فرشاة و إزميل

في مرسم
تغريد البقشي
في الهفوف

بياض المكان والألوان والأفكار

تغريد البقشي من أكثر الفنانات التشكيليات السعوديات اللواتي تم تسليط الضوء على أعمالهن ومعارضهن. فهي عدا عن كونها فنانة مغامرة على مستوى الخليج العربي، تمتلك خطاً تشكيلياً خاصاً بها، في الشكل وفي المضمون. فمن حيث الشكل تكتنز خطوطها المفعمة بالألوان “العفوية” كما تسميها، أما المضمون فيتناول المرأة وما يعتمل في دواخلها وما ترجوه وتأمله من المجتمع الذي تعيش فيه. وقد باتت لوحتها معروفة لدى المهتمين والمتابعين، وبمجرد أن يراها الناظر سيعرف أنها لتغريد البقشي، ولو لم توقعّها.
وهنا زيارة إلى مرسمها في مدينة الهفوف.

تحت السقف الذي غطى ما كان سطحاً للمنزل، يقع مرسم الفنانة تغريد البقشي، التي أرادت أن يكون مرسمها جزءاً من منزل الأسرة. فالعمل الفني يحتاج إلى استقرار مكاني تنصت فيه إلى فلسفة الروح. وفي الوقت نفسه تؤدي مهامها العائلية بروح امرأة تجد في التحديات وتجاوزها طريقاً لتكوينها. لذا أوجدت توازناً بين مهامها دون أن تأخذ الواحدة اهتماماً إضافياً على حساب الأخرى. فتقول إن اتصال المرسم بالبيت، هو كاتصال هويتها كأم ٍ بالرسّامة التي تكونها. وهذا ما يشعرها بالحميمية تجاه المنزل والمرسم معاً، وتجاه العائلة واللوحة أيضاً، وتضفي العائلة نوعاً من الطاقة الإيجابية والشعور بالأمان. هكذا يكون تبدل المكان تبادلاً متوازياً تتجرَّد فيه من كل متعلقات اليوم وما يثقله، لتشعر أنه عالمها الممتد الصغير بمساحته والكبير بالخيال الذي تصبّه فيه.

القاعة البيضاء
يمكن تسمية المرسم “القاعة البيضاء”، فهو مطلي بالأبيض بكامله، وكذلك خزائنه وأرضيته والطاولة التي تتوسّطه، حيث بدا فنجان القهوة فوقها أكثر سواداً مما يكون عليه في العادة، والإضاءة البيضاء المسلّطة على جوانب الجدران تزيد المكان بياضاً، فتبرز علب الألوان المرصوفة على الأرفف البيضاء، وتبرز اللوحات بألوانها الكثيرة داخل الأبيض العميم، وكأنها معلّقة في الهواء، أو كأننا نراها في برنامج رباعي الأبعاد، على اعتبار أن المشهد الواقعي الطبيعي يجري في برنامج ثلاثي الأبعاد.

تقول: “أحب اللون الأبيض، لأني أعتقد أن من البياض يبدأ كل شيء، فمنه تخرج ألوان الطيف كلها، ومنه تبدأ الحياة حين يُلفْ المولود الجديد بالأبيض، وترتدي العروس الأبيض في عُرسها لتنطلق في حياة جديدة، وكذلك حين يُلف الراحلون إلى الحياة الأخرى بالأبيض، وهذه نهاية لحياة وبداية لحياة جديدة. كأن كل شيء يبدأ من الأبيض وينتهي إليه”.

وإلى ذلك، يضاف ترتيب ونظافة لا يتناسبان مع الصورة النمطية لمراسم الرسّامين الذين يعيثون الفوضى في أماكن عملهم، لأنهم منشغلون بأفكارهم وعوالم خيالاتهم وأنفاق لاوعيهم، على ما تروّج “التصنيفات المسبقة” لشخصيات الفنانين. وقد يكون هذا الترتيب الملموس من نتائج التكوين النفسي والفكري لتغريد. فهي ترى أن الفوضى والتضاد داخل روحها ناتج عن كمّ الأسئلة التي تحتاج إلى تفسير، فيكون المحيط الهادىء والمنظم معاكساً للفوضى. وكانت قد كتبت حول هذا الأمر:”حلقة دائرية، أفكار مزدحمة، وجوه تمر عليَّ في كل يوم، ولا أتذكر منها سوى وجهي، بداخلي فوضى من الكلمات وتساؤلات أرميها خلفي بعد كل عبور، تناقضات تشكلني يوماً بعد يوم، أعرفني باندفاعات تطفو على سطح اللوحة. فالأشياء تتشكَّل كل يوم بوجودي المختلف ومزاجي المتغير… وإن لم أكن كذلك لن أحب ذاتي”.

