تقرير القافلة

الهجرات‭ ‬الكبرى في‭ ‬التاريخ

81aتحدث الهجرات البشرية عندما تتحرَّك مجموعة أو أكثر من الناس من منطقة في العالم إلى أخرى، لأسباب مشتركة. والهجرات نوعان، إما اختيارية وإما اضطرارية، وتكون ضمن البلد الواحد من منطقة إلى أخرى، أو من الأرياف إلى المدن، أو ضمن القارة من بلدٍ إلى آخر، أو من قارة إلى أخرى.
وللهجرة تأثير كبير على الإنسان والحضارة البشرية والكرة الأرضية. وبإلقاء الضوء على الهجرات الكبرى يصبح بإمكاننا أن نفهم بشكل أفضل ماهية الجغرافيا السكانية للكرة الأرضية الآن، والعوامل التي أسهمت في إرسائها على ما هي عليه.

أسباب الهجرات
ثمة أسباب عديدة تدفع المجموعات البشرية للهجرة، لكن بإمكاننا جمعها ضمن تصنيفين مختلفين: الأسباب الدافعة والأسباب الجاذبة.

1 – الأسباب الدافعة
العوامل الجيولوجية والمناخية وغيرها من الكوارث الطبيعية والمجاعات التي تجعل الحياة في بعض المناطق الجغرافية مستحيلة. فمعظم الهجرات التي جرت ما قبل التاريخ، وحتى خلال التاريخ المكتوب، عندما لم تكن المعلومات الجغرافية قد تكوّنت، هي أسباب دافعة للهجرة.
النزاعات والحروب.
الفقر والمداخيل المنخفضة.
البطالة وفقدان العمل.
غياب آفاق التقدم.
الاضطهاد وغياب حقوق الإنسان.
العنصرية (تجارة الرقيق واستنزاف القارة الإفريقية من سكانها على سبيل المثال).
مرافقة بعض السكان للجيوش أثناء الفتوحات الكبرى.

2 – الأسباب الجاذبة
shutterstock_253272682الأمن والاستقرار واحترام الحريات وحقوق الإنسان والاطمئنان إلى المستقبل.
المدن الصناعية في الدول المتقدِّمة الجاذبة للأيدي العاملة والسكان. (كانت السبب في هجرات كبيرة من الأرياف إلى المدن).
النمو الاقتصادي السريع الذي يتطلَّب عمالاً ومستهلكين أكثر.
تراجع معدلات الإنجاب في الدول الصناعية الذي أدى إلى نقص في العمالة وثغرات في المهارات، وكان السبب في هجرات كبيرة من بلدان إلى أخرى.
نشوء دول حديثة متطوِّرة تمتلك مساحات جغرافية كبيرة وعدد سكان قليل نسبياً، وتحتاج إلى زيادته، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا.
الاستعمار، الذي جذب، على سبيل المثال، الإسبان إلى أمريكا الجنوبية والإنجليز إلى الولايات الأمريكية المتحدة وأستراليا والفرنسيين إلى كندا.
هجرة الشباب من الدول الأقل تطوراً إلى الدول المتطورة طلباً للعلم وتحسين المؤهلات والمهارات.

هجرات ما قبل التاريخ
يقول الرأي السائد بين العلماء من مختلف الاختصاصات، الأركيولوجية والإنثروبولوجية وغيرها، إن الهجرات الأولى للإنسان بدأت من إفريقيا على دفعات بأوقات متباعدة. وتنقسم إلى هجرتين كبيرتين مختلفتين:

أ – الهجرة الأولى
83منذ حوالي مليوني سنة، خرج الإنسان من موطنه الأصلي في إفريقيا، باتجاