الرحلة معاً

ثقافة الطاقة.. كيف تُبنى؟

أظن أننا لا ندرك قيمة الطاقة في حياتنا إلا عند لحظة فقدانها. فحين ينقطع التيار الكهربائي عن منازلنا، ذات ظهيرة صيفية، فإن أول شعور يداهمنا هو قصور المنشآت الكهربائية عن تغذية مدننا بالطاقة، لكننا نادراً ما نعترف أننا ضالعون في هدر تلك الطاقة التي لا تقدَّر بثمن. فنحن نبني البيوت لنكتشف لاحقاً أن نصفها وأحياناً ربعها يكفينا. ونهدر طاقة المكيفات وأنواع الإضاءة من دون حساب. ونُراكِم الأجهزة الكهربائية في غرفنا ومطابخنا بما يفيض عن حاجتنا. وقد عشنا عقوداً دون أن نعترف أن الاستهلاك المفرط قد وصم حياتنا، وأن الإسراف المنهي عنه قد طبع هويتنا.
لكننا اليوم نصحو على متغيّر استراتيجي، فعبارة «كفاءة الطاقة» أو «ترشيد الاستهلاك» أصبحت مطلباً يتوجب علينا فهمه وإدراك أبعاده، وهي لم تعد عبارات تتطاير للاستهلاك بل هي حاجة تتداولها الدول، فقيرها وغنيّها، وتعقد حولها المؤتمرات، وتدور حولها المبادرات الحكومية والفردية. ولعل أضخم ما حدث في هذا السياق مؤتمر باريس للتغير المناخي، الذي توافقت فيه دول العالم على مواجهة المخاطر الكامنة التي تتربص بهذا الكوكب المسكين بما فيها الاستهلاك المتسارع لخيرات الأرض.
«الشراهة الاستهلاكية» إذاً يمكن أن تكون عنوان علاقة المواطن الخليجي بمصادر طاقته الشّحيحة منذ قرابة نصف قرن. وإذا كان العالم المتقدِّم متهماً بغلبة الاستهلاك، فإن الفرق بيننا وبين ذلك العالم هو في امتلاكه مصادر اقتصادية متنوعة، أما دول الخليج فإن اقتصاداتها مرهونة إلى حدٍّ كبير بذهب الأرض من النفط والغاز وما يلحق بهما من مجمّعات بتروكيميائية، وهو ذهب معرّض لمتغيرات السوق العالمية، وحجم الاستهلاك، وبدائل الطاقة. واستطراداً، فإن هذه الشراهة المفرطة التي يمكن أن تتناسب مع مزاج الدول الغنية، قد لا تنسجم معنا نحن الدول التي لم تستكمل بُناها التحتية ولا صناعة مواردها البشرية المنافسة، وهذا ما يجعل الاستهلاك خطراً كامناً يهدِّد مكتسبات بلادنا ويعرِّض أجيالها القادمة لمستقبل قلق وغير آمن.
فقد بلغ الإسراف في حياتنا حدّه الأقصى. وأفرطنا في استهلاك كل شيء، الماء والوقود والكهرباء، مروراً بالمساكن والمركبات والملابس والأجهزة الكهربائية والهواتف الذكية وما لا يعد من الأسباب الاستهلاكية.
واليوم، نحن مطالَبون بالتوقف عن كل ذلك، وباعتماد ثقافة الترشيد وكفاءة الطاقة في منازلنا ومدارسنا ومواقع عملنا وموسساتنا الحكومية والخاصة، واعتبار هذه السياسة رهاناً مستقبلياً يتطلب من الجميع تحقيقه وجعله ثقافة جديدة.
ولأوجز هنا بعض الحقائق المعلنة والمؤلمة: فالاستهلاك المحلي للطاقة يشكِّل ما نسبته %38 من إنتاج المملكة من النفط والغاز، ويتوقع أن يتضاعف هذا الرقم بحلول 2030م، وهناك ثلاثة قطاعات تستحوذ على أكثر من %90 من الطاقة لدينا، هي: المباني والنقل والصناعة، كما أن ما نسبته %80 من الطاقة الكهربائية يذهب إلى قطاع المباني، وفي مقدور المملكة توفير قرابة 24 مليار دولار سنوياً من خلال برامج ترشيد الطاقة، وإدخال البدائل المتجددة والنظيفة لتوليد الطاقة.
ثمة إذاً ناقوس خطر ينذر بأن ما ننتجه من مواد هيدروكربونية بعد قرابة العقدين قد يستهلك أكثره محلياً، ولا يبقى منه سوى القليل الذي يمكننا تصديره، وهو ما حفَّز الجهات المسؤولة على التوجه بحثاً عن مصادر طاقة جديدة، وترشيد ما نستهلكه بشكل فعلي.
في 2012م ولد المركز السعودي لكفاءة استهلاك الطاقة بتضامن حقيقي مع الشركات والمؤسسات الكبرى في المملكة. وطموح المركز كبير، فقد وضع معايير جديدة للمواطنين ليبنوا مساكنهم أو أبراجهم وفق شروط جديدة، ويختاروا الأجهزة والمركبات والإطارات الأكثر فاعلية وترشيداً. والمركز يعد بحملات وبرامج تقلص استهلاك ثروتنا.
لكن بناء وعي جديد لدى المواطنين تجاه ترشيد استهلاك الطاقة هو أصعب المهمات، ولن ينجزها المركز وحده. فعلى الأفراد والمؤسسات وقنوات الإعلام والتواصل أن تتضامن لتغيير النسق الاجتماعي العام، وحفظ بعض هذه الثروة لأجيالنا القادمة رأفة بهم من السنين العجاف.

أضف تعليق

التعليقات

ايمان أمان

بالفعل بناء القدرات الوطنية والوعي بشؤون ترشيد استهلاك الطاقة ضرورة لحماية حق الأجيال القادمة وحفظ للموارد الطبيعية من الهدر.