إنه قمر وليس برتقالة (2014)
عندما يغيِّر المعنى الأشياء

لا يكفي أن تكون أنت في النور حتى ترى، بل يجب أن يغمر النور ما تنظر إليه عيناك حتى ترى.. (جلال الدين الرومي)
كالهواء الذي يتسرب إلى النور .. وينطلق حراً في فكره وتجلياته وبصيرته، بلا ارتداد أفق ممتد ينكشف بالبصيرة ويتماهى إلى أبعد من ارتداد للبصر.
لذا جاء هذا المعرض فلسفياً بدلالة اسمه ( إنَّه قمر وليس برتقالة ) مستوحى من تعدّد المعنى اللفظي في اللغة العربية، واعتماده على السياق الذي ورد فيه ليتوقف عند محطات أعتبرها أنا تفاصيل ربما هي صغيرة بالنسبة للبعض ولا يعيرها اهتماماً لتكرارها والتصاقها وقربها منه. لكنها تعني للبعض الآخر منا كثيراً، وتبنى عليها المعرفة لتأثرها بمواقف عديدة نصافحها مراراً في اليوم الواحد من (انتقال، تغريب، حضارة، عولمة، زمن، حرب، سلام، وسائل التواصل الاجتماعي).

بدايات مسارها
منذ طفولتها كانت تغريد البقشي ترسم بالألوان التي يجلبها لها والدها ليشجِّعها على الرسم، وكانت تحلم أن تصبح رسَّامة مشهورة، وحين يسألها الأقارب أو المعلِّمة ماذا تريدين أن تكوني حين تكبرين، كانت ترد: “رسّامة”. لم تكن الجامعات السعودية قد افتتحت فروعاً للفنون في أواسط التسعينيات من القرن الميلادي الماضي، فدرست اختصاص “علوم وتربية” الذي يضم من بين مواده التعليمية بعض الحصص الفنية، كالرسم والخياطة. واستغلّت تلك الحصص لتنمِّي قدراتها. ثم راحت تتلقّى دورات خاصة على يد مدرِّبات ورسَّامات في السعودية، قبل أن تتوجه بعد إنهائها اختصاصها الجامعي إلى سوريا، حيث درست في جامعة دمشق، إضافة إلى التحاقها بدورات خاصة أخرى على يد أستاذتها في الجامعة. وأنهتها بدراسة الماجستير في اختصاص مناهج وطرق تدريس الفنون من جامعة الملك سعود بالرياض.

إنَّ رؤيتي هذه انبثقت من شعوري بأنَّ الرسم كفن تعبيري بمنزلة تنفس وإطلاق قوة كامنة خفية

عملت الفنانة تغريد البقشي بجدية على صقل قدراتها وموهبتها، ودأبت على تلقي وتعلّم كل أنواع الفنون التشكيلية طالما تمكّنت، فأتقنت رسم الأشياء والأشكال الواقعية، أو ما يسمى بالرسم “الأكاديمي”. وهذا ما يبدو واضحاً في لوحات معارضها الأولى على عتبة القرن الحالي. ولكن طوقها للتحرّر من القواعد الأكاديميَّة ومن رسم المناظر، وإصرارها على إخراج ما يعتمل في نفسها ولا وعيها -خاصة وأنها كتبت نصوصاً نثرية شاعرية مبكراً- جعلها تبحث عن خطّها التشكيلي الخاص الذي سيميّزها لاحقاً عن الآخرين، وسيتحوّل إلى دلالة على هويتها الفنية. فتقول “انبثقت رؤيتي هذه من شعوري أن الرسم كفن تعبيري بمنزلة تنفُّس وإطلاق قوة كامنة خفية. وهو مصنع لخلق الجديد. فالوقوف أمام اللوحة يشعل التحدي بأن تخلق شكلاً جديداً مختلفاً ولا يتكرر. وهذا لا يتم بوعي وإدراك لما ستمتلئ به صفحة اللوحة البيضاء فقط، بل يحتاج إلى لحظات من “التخلّي” وإلى ترك اللاوعي يخرج على غاربه. وبهذه الطريقة، رويداً رويداً، رحت أحدِّد هويتي الفنية شكلاً، تاركة للمضمون أن يتبدّل بحسب الموضوع الذي أرسمه أو بحسب الحالة النفسية التي أكون فيها حين أرسم.

