يعتاش ويصرف على تطوير المدرسة والمعهد من دفعات شهرية كان يتلقاها من ميراث العائلة (توفي والده عام 1905م)، ومن بيع مجوهرات العائلة، وعائدات كتبه التي بلغت 2000 روبية سنوياً، وأيضاً من دفعات مساعدة منتظمة كان يتلقاها من مهراجا تريبورا.

shantiniketanوالجامعة تتسلَّق قمة التعليم العالي
بقيت «فيشفا – بهاراتي» مصنّفة «كلية» حتى استقلال الهند، وفي عام 1951م، صنّفتها الحكومة «جامعة»، بعدما تعددت معاهدها التي راحت تنمو وتتطور دون توقف حتى يومنا هذا، بحيث صارت تضم معاهد لمعظم المعارف والعلوم، من الفلسفة والعلوم الإنسانية إلى الكمبيوتر والآداب والدراسات البيئية والفنون الجميلة، وصولاً إلى معهد خاص باللغة الصينية وثقافتها.. ومن المميّزات التي تنفرد بها أنه إذا احتاج الطالب إلى دراسة مادة غير مقررة فيها، فإن الجامعة تصمّم منهجاً لتدريسه هذه المادة، وتعيّن الأساتذة اللازمين لذلك.

وصارت هذه الجامعة التي تموّل حالياً من الدولة، تضم اليوم نحو 6500 طالب، و515 أستاذاً. والمكتبة الصغيرة التي أسسها طاغور لمدرسته قبل قرن من الزمن، باتت تتألف من مكتبة مركزية واثنتي عشرة مكتبة فرعية، يؤمها مجتمعة نحو 6500 مستخدم يومياً. وفيها تخرّج عدد من ألمع العقول في الهند وجنوب شرق آسيا، ليس «أمريتا سين» الحائز جائزة نوبل للاقتصاد إلا واحداً منهم.

لقد نمت شانتينيكتان حتى أصبحت مدينة جامعية متكاملة، متصلة ببولبور التي كانت قرية صغيرة وصارت اليوم مدينة يبلغ عدد سكانها نحو 90 ألف نسمة. وما كان كل ذلك ليحصل لولا تلك الرابطة العاطفية التي جمعت طاغور إلى أرض زراعية جميلة، أصبحت اليوم صرحاً جامعياً، ليس أدلّ على مكانته العلمية من كون هذه الجامعة يرأسها مستشار، هو دائماً رئيس وزراء الهند.

 

أضف تعليق

التعليقات