بيت الرواية

بيسووا محتضراً..

الأصدقاء أمام أيام الشاعر الأخيرة

كان لوفاة الشاعر البرتغالي فرناندو بيسووا وقعاً كبيراً ومؤلماً في نفس الكاتب الإيطالي أنطونيو تابوكي الذي يقول عنه في إحدى مقابلاته: “لقد سحرني بيسووا لأنه روائي عظيم كتب في الشعر. أعماله هي بمنزلة كوميديا إنسانية وشخصياته شعراء. كتب تابوكي روايته القصيرة “هذيان.. أيام فرناندو بيسوا الثلاثة الأخيرة”، التي ترجمت مؤخراً إلى العربية وصدرت عن “دار طوى” في لندن، مزودة بلوحات صور شخصية رسمها الفنان الإسباني “خوليو بومار” لبيسووا.

عاش فرناندو بيسووا (1888 – 1935) عمراً قصيراً بدأه بعذاب رحيل والده، ومن ثمَّ انتقاله في ترحال مضنٍ في عام 1896 إلى جنوب إفريقيا بصُحبة والدته التي تزوّجت من قنصل برتغالي كان يعيش هناك. وعاد الفتى فيما بعد وحيداً إلى لشبونة من دون أمه، ليخلو إلى عيش منفرد بنُزلٍ تحدوه نزوات أهوائية لا تخلو من آلام الوحدة الداخلية وأوجاع بشرية وإنسية، وليخر كبده عليلاً حتى يرسله هزاله إلى طوائل الموت.

وارتبط اسم الروائي الإيطالي أنطونيو تابوكي باسم شاعر البرتغال الأعظم فيرناندو بيسووا، بعدما اكتشفه عبر قصيدة “دكان التبغ”، قرأها في محطة قطار ليون بباريس، وهو عائد إلى إيطاليا، فخرج تحت وقع تأثير بيسووا واللغة البرتغالية. كان ذلك بمنزلة اكتشافاً مذهلاً بالنسبة لتابوكي، فاعتبره بمنزلة قوة خارقة، لدرجة أنه قرَّر تعلّم اللغة البرتغالية سريعاً، وقال في قرارة نفسه: “إن كان هناك شاعر كتب قصيدة ساحرة إلى هذه الدرجة، فعليّ إذاً تعلم لغته”. وبالفعل بقي تابوكــي مهووسـاً ببيسووا، إلى حدّ أن شبحه بقي يزوره في أغلب أعماله الروائية.

عاش بيسووا فترة طويلة في جنوب إفريقيا، بحكم أن والده كان دبلوماسياً، لكنه عاد إلى البرتغال في مرحلة الشباب، وأبدى تمسكه باللغة البرتغالية، بينما فضّل باقي أفراد عائلته الاستقرار في إنجلترا. موته بمرض السرطان أثار حزناً عميقاً في نفس تابوكي حتى جلس ليكتب عملاً روائياً قصيراً باللغة الإيطالية عن بيسووا في أيام احتضاره اتخذ اسماً مثيراً للانتباه هو “هذيان.. أيّام فرناندو بيسووا الثلاثة الأخيرة”.

المتخيَّل السردي
كان بإمكان تابوكي إصدار كتاب عن بيسووا يتحدَّث فيه عمّا يعرفه ويشعر به عن الشاعر البرتغالي، لكنّه آثر الطريق الأخرى، طريق المتخيَّل السردي، فكان عمله “هذيان..” كينونة سردية بدت مبعث فخر جمالي عنده، لا سيما أن بيسووا نفسه كان يكتب رسائل غير مترابطة حتى قال في لحظة الشعور بالانهيار الجسماني: “لقد انحلّ مكبح السيارة القديمة في رأسي أخيراً، وعقلي كفّ بالفعل عن الوجود”. والأكثر من ذلك إنه أرسل قصيدة إلى حبيبته أوفيليا كويروز طالبها بضرورة “قراءة هذه القصيدة ليلاً وفي غرفة مُظلمة”.

اختار تابوكي الأيام الواقعية الثلاثة الأخيرة قبل رحيل بيسووا هي 28 و29 و30 نوفمبر 1935. وكان الفاعلون في المبنى الحكائي هم أصدقاء وأغيار وأنداد بيسووا نفسه، جعلهم يزورونه في مشفاه وهو يعيش أيامه الأخيرة؛ إنهم: ألفارو دو كامبوس، وألبرتو كامبوس، وريكاردو ريس، وبرنار سواريس، وأنطونيو مورا.

أما حبيبته “أوليفيا” فلم تظهر في تلك الأيام إلّا كفاعل مسرود ضمناً من جانب أحد الفاعلين في البرنامج الحكائي وهو “ألفارو دو كامبوس” الذي كان هيأ لقصة الحب بينها وبيسووا، وعمل في نهاية الأمر على تدميرها، تلك القصّة التي استمرت متهاوية حتى ربيع سنة 1931.

نفق النهاية
يأخذنا المتن الحكائي إلى مدار انتقال بيسووا من منزله إلى مستشفى “القديس لويس الفرنسي” بصحبة رفاق له تحسسوا نهايته. وتحت عنوان “ساعة الأشباح” كان ألفارو دو كامبوس، “الشاعر المنحط”؛ بل شاعر “القصائد العدميّة”، أول زائريه، وهي زيارة توادع بينهما، لكنها أيضاً زيارة جعلت بيسووا يعاتب دو كامبوس بأنه كان سبباً بتدمير علاقة الحب بينه وأوليفيا، فراح الأول يبرر له ذلك قائلاً: “لقد قمتُ بذلك لمصلحتك، وجميع رسائل الحب سخيفة، لقد أنقذتُكَ من السخف!”. لكن بيسووا، وقبل أن يغادر دو كامبوس، قال له: “رسائل الحب ليست كلها سخيفة”، ما يعني أن هذا الضيف الصديق أثار في نفسه مواجع كان في غنى عنها وهو يعاني سطوة الاحتضار المر.

يضاعف أنطونيو تابوكي من مسارات المتخيَّل السردي ليجعل بيسووا يتخيَّل زيارة مُعلّمه ألبرتو كايرو (1889 – 1915) بعد تناوله إبرة من ممرضته، فراح يغط في نوم سلام لم يعرفه من ذي قبل، ليستحضر في منامه “كايرو” وهو يجلس عند سريره ليخبره بسر مفاجئ: “أنا والدكَ.. لقد قمتُ بدور أبيك” ويرد عليه بيسووا: “كنتُ أعرف ذلك، لقد اعتبرتك دائماً والدي حتى في أحلامي..”. ثمَّ يحاول بيسووا النهوض ليقول له: “من دونكَ لكانت حياتي تطايرت كالشظايا، وبفضلكَ تماسكت، في الواقع إنه أنا؛ أنا من انتخبكَ أباً ومعلِّما”. وفي هذا الحُلم قدم كايرو قصيدة شفاهية مُهداة إلى بيسووا الذي استمتع بها حتى أخبر ضيفه بأنه سيأخذ أبياتها إلى الأعالي، إلى عالَم الموت، ومن ثمَّ يستيقظ ليجد الممرضة أمامه.

ثريدة الشاعر
في اليوم التالي زاره صديق قديم وبعيد عنه، كان الشاعر الفوضوي والطبيب ريكاردو رييس الذي أمضى عمره مختبئاً في مدينة “آزيتاو” خوفاً من قمع السلطة والكنيسة، فيحكي له عن لفِّ أكليل الورود، ويخبره بأنه يعدُّ إكليلاً له وهو الراحل، بيسووا الذي يذكِّره زائره برحيله، ويعده بكتابة قصائد حتى لو كانت مزيفة، خصوصاً أن بيسووا نفسه يخاطب ضيفه قائلاً: “إن القصائد المزورة لا تضر بالشعر أبداً”.

لم يكن برناردو سواريس ليدع فرصة زيارة صديقه بيسووا تمر دون حضوره وهو يحمل طعاماً يحبه بيسووا، إنه الثريدة المفضلة لديه، لكن حوارهما امتد إلى الفلسفة؛ بل وإلى الفيلسوف الحلولي أنطونيو مورا، إلّا أن سواريس راح يحدِّثه عن تجربته الشعرية في كتابه قيد الإنجاز “كتاب اللاطمأنينة”؛ بل وتجربته في خلوة له بقصر فاره يعود لصاحب المطعم الذي يشتغل فيه، فأخبر بيسووا بأنه كان يرسم قصائده في لوحات تشكيلية في ظلِّ معاينته الطبيعة بكل جمالياتها، حتى إنه كان برفقة ببغاء علّمه قراءة مقاطــع من قصيدة “دكان التبغ” لبيسووا وسط تعجب الأخير الذي قال: “لقد كتبتُ من أجل البشر في هذا العالَم، وحده الببغاء يعرف ترديد قصائدي!”.