من التعريف بمعرض “طفو” (2015)
ينص مبدأ أرخميدس على أن قوة الدفع المؤثرة في جسم داخل سائل تساوي وزن الماء الذي يزيحه هذا الجسم. هذا في صورته الفيزيائية التي قد لا تصح لقياس ردات فعل أو نتائج طفو يكون الإنسان فيها هو العنصر المؤثر، حيث تنتج انزياحات تزيد أو تقل بحسب الفرد ومزاجيته في وقت ما وبحسب تفاعلات محيطة متغيرة قريبة أو بعيدة مكانياً وزمانياً.
إذاً هي مجموعة من النتائج المادية المتغيرة الناتجة عن ردات فعل إنساني مشترك بين قوة واحدة تمثل الفرد نفسه، أحياناً في صورة أفكار متضادة ناتجة عن فعل مشترك لقوة أو لقوتين أو أكثر متعكاسة أو ذاهبة في الاتجاه نفسه.
ويتوسّع مفهوم الطفو ليشمل كل ما هو ملموس ويظهر على سطح ما، كالماء والهواء والأرض، أو هو حالات مختلفة القراءات مثل المشاعر على اختلافاتها.

ماذا قال الناظر إلى اللوحة؟
تتناول تغريد البقشي المرأة كموضوع رئيس في لوحاتها. المرأة الوحيدة في غرفتها أو المجتمعة مع غيرها من النساء في عالمهن المغلق يصاحبهن أحياناً فنجان قهوة. والمرأة التي تنشد الحرية والطيران والطفو فوق الهواء والماء والأرض (كان معرضها في البحرين عام 2015 بعنوان “طفو”). وغالباً ما يحتمل طرق موضوع المرأة بعض المحاذير حتى لو تناولته امرأة. فتقول البقشي إن في بدايات إطلاقها هويتها التشكيلية الخاصة، ووجهت بالاستهجان والتردّد في الآراء التي تتناول إنتاجها سواء سلباً أو إيجاباً، وعلى حدٍّ سواء من النقُّاد أو المجتمع أو المهتمين والمتابعين “وهذا طبيعي، فكل جديد أو محاولة لكسر صور نمطية ستلقى تمنّعاً في البداية. لكن سرعان ما انقلب الأمر إلى احتفاء فعلي بنتاجي، بدءاً من العائلة المقرّبة التي تقيم لي معرضاً سنوياً احتفاءً بابنة العائلة التي تشرّفها في الوطن، وكذلك من قِبل النقاد وزوار المعارض والصحافة والإعلام.

“أساطير متغيِّرة ” رحلة 2016 باريس
اعتبر أن هذه التجربة كانت مهمة جداً في رحلتي الفنية، وأضافت كثيراً إلى رؤيتي. كان ذلك في معرض فني في الإقامة الفنية في استديو المنصورية في مدينة الفنون الباريسية، و تركَّزت فكرته على العلاقة بين الفن والكتابة، فمنذ صغري أرى العالم على أنه حكاية كبيرة، وأنا داخل كل الحكايات. أكبُر ويكبُر المعنى ويزداد عمقاً يشف من الروح ما يستطيع العقل أن يحسه ويبنى عليه تصورات ذات أبعاد وجودية.
كل ما كان في الذاكرة واستبطنهُ اللاوعي يحضر بفطرية تامة، يتجسَّد على شكل كائنات داخل العمل الفني، من “أسد /تمساح /سمك / بومة /حوت… إلخ”، باعتبارها شريكة في هذا الكوكب، وباعتبارها موثقة في كتب التراث تتوالد معانيها ولا تنتهي، تجري حديثاً خاصّا، يحمل مضامين أسطورية ممتدّة من حكايا “كليلة ودمنة” وما شابهها، مع منحوتات مبعثرةً في أرجاء باريس تحكي قصصاً وتاريخ حضارات معظمها بين الإنسان والحيوان.

ونسألها كيف حصل هذا الانقلاب في استقبال أعمالها؟ فتقول: “أعتقد أن الناظر في اللوحة يرى نفسه فيها، كما لو قرأ أحدهم قصيدة فشعر أن الشاعر يكتب عنه أو كتب القصيدة التي يريد كتابتها هو نفسه. هناك كثر يعيشون حالات نفسية معيَّنة، ولكنهم لا يتمكنون من التعبير عما يدور في خلدهم فنياً أو مادياً، فيأتي الفنان ليقوم بهذا الدور. يمكن القول إن اللوحة هي مرآة الناظر إليها، وهو سيحبها ويفتتن بها إذا ما أرته ما يعتمل بين جنبات روحه. وهذا ما يحدث كثيراً مع النساء اللواتي يحضرن معارضي، إذ إن المرأة موجودة بقوة في لوحاتي، ليس لكوني امرأة، فقط، بل لأن موضع المرأة يحتمل ترجمته بطرق كثيرة ومختلفة. وأنا أجد أن المرأة السعودية من أقوى نساء العالم، إذ تجدها تحوّل هذه الظروف لصالحها، أي لا تدع الصعوبات تحبطها، بل تقويها لتتمكن من الخروج إلى الضوء والتعبير عن نفسها.

