حياتنا اليوم

تصميم الأشياء من حولنا

حاجة أم رفاه؟

لأسباب كثيرة، بات “التصميم” مرتبطاً في أذهان كثيرين ببعض الفنون، مثل العمارة والهندسة الداخلية والرسم والإخراج الطباعي وما شابه ذلك. غير أن نظرة سريعة أعمق إلى مفهوم التصميم، تؤكد أن كل ما هو من حولنا هو ثمرة هذا الفعل، وأن الحضارة الإنسانية هي ما باتت عليه اليوم بفعل مفهوم “التصميم” الذي رافقها في كل خطوة في مسيرتها، منذ نشأتها وحتى اليوم.

هل نعرف ما نتحدَّث عنه عندما نتحدَّث عن التصميم؟ التصميم هو على حدٍّ سواء اسم وفعل، ويغطي أعمالاً تتراوح بين رسم لوحة معيَّنة ومعالجة قضايا المناخ.
كاسم، تحمل كلمة تصميم معاني مثل “نية” “خطة” “هدف” “مخطط” “بنية أساسية” وغيرها من المعاني، بينما تشمل الكلمة كفعل معاني مثل “نسج شيء” و”محاكاة” و”صياغة” و”رسم” وغيرها. وتماماً كما تحمل كلمة تصميم عديداً من المعاني، نصمّم نحن كثيراً من الأشياء التي تحيطنا في حياتنا اليومية، مثل الملاعق والغرف والمنازل والمدن وشبكات الطاقة والمعاهدات الدولية والأنظمة الدفاعية والحملات العسكرية… وإذا كان التصميم يشير إلى ما ينتج ويثمر عن طريق الإبداع البشري، نكون قد وصلنا إلى نقطة أن كل شيء حولنا قد خضع للتصميم، حتى الأماكن الجغرافية القليلة التي بقيت دون تصميم في العالم، فإنها بقيت كذلك لأننا قمنا بتصميم الحدود من حولها.
يكمن الدافع الأساسي للتصميم في رغبة الإنسان في الشعور بالتماسك والسيطرة على أمر معيّن. ومع وجود عديد من الأشياء المصممة في العالم، فإننا نتعامل مع نتائجها كأمر مفروغ منه. في كثير من الأحيان، نفترض في تلك التصاميم معاني حتمية، كما لو كانت ناتجة عن حقائق غير قابلة للتغيير، في حين أنها نتاج أفكار وأعمال أشخاص فكروا فيها أو طوروها نتيجة حاجة شخصية أو عامة، أوصلت التصميم النهائي لشيء ما إلى خواتيمه، أي على صورته التي هو عليها الآن. لنأخذ إطارات العربات الدائرية، التي قد يفترض البعض أنها موجودة مع وجود البشر، ولكن في الحقيقة لا يوجد في الطبيعة أي شيء ذي شكل دائري صرف، وما الوصول إلى شكل الإطار القديم الأول أو المتطور جداً الحالي إلا نتيجة دأب الفكر البشري على إيجاد طريقة تسهّل نقله ونقل حاجاته الكثيرة في عيشه.

بعبارة أخرى، تتصلَّب التصاميم، وتصبح أشياءً طبيعية كما الآراء والقصص والتقاليد. فنادراً ما نتوقَّف للنظر في سبب تصميم النقود الورقية في جميع أنحاء العالم بشكل مستطيل، أو للنظر في الأناشيد الوطنية التي نتجت عن رسم حدود البلدان المختلفة. وعلى عكس الكلمــات، التي يمكن مناقشــة معانيها، فالغاية المادية للأشياء المصممة تضج بقوة فريدة من نوعها، إذ بمجرد إنشاء التصاميم يصبح من الصعب أن نفكِّر خارج النظم والهياكل التي تمثّلها.

التصميم عبر الزمان: معانٍ متغيِّرة ودور واحد ثابت
تغيّر معنى “التصميم” بشكل كبير على مرّ القرون، وكثيراً ما اختلط بغيره، كما تم التقليل من شأنه على طول الطريق. حتى عندما تستخدم كلمة التصميم بشكل صحيح، فإنها قد تبدو مربكة لأنها تحمل كثيراً من التفسيرات. وقد لخص المؤرخ جون هيسكت المختص بتاريخ التصميم هذا الارتباك في الجملة التي تبدو خالية من المعنى، على الرغم من كونها دقيقة نحوياً: “التصميم: هو تصميم تصميم لإنتاج تصميم”.
ومع ذلك، كان للتصميم دور ثابت واحد على مر التاريخ باعتباره عاملاً يساعدنا على التعامل، لصالحنا، مع المعطيات الطبيعية الموجودة سواء أكانت علمية أو تكنولوجية أو سياسية أو ثقافية أو غيرها. فما نسميه اليوم تصميماً كان قد أدى هذه الوظيفة لفترة طويلة قبل اختراع هذه الكلمة: بدءاً من عصور ما قبل التاريخ حين قام الصيادون

