بيت الرواية

“حذاء فيلليني”

سطوة البوح الجريح وسحر الحلم

يُقدّم الروائي المصري وحيد الطويلة من خلال روايته “حذاء فيلليني” الصادرة عن “منشورات المتوسط” في ميلانو إيطاليا، عالماً يفيض بالهشاشة الاجتماعية والقسوة. يحاول أن يكون صوت كل “الذين صرخوا ولم يسمعهم أحد، وأيضاً الذين لم يستطيعوا أن يصرخوا”، كما دبج ذلك في إهدائه لهم.

تتطوَّر الأحداث في هذه الرواية وتتوالى المونولجات الداخلية، وكأننا إزاء فيلم سينمائي بتقنية ثلاثية الأبعاد، كل مشهد ينقلك بقوة صادمة نحو المشهد التالي، “فما أن تسحب ذيلاً قصيراً، حتى تجد في نهايته فيلاً” كما يقول فيلليني.
فيلليني المخرج الإيطالي الذي اختاره الكاتب لصياغة عنوان روايته، بل جعله من شخصيات عمله، حيث ينتعل البطل “مطاع” حذاءه الكبير ليضيء العنوان وينوره، ويغدو مكوّناً تأويلياً يشبه الثريا.
يتسع “الحذاء” هنا لكثير من المعاني والدلالات، أهمها السير والانتقال من مرحلة إلى أخرى.  كما يدل على المغامرة “أنت لا تعرف معنى أن تغطس إلى قعر البئر وحذاؤك كبير كحذاء فيلليني”، كما يشي بالفزع من الجلَّاد: “حذاء الجلّاد بكعبه المدبَّب في ركن القفص”، “يمكن للغافل أن يعرفه من وقع حذائه”، ويشي بالخوف أيضاً  “خائفين وجلين نخشى أن تتحرّك أصابعنا في أحذيتنا”، “دقات كعبيه واضحة عالية ترجف قلبك”، و جاءت مفردة “حذاء” مضافة إلى اسم علم مشهور هو فيدريكو فيلليني الذي جعل منه الكاتب سبيلاً لخلاص “مطاع” من حيرته في نهاية الرواية، عبر الحلم، كما جعل الأربعة عشر مشهداً تتقاطع وتتعامد مع عناوين سيرته برؤية سينمائية واضحة.

مطاع الشاهد
تدور أحداث هذه الرواية حول شخصية مطاع، وهو الخيط الناظم الذي يسحبه القارئ لتتسلسل الأحداث أمامه، معالج نفسي، وجد نفسه داخل مؤتمر أقامته دولته “لشحذ الهمم القومية”. ولكنه لم يعرف من دعاه إلى المؤتمر ولا سبب ذلك،”أنا لا أعرف من الأساس سبب دعوتي ولا من دعاني، ولماذا؟ هل تشابه اسمي مع اسم آخر؟ تلقيت الدعوة ولم أسأل، مَنْ في مدينتنا يسأل؟ في الأخير أنا معالج نفسي؛ ما علاقتي بهذه اللعبة أصلاً!! الوساوس تنهشني، ربما يكونون قد دعوني ليستجوبوني فيما بعد عن أداء بعض الشخصيات، عن لغة أجسادهم لنعرف منها هل يكذِبون أم يكذِبون؟ ربما يريدون أن يضعوا بعضهم تحت السيطرة ويتهمونهم بالجنون. السلطة ليست طيبة بما يكفي لتعالج واحداً لوجه الله حتى لو كان خادمها الأول، وربما ليتهموني أيضاً بالجنون ذات يوم”.
استجاب مطاع للدعوة،  ليكتشف في النهاية أن المؤتمرين نسوا حقائبهم فوق الطاولات، دفعه الفضول إلى تفتيش بعضها، فكانت المفاجأة: تقارير بوليسية يكتبها كل واحد منهم ضد الآخر.
“فجأة انتبهنا على حقائب دون أصحابها… لو اكتشفها أحد لضاعـت رقابهم، ألهذا الحد تجردوا من المسؤولية؟”.
إن مطاعاً هنا بمنزلة الشاهد على سقوط أقنعة المؤتمرين ونتائج مؤتمراتهم وخلاصة توصياتهم وتقاريرهم وزيف النضالات ووهمية الشعارات على تلك الطاولات لا تعرف مَنْ معك ومَنْ ضدك، لكن النتيجة دائماً أن الجميع ضد الجميع”.

مطاع السجين
دخل مطاع السجن، ومُورس عليه التعذيب دون أن يعرف التهمة ولا السبب “اسمي مطاع. وأقسم أنني لم أقتل أحداً في حياتي سوى النمل والصراصير. ولا أعرف أحداً ولا أعرف لماذا جئت إلى هنا، وأن أبي كان يطبخ يوماً وجارتنا يوماً بعد أن ماتت أمي”.
لم يصدق الجلّاد حكي الرجل، وحاول دفعه لانتزاع اعترافاته من أجل تهمة تليق به، “اكتب كل شيء عن حياتك، لا تترك جملة أو تفصيلة أو إيماءة، وهل كنت تسمع لخطاب السيد الرئيس على الهواء مباشرة، كم مرَّة سمعته في الإعادة، هل خرجت في معسكرات الشبيبة، ما الأغاني التي كنت تردّدها، وما النكت التي كنتم تضحكون عليها والنكت التي كنتم تقعون في حالة وجوم عند سماعها، مَنْ قالها، مَنْ أعادها، مَنْ ردَّدها سراً”.
“كل يوم، يلقون إليّ بالأوراق بينما تنهال الأقلام على وجهي لأكتب قصة حياتي من المهد إلى السجن”. لم تدع أسئلة المحقق أي جزئية لم تتطرَّق إليها من أكل وساعات نوم وغمغمات، بل حتى عن  معرفته بفيلليني وعلاقته به: هل تعرف فيلليني وما علاقتك به؟ الدنيا كلها تعرف السيد فيلليني يا سيدي… نحن نرى أفلامه وندرس شخصياته وكيف يتعامل معها. فيلليني شاعر وليس مخرجاً فقط يا سيدي”.
سبع محاولات متكرِّرة مصحوبة بعنف لفظي واضح، وتعذيب جسدي  حوّل البطل من “مطاع” إلى “مطيع” تغيَّرت ملامحه وهزل جسده. “اسمك مطيع منذ الآن … أعد كتابة كل ما كتبته وابدأ باسم مطيع، هو اسمك منذ الآن وحتى تموت قريباً”.