تجدر الإشارة إلى أن كتاب “اللاطمأنينة” هو أصلاً لبيسووا الذي جعله لبرناردو سواريس؛ لا سيما أن بيسووا “استقر على نسبته إليه بعد أن كان فنسنت جوديس هو المؤلِّف المفترض” (وائل عشري: بيسووا: رسائل ونصوص، ص 365). إلّا أن تابوكي يستحضر “اللاطمأنينة” في هذه الرواية لسواريس، علماً أن هذا الديوان، وعند اكتشافه في حقيبة بيسووا بعد وفاته، نُشر باسمه باللغة البرتغالية في سنة 1982 تحت عنوان “كتاب القلق”.

لعل الفصل الأخير من الرواية كان الأكثر حماسة للقارئ؛ إذ يستحضر تابوكي أنطونيو مورا صاحب النظرات الفلسفية الحلوليّة ليخاطب بيسووا في شأن ما بعد الموت قائلاً له: “أعرف أن مياه الأشيرون تنتظرُك، ثم أعاصير الذرات الحانقة التي يضيع فيها كل شيء والتي يُعاد فيها اختراع كل شيء، وربما كنتَ ستعود في حدائق لشبونة وردة ستزهر في أبريل أو ربما كمطر فوق قنوات البرتغال وبحيراتها، وأنا، أنا أتنزه، سأسمع صوتكَ يطوِّق الريح”.

وهنا تبدو واضحة فكرة حلول الأجساد والأرواح في الطبيعة والوجود التي يدعو إليها “مورا”، والذي علّمهُ لوكريس “عودة الحياة في نظام الطبيعة، وفهِمَ أن جميع الذرات التي تتألف منها هذه الخاصيات متناهية الصغر التي تشكّل جسدنا الحالي ستعود بعد ذلك في الدورة الأبدية، ستعود جميعها إلى الأرض تحت أشكال متعدِّدة ترغب بها الطبيعة، بيسووا، أيها الكبير، ستكون كلباً يُدعى جو، ذرة عشب أو عرقوبي شابة إنجليزية تُشاهد مدهوشة إحدى ساحات لشبونة”.

وقت الرحيل
يطالب مورا المتهم بالجنون صديقه بيسووا بالبقاء على قيد الحياة، لكن بيسووا يخاطبه متوسلاً: “حان وقت الرحيل؛ حان وقت مغادرة مسرح الصور هذا الذي ندعوه حياتنا”. وأضاف قائلاً: “إنني مُتعب، ذابت شمعتي”.

بين يدي أنطونيو مورا، يودِّع بيسووا الحياة؛ بعد أنْ “حملقَ، توقفت يداه فوق الشرشف. كانت الساعة 23 و30 دقيقة” ليرحل بيسووا في 30 نوفمبر 1935، يرحلُ عن صخب الحياة إلى هدوء اللانهاية.

وبذلك ودَّع العالَم عبقريّة شعريّة فاقت كل التوقعات بعد اكتشاف ميراثه الشعري في حقيبة هي كنزه الذي أودع فيه كينونته الإنسية بكل منحنياتها ومساراتها وأسرارها لتبقى خالدة المآل.

قد يظهر الواقع – الواقعي ثقيلاً في الواقع المتخيَّل، لكنّه السرد، ومهما تعالى منتصراً لجذوة المتخيَّل، سيبقى يُسرِّب الواقع الحقيقي؛ فكل الفاعلين في “هذيان..” هم واقعيون، لكنها المخيِّلة السردية لدى أنطونيو تابوكي التي آثرت الاحتفاء بمن يستحقه، وهل هناك أكثـر من فرنانــدو بيسووا، كما “آرثر رامبو” و”لوتريامــون” يستحــق الاحتفــاء بهم؟ بيسووا الذي نكأت موجودية الأيام حياته كما نكأت بآرثر رامبو ولوتريامون.

أضف تعليق

التعليقات