بصب كتل من الطين لصنع أوانٍ للشرب، وصولاً إلى أمثلة كثيرة مستمدة من التاريخ تم وضعها وتنفيذها بشكل غريزي، وليس بالضرورة من قبل مصممين محترفين، مثل الخريطة المأمونية الشهيرة التي اعتبرت رسماً متطوراً للعالم تفوّق على خريطة بطليموس، وتعد أهم أثر جغرافي من عصر الخليفة المأمون الذي أمر بوضعها ونجح القيمون عليها بقياس محيط الأرض وإثبات كرويتها. وخرائط الفقر في لندن التي نشرها المحسن تشارلز بوث خلال أواخر القرن التاسع عشر وتحدّد عليها الوضع الاجتماعي والاقتصادي لكل شارع بلون معيَّن، ما جعلها مقروءة بسهولة وأعطاها تأثيراً سياسياً كبيراً.

التصميم ما بين البدائية والإبداع
ولكن منذ الثورة الصناعية، اعتبر التصميم عملية متخصصة يطبقها موظفون مدرَّبون تدريباً خاصاً لإنتاج أشياء ملموسة، مثل قطع الأثاث أو المباني أو الصور وغيرها. وتميَّزت تلك الفترة بـ”البراءة البدائية” حيث وجّه المصممون طاقاتهم الإبداعية لإنتاج ما تصوروا أنه احتياجات بشرية دائمة. فقد ساد التوق إلى القيمة الدائمة والتميّز في صنع المواد الطبيعية التي تزداد قيمة مع الوقت والتي كانت تعبِّر عن الأحلام بالأشياء الجميلة التي تتناقلها الأجيال. ولكن التقدم التكنولوجي غيَّر كل ذلك، عندما أصبحت فئات كاملة من الأشياء غير ذات صلة، فأين أصبحت الآلة الكاتبة من ماركة أوليفيتي المتينة، أو ذلك الجراموفون (المذياع القديم) المصنوع من الخشب الخالص والنحاس؟ إذ مثلها مثل أشياء جميلة أخرى لم تبق سوى كذكرى للعرض أو كتحف قديمة. أما في ما بعد الثورة الصناعية، فقد كان على المصممين التجاريين التكيف مع متطلبات الاقتصاد ما بعد الصناعي، عندما توقع منهم عملاؤهم أداء دورهم التقليدي في التغيير عن طريق تعديل سلوك الناس، وكذلك من خلال تطوير المنتجات التقليدية.

تغير معنى “التصميم” بشكل كبير على مرّ القرون، وكثيراً ما اختلط بغيره، كما تم التقليل من شأنه على طول الطريق.

هكذا قامت “باوهاوس”، مدرسة الفن الألمانية، بإطلاق فكرة الحداثة في التصميم كبرنامج أيديولوجي- اشتراكي، وحاولت تطبيقها على التصنيع الشامل لتحسين حياة الطبقات الشعبية اليومية. ومع ذلك، مثلهم مثل المصممين الاشتراكيين الذين أطلقوا “حركة الفنون والحرف” البريطانية من قبلهم، انتهى الأمر بالقيمين على مدرسة “باوهاوس” بإنتاج منتجات باهظة الثمن، مصنوعة يدوياً للطبقة البرجوازية. وكانت الولايات المتحدة هي التي نجحت في تطبيق التصاميم للأسواق الكبيرة واسعة النطاق، واستخدمتها كأداة لبناء فكرة التقادم، وضمان أن يصبح المنتج بسرعة خارج الموضة وخارج التداول. ومنذ ذلك الحين، ظل التصميم على وجه الحصر تقريباً آلية لتوليد المبيعات ولزيادة الاستهلاك. وقد لا يحب ممارسوه هذه الفكرة، لكن التصميم أصبح خاضعاً لرأس المال ولمتطلبات السوق، وتتحكم به الشركات.
واليوم، لكونهم جزءاً من أسطورة “الاقتصاد الإبداعي”، يتحمل المسيطرون على عالم التصميم المسؤولية عن إعادة بناء الاقتصاد المختلط، حيث حلّت المنتجات الذكية مكان التصنيع والصناعة التي يمكن إنتاجها دون الاستعانة بمصادر خارجية. ومع كل ذلك، انتشرت ثقافة “المصمم” التي تُعد ظاهرة القرن العشرين. وكان المهنــدس المعمــاري بيتر بيرنس أول من نظر إلى التصميم كعلامة تجارية عندما قام، قبل الحرب العالمية الأولى، ليس فقط ببناء مصانع للأدوات الكهربائية في ألمانيا، لكنه أعاد تصميم وتوحيد مجموعة منتجات هذه المصانع، وصمم لها شعارها وخطة تسويقها.