وماذا عن أثر تغريد البقشي في الأجيال الشابة من الرسَّامين؟

الأثر أجده في المحاكاة، وهذا يؤكد نجاح وصدق التجربة. فبعض الفنانين الشباب يحاكي اللوحات أو الأسلوب الخاص الذي أنتهجه سواء أكان بسبب الميل إلى طبيعة اللوحات وحب موضوعاتها، ودراسة بعض النماذج بشكل إيجابي، أو لأنه يريد البدء بما انتهى منه الآخرون. وأعتقد أنَّ هناك عدم وعي تجاه حقوق الفنان وإنتاجه الإبداعي الأصيل والتفريق بين ما هو دراسة بعدم التوقيع على العمل من جهة، وما هو انتهاك وسرقة للأعمال الفنية من جهة أخرى.

ماذا عن النقُّاد؟
اعتقد أن لا وجود لنقّاد حقيقيين للفن التشكيلي في المملكة. خصوصاً وأن هناك علاقات وتشابكات تقوم بين النقُّاد والفنانين. وربما يكون هذا الأمر طبيعياً، ولكنه يضيّق دائرة الفنانين الذين يسلط عليهم الضوء، ويتم ظلم بعض من يستحقون الاهتمام. فكثير من نقّاد الصحف، غالباً ما يتناقلون الأفكار النقدية من بعضهم بعضاً حتى تبدو المقالات مكررة ومتناسلة من بعضها. ليس هناك نقد بالمعنى المتخصص والعلمي والمحايد. وما يثير استغرابي أكثر هو أن بعض الصحافيين يطلبون إجراء مقابلة لمناسبة معرض أو جائزة أو تكريم، ولكنهم يلجأون إلى إرسال الأسئلة الجاهزة، حتى يحصلوا على إجابات جاهزة. وهذا النوع من المقابلات يفتقد للحياة وللتواصل المباشر بين الصحافي والناقد والفنان، وبالتالي بين الفنان والجمهور المتابع.

وتضيف: “أعتقد أن على الناقد أن يكون على تماس مع الفنان، وأن يطّلع على المكان الذي يعمل فيه، ليتعرف عليه شخصياً ويحاول أن يفهم من أين تخرج الصور والألوان والأفكار التي في لوحاته، كي يتمكن من كتابة مقالة نقدية أو دراسة صحافية أو قول رأي على الأقل. لكني أعتقد أن تطوراً كبيراً في الذائقة الفنية لدى السعوديين يتجلّى في هذه المرحلة، وهذا ما يؤكده عدد زوار المعارض، والعدد الكبير للمعـــــارض التي تُقـــام في مناطق المملكة.

سيرة ذاتية
تغريد البقشي فنانة تشكيلية سعودية، حصلت على شهادة ماجستير في مناهج التربية الفنية وتعمل مشرفة تربية فنية. وهي عضو مؤسس في مجلس إدارة الجمعية السعودية للفنون التشكيلية. رُشّحت في عام 2002 لأوسكار الذهب العربي من خلال مشاركتها في مسابقة الإبداع الحر لتصميم المجوهرات.
أقامت البقشي أكثر من أربعة عشر معرضاً شخصياً وشاركت في أكثر من مئة معرض جماعي على المستوى المحلي والعالمي.(السعودية، مسقط، البحرين، الإمارات العربية، قطر، الكويت، دبي، المغرب، تونس، لبنان، مصر، الهند،النمسا، كوريا، ألمانيا، الأرجنتين، لندن,، الدانمارك، وباريس).
فازت بعديد من الجوائز على المستويين المحلي والخارجي، منها جائزة اقتناء المستوى الأول في معرض الفنانات السعوديات. وكانت أول امرأة سعودية تحصل على جائزة التميز التشكيلي ضمن فعاليات الأسبوع الثقافي لمهرجان هجر الثاني.
ومن الجوائز الأخرى التي حصلت عليها: جائزة اقتناء المستوى الثاني في معرض الفنانات السعوديات الثالث، جائزة السعفة البرونزية في المعرض الدوري الثامن للفنون التشكيلية في مسقط، جائزة السفير للمركز الثاني في مركز الملك فهد الثقافي، جائزة المفتاحة للفنون التشكيلية، وجائزة الفن السعودي المعاصر.

 

أضف تعليق

التعليقات