منتج

صندوق التلفزيون الرقمي

Screen Shot 2015-12-23 at 12.15.05 PM copyمضى زمن كان الناس يتحلقون فيه أمام شاشة «الرائي»، في المقاهي والبيوت، ليتابعوا مباراة كرة أو خطاب زعيم. لكن التلفزيون اليوم بات يواجه منافسة ضارية تكاد أن تلغي دور محطات البث الأرضية والفضائية. هذا المنافس المرعب هو الإنترنت. لأن قنوات الإنترنت – اليوتيوب تحديداً – صارت تتيح لك أن تشاهد ما تشاء وقتما تشاء. وصارت توفر كذلك محتوى بديلاً يناسب ذائقة الشباب أكثر، غير مقترن برؤى المخرجين والمنتجين ولا مرتهن بسوق الإعلان.

مؤخراً.. بات اليوتيوب ومشتقاته في مواجهة خطر جديد. فالتلفزة اليوم مقبلة على مرحلة مختلفة تماماً مسخت التلفزيون إلى محض «شاشة» لعرض المحتوى فحسب. أما المحتوى نفسه فمادة رقمية يتم بيعها أو تأجيرها حسب الطلب، من قبل مسوِّقين محترفين عبر صناديق صغيرة حلّت محل «الرسيفر» والحاسوب ووزارات الإعلام بأسرها. نحن اليوم في عصر «التدفق التلفازي» أو (Streaming Television)، والمستحوذون على هذه السوق هم ذواتهم عمالقة العوالم الرقمية: أبل وأمازون وغوغل، ومن سار مسارهم واختط خطهم.

صندوق وجهاز تحكم وبطاقة ائتمان
في السوق اليوم منتج واحد تقريباً لكنه مطروح تحت أكثر من علامة تجارية. يحمل شعار غوغل وأبل وأمازون في إطار حرب شعواء للاستحواذ على سوق البث الرقمي التلفازي. هذا المنتج – مع تعدد اسمه التجاري – له ذات السمات المشتركة: صندوق أسود ينبغي لك وصله بمصدر للكهرباء، وبقابس الإنترنت، وبشاشة التلفاز. كما أنه يأتي بجهاز تحكم عن بُعد. وهذا الوصف يكاد يكون مطابقاً لـ «الرسيفر» التقليدي. لكن الفرق هنا أنك لن تحتاج لصحن «الدش» المزعج وأسلاكه المتدلية من السطح. فعبر فضاء الإنترنت ستتمكن من الوصول لكل محتوى رقمي ممكن. شرط أن يكون لديك حساب مستخدم مرتبط ببطاقتك الائتمانية؛ لأنك ستضطر لأن تدفع لتشاهد.

الكثير من أساطين التلفزيون التقليديين فطنوا للفكرة وتهيأوا للمرحلة المقبلة. شركات الإنترنت الكبرى التي تسوِّق لصناديق البث الرقمي هذه تتيح لك اليوم مشاهدة برامج من إنتاج (HBO)، أو منتجين جدد متخصصين بهذه المرحلة الجديدة من عصر التلفزة مثل Netflix وHulu، إضافة لمحتوى موسيقي من متاجر أبل وSpotify وPandora فضلاً عن مصفوفة لامتناهية من الألعاب وبرامج الترفيه. هذه المنتجات الإنترنتيّة الجديدة تقدِّم خدمة الكل في واحد بشكل غير مسبوق يلغي وظيفة محطة التلفزيون والإذاعة في آنٍ معاً.

تلفاز جديد.. سلوك جديد
تمثل هذه المنتجات مرحلة ثورية جديدة في عصر التلفزيون، لا لأنها ستُنهي وجود محطة التلفزة كما انتهى وجود جهاز «الفيديو كاسيت» قبل سنين.. لكن لأنها ستقلب ممارسة «المشاهدة» رأساً على عقب وعلى نحو سيغيِّر من سلوكنا وتعاطينا من ذلك الجهاز الذي وسم سلوكنا لأجيال.
إن ارتباطنا القديم بالبث التلفزيوني المباشر، ذلك الذي يأتي إلينا في وقت محدَّد وقد لا يعود أو يتكرر إلا بعد لَأْي وفي مستقبل مجهول، جعلنا نتعامل بتقدير واحترام مع المحتوى البصري، وبشيء من الالتزام الأخلاقي كذلك.

في الماضي كان المشاهد مرتهناً بوقت البث الذي تقرره المحطة. وإذا فاته موعد البث لأي سبب كان.. فاته المحتوى. وفي الماضي كان المحتوى التلفزيوني المهم يعامل بتقدير. لا أحد يتكلم ليقاطع المذيع ولا ليفسد لحظة الإبداع الدرامي. لا أحد يجرؤ على أن يمر مروراً من أمام الشاشة وقت تنفيذ ركلة الجزاء أو وقت إعلان الخبر المهم. لكن ومنذ أن تم تقديم أجهزة تسجيل المحتوى التلفزيوني TiVo في بدايات القرن الحادي والعشرين، اهتز هذا التقدير لموعد البث ولفردانيته. تغيَّرت أنماط السلوك. لأن المشاهد بات بوسعه أن يسجِّل المحتوى المباشر ليشاهده وقتما يحلو له مراراً وتكراراً. ربما يُعد ذلك تغيراً حميداً لأنه أدى لاسترخاء أعصاب الكثيرين..

لكن الآن، ومع انهمار صناديق البث الإنترنتي للأسواق وانفتاح سوق لانهائية المحتوى من الأفلام الوثائقية والترفيهية والمسلسلات والأعمال التثقيفية بكل اللغات ولكل الشرائح، فقد تؤدي هذه الوفرة المفرطة إلى أثر معاكس، ولعلها تقود إلى عدم الاكتراث. إن الأعمال الكلاسيكية القديمة قد لا تثير فينا الانبهار نفسه الذي عرفه المشاهد القديم الذي انتظر طويلاً في الماضي ليعثر عليها. كما أن المسرحية التي لم تكن تُعرض إلا صبيحة العيد قد صارت على بعد بضع نقرات في أي وقت. أعمال المخرجين العظماء، أفلام الرعب النادرة، كلها متوافرة وحاضرة حتى حدّ الابتذال.. طالما توفَّر في بطاقتك الائتمانية ما يكفي من رصيد.

أضف تعليق

التعليقات