مطاع المنتقم
والانتصار للأمل

ويشاء القدر أن يأتي  بالجلَّاد إلى عيادة الضحية في زمن لاحق. لكنه لم يكن بتلك القوة ولا الجبروت، بل جاءه ذليلاً وهنت وخارت قواه. قدّمته له “زوجته” الباحثة عن الثأر لسنوات عمرها التي اغتال فرحتها وزهرة عمرها. وحصل ذلك بعد مضي 20 عاماً، لم يستطع مطاع أن يطوي فيها صفحة التعذيب التي تعرّض لها، كما أنه لم ينسَ صوت الجلَّاد الذي اخترق روحه قبل أذنه. فاشتعلت في نفسه الرغبة في الثأر لماضيه والانتقام منه بطريقة بشعة يدفع فيها ثمن جرائمه.
يتقاسم “مطاع” فظاعة التعذيب مع شخصية أخرى هي زوجة الجلَّاد، التي تصف القسوة إلى حدّ الوحشية التي كان زوجها يعاملها بها. لكنها  لم تقوَ على كسر طوق الصمت إلا بعد تقاعد زوجها عن الوظيفة و”الحياة”، استجمعت ذاكرتها، فخطت لإسماع صوت الأنثى المحروق: “لا بد من قتله، لا أريد رأي أحد منكم، الحكاية ليست مطروحة للنقاش ولا للأخذ ولا للرد، أنا من تم تعذيبي، أنا لم أنم منذ عشر سنوات”.

أهم ما يميِّز رواية “حذاء فيلليني” اختيارها للمونولوجات الداخلية بضميري المخاطب والمتكلم، المنولوج الداخلي الذي  يستطيع التوغل إلى أعماق النفس البشرية فيعريها بصدق، ويكشف عن نواياها بحق، ويقدِّمها للقارئ كما هي.

وبهذا، يأخذ التعذيب مساحة مهمة على مستوى السرد، تفاصيل عن التعذيب الذي تعرَّض له مطاع والزوجة على يد الجلّاد. وكل تلك الصور المكثفة والدالة التي ينتصب فيها الوجه البشع للجلّاد  الذي “يطفئ الجريمة بجريمة أخرى”.
وتتضح صورة الجلّاد أكثر في القبو. وتبدأ الحصة برغبة الجلادين في معرفة كل شيء، مع تفننهم في استعمال كل الأدوات الرهيبة والمذلة والحاطة من الكرامة “القبو مكان آخر غير السجن، جحيم آخر، القبو مكان تحت القبر، مكان الحساب على الأرض”.
في هذه المحطة بالذات، يحاول السارد إشراك القارئ، وجعله في قلب العذابات التي يتخبَّط فيها المعالج النفسي، الشخص الجديد الذي غادر السجن بوجه آخر على مقاس اسمه الجديد، بحواجب منتوفة بغلّ لم تسترد عافيتها بعد، وتهتهة خفيفة لا يستطيع تجاوزها حين يتحدَّث إلى مرضاه، بل إنها تذكِّره بضرورة  الثأر من جلَّاده دون رحمة.

انتصار الأمل الذي يقبله الجميع
إن أهم ما يميِّز رواية “حذاء فيلليني” اختيارها للمونولوجات الداخلية بضميري المخاطب والمتكلم، المنولوج الداخلي الذي  يستطيع التوغل إلى أعماق النفس البشرية فيعريها بصدق، ويكشف عن نواياها بحق، ويقدِّمها للقارئ كما هي، لا كما يجب أن تكون كما يقول عبدالملك مرتاض في “نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد”.
يعلو الصوت في “حذاء فيلليني” للإحاطة بسيرة مفعمة بالألم والخيبات والإحباط. لكن سرعان ما يبزغ الحلم، وتتداعى الصور في محاولة للانعتاق من سطوة الذاكرة الجريحة وثقل الماضي والقهر،  والانتصار للأمل لأنَّ “هناك دائماً حياة أخرى ممكنة، لا يجب أن تتماهى مع الجلّاد حتى لا تقع فريسة لروحه الشريرة، أو لشبحه الذي يحوم حول سريرك. عليك أن تنسى كلمة ليت، ليس صحيحاً أن النار تدِّمر كل شيء، تبقى دائماً بارقة أمل، لا تنسَ أن تمنحه لحبيبتك، للشوارع، للمرايا، لمفاتيح الكهرباء، للشروخ في الجدران، الأمل رشوة يقبلها الجميع”.

أضف تعليق

التعليقات

أيمن عبجد السميع حسن

ثراء الحبكة واللغة والفكرة في الراوية هو صنيعةُ مناخٍ واضح في تقديم الشخصيات على سجيَّتها بلا مواربة .. موفق أستاذنا الغالي/ وحيد الطويلة.. واشكر الرائعة/حنان النبلي..علي المقال الجميل..