فنان و مكان

حسن فتحي في الدرعية وجدّة

قبل أشهر احتفل محرك البحث العالمي غوغل، بالذكرى 117 لميلاد المهندس والمعماري المصري حسن فتحي، المعروف باسم “مهندس الفقراء”، إذ كان جلّ همّه إيجاد هندسة معمارية تؤمّن منازل صحية وتسمح بعيش كريم للفقراء من الفلاحين في القرى أو النازحين منهم إلى ضواحي المدن الكبرى. ولهذا المهندس الفنان والإنساني المبدع إسهامات معمارية مهمة في المملكة، إضافة إلى دراسته المعمَّقة للعمارة الطينية في الدرعية التي زارها أكثر من مرَّة.

وُلِدَ حسن فتحي في 23 مارس من عام 1900، في الإسكندرية. وكان تأثره بالغاً بحياة الريف المصري وبحالة الفلاحين الذين يعيشون فيه. وحصل على دبلوم في فن العمارة من “المهندس خانة” (كلية الهندسة)، بجامعة الملك فؤاد الأول في عام 1926. وكان أول أعماله بعد تخرجه بناء “مدرسة طلخا الابتدائية” بريف مصر، ومنها أتى اهتمامه بالعمارة الريفية التي كان يسميها “عمارة الفقراء”.

غادر فتحي مصر في العام 1959 للعمل لدى مؤسسة “دوكسياديس” للتصميم والإنشاء في أثينا مدة عامين. ثم عاد إلى مصر مرَّة أخرى. وكان سبب تركه مصر الروتين البيروقراطي الحكومي، وفشله في إقناع المسؤولين بالموافقة على مشروعاته الرائدة.

في المملكة و “مدرسة” الدرعية
في عام 1974، أثناء عمل حسن فتحي على بناء أحد القصور وفق الطراز التقليدي في مدينة تبوك، فوّضته “منظمة الأمم المتحدة للتنمية الريفية” بزيارة بلدة الدرعية كمهندس استشاري. وكانت مهمته المحدّدة هي تصميم منزل نموذجي من الطين، يكون مثالاً يحتذى به لبناء وهندسة منازل أخرى سيتم بناؤها أو ترميمها في الدرعية نفسها، أو في مناطق أخرى من المملكة لتحسين الحياة القروية. والدرعية هي مهد الدولة السعودية الأولى وعاصمتها، وقد أدرجتها منظمة اليونيسكو ضمن قائمة مواقع التراث العالمي قبل بضع سنوات، بفعل مكانتها التاريخية، وأيضاً بسبب تعبيرها عن التلاحم ما بين التطور الحضري والبيئة الطبيعية المحيطة به، يدل على ذلك فن العمارة التقليدي في هذه البلدة، باعتماده على الموارد الطبيعية المتوفرة محلياً من طين وحجر رسوبي وأخشاب.

وجد فتحي في الدرعية أمثلة بارزة على العمارة النجدية الطينية في أنقى صورها، على الرغم من التآكل الذي أصاب بيوتها وقصورها بمرور الزمن. فدرس هذه العمارة جيداً، ونشر لاحقاً مقالة بعنوان “المنازل النموذجية في الدرعية”، وصف فيها خصائص هذه العمارة ومدى ملاءمتها لمحيطها الصحراوي والحاجات اليومية للعائلات التي تسكنها. ومعلوم أن هندسة حسن فتحي قامت على استخدام مواد البناء الطبيعية الموجودة في بيئة البناء، أينما وقع هذا البناء. وكان يرى أن على البناء أن يخرج من الأرض التي يبنى عليها، ولا يجب إفساده بإحضار مواد لبنائه غريبة عن بيئته. وجرّب نظريته هذه حين بنى قرية بكاملها من الطين في مدينة الأقصر في مصر، سميت قرية “القرنة”، وكان يهدف منها إلى إعادة إسكان الأقصريين الذين اتخذوا من مقابر الملوك والنبلاء محلات لإقامتهم.

وبيت نصيف التاريخي
ومن منجزات فتحي الأخرى في المملكة، مشروع ترميم “منزل نصيف” الذي نفّذه في عام 1973. وبيت نصيف هذا، هو أحد أهم المعالم العمرانية والتراثية في مدينة جدة، يعود تاريخ بنائه إلى عام 1881.

وكان تأييد الدكتور عبدالرحمن نصيف غير المحدود لأفكار فتحي نابعاً من اقتناعه الشخصي بأهمية إعادة الاعتبار إلى التراث العمراني، خصوصاً في مدينة جدة التاريخية، التي سجّلت بدورها على لائحة التراث العالمي، لما تحويه من عمران تراثي مميّز بين مدن البحر الأحمر. وبات اتجاه فتحي ونصيف في دعم العمران التراثي يجد قبولاً متزايداً لدى المهتمين والمؤرخين والمعماريين في زمن ما يسمى “ما بعد الحداثة”.

“العذيبات” تستدعي روح فتحي
كان حسن فتحي مهندساً ذا هوية خاصة ليس فقط لالتزامه بعمارة الفقراء، بل وبسبب المنازل البيئية وذات الهندسة التخيلية الثقافية والتقليدية والتراثية التي بناها للعملاء الميسورة الحال.

باستخدام الطين لإعادة بناء منزل مزرعة “العذيبات” على مشارف الرياض الشمالية الغربية، أقام صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان ما هو أكبر من مسكن وأكثر من فكرة، وذلك بناءً على أفكار المهندس حسن فتحي في تحقيق مثل هذا النوع من التصاميم القائمة على المواد التي تؤمنها البيئة المحلية. فالعذيبات اقتراح ثقافي يستكشف دور الأسلوب التراثي في العمارة المعاصرة، وبقاء الطين كمادة تتناسب مع احتياجات الحياة الحديثة.

من المفارقات أن نموذجاً لمشروع سكني من الطين بني قريباً جداً من العذيبات، بهندسة حسن فتحي وبطلب من الملك فيصل في حينه، كان غير معروف للأمير سلطان حتى تم تعيين الاتجاه “الفكري” لمزرعة العذيبات. حينها جاء اثنان من طلاب حسن فتحي وهما المهندسان المصريَّان الوكيل واللامي، واقترحا بأن يتم بناء المزرعة وفقاً لفكرة النموذج الذي كان قد أصبح شبه مدمراً. وعليه لا يمكن القول إن العذيبات من تصميم يدي حسن فتحي، لكنها بالتأكيد كانت من تصميم روحه.

أضف تعليق

التعليقات