عالم التصميم بلا نظريات
من السهل الميل إلى مقارنة الوضع في مجال التصميم اليوم مع ذلك الذي يسود في مجال الهندسة المعمارية. فمن خلال علاقة طويلة مع السلطتين السياسية والاقتصادية، تأسست لهندسة العمارة مجموعة من النظريات التي تشكك في بعض الأحيان، وتبرّر وترشد في أحيان أخرى، ولكنها تعترف دائماً بالمفارقات التي تسودها وبتأثيرها على الحياة اليومية. ولكن علم التصميم، العلم القريب جداً من هندسة العمارة، لم يؤسس لمثل هذه المجموعة من النظريات. وربما سمح له انتشاره في عصر هاجس الأدوات التكنولوجية ورواج الموضة والأزياء في تجاوز وجود مثل هذه النظريات، عندما أصبحت التصاميم التي ينتجها ضرورة يومية قادرة على الاستغناء عن التنظير والبيانات أو التبريرات. ولكن بالنسبة لعلم يعتمد على التشكيك بالمبادئ الأساسية ويعمل باستمرار على إعادة النظر وإعادة الهيكلة، لا يمكن لممارسيه إظهار ذلك الإذعان المقلق، والاستعداد لقبول الوضع الراهن.

لماذا نشعر بالحاجة إلى مواصلة تطوير منتجات جديدة، ولماذا لا نأخذ المنتجات الجيدة الموجودة ونقوم بتحسينها؟

ولكن وسط كل ذلك، أين ذهب دور المصمم صاحب الرؤية لتحسين العالم في الوقت الذي يُهدر فيه كثير من الطاقات المبدعة لابتكار منتجات للسوق الفاخرة؟ لقد أصبحت كلمة “مصمم” مبتذلة إلى درجة أن بولتهوب، الصانع الألماني للمطابخ، راح يحظر استخدام هذه الكلمة في إعلاناته. وقد انقسم رد المصممين الحقيقيين على عالم يتم فيه تخفيض قيمة مواهبهم إلى شقين: هناك الذين راحوا يصممون أعداداً قليلة من المنتجات فائقة الدقة باهظة الثمن، حيث تتقلص الفروق بين التصميم والفن. وهناك مدرسة فكرية أخرى، أكثر إثارة للاهتمام، تسأل لماذا نشعر بالحاجة إلى مواصلة تطوير منتجات جديدة، ولماذا لا نأخذ المنتجات الجيدة الموجودة ونقوم بتحسينها؟ أي كل المنتجات الصالحة وظيفياً التي يمكنها أن تعمل بطريقة جيدة في الحياة المعاصرة وفي ظل التقدم التكنولوجي.

التصميم سلوك
في كتابه “رؤية في الحركة” الذي نشر في 1947، كتب المصمم الهنغاري لاسلو موهولي ناجي، مقالاً بعنوان “التصميم ليس مهنة ولكنه سلوك” أشار فيه إلى أن التصميم يجب “أن يتحوَّل من فكرة وجود وظيفة متخصصة، إلى سلوك يؤدي في العموم إلى سعة الحيلة والابتكار”. وانطلاقاً من هذه الفكرة، قامت مصممة كانت مقتنعة تماماً بقيمة التصميم في الحياة اليومية، وتدعى

إميلي بيلوتون، بتأسيس “ستوديو إتش”، الذي راح يقدِّم دورات في التصميم لطلاب المدارس الثانوية. ولم يكن لمعظم الطلاب أية نية للعمل كمصممين محترفين، ولكنهم كانوا ينظرون للتصميم بوصفه مهارة قادرة على الزيادة من قدرات الحيلة والابتكار لديهم، تماماً كما تمنى موهولي ناجي وكما قالت السيدة بيلوتون، إنَّ التصميم هو إعطاء الإذن للطالب ليقف ويقول: “انتظر لحظة، هذا ليس صائباً”، والأهم من ذلك ليقول: “سأفكر بكيفية تحسينه”. أي إن على طالب التصميم أن يعمل دائماً على الابتكار ويطور التصميمات الموجودة.

 

 

أضف تعليق

التعليقات

Mohammad Shamass

بَحْثً جَميلٌ و رائع.ْ بُرِكْتِ سَيِّدَتي ألفاضِلة وَبُركتْ أعْمالُكِ. أدامَك أللهُ لَنا عِزاً وَ فَخْراً وَ مَنبعاً للعِلمِ وَ ألثقافة. ُوَفَّقَكِ وَ رَعاكِ ألله وَ ثَبَّتَ خُطاكِ.

Mohammad Shamass

بَحْثً جَميلٌ و رائع. بُرِكْتِ سَيِّدَتي ألفاضِلة وَبُركتْ أعْمالُكِ.

Mohammad Shamass

بَحْثٌ جميل، وفَّقَكِ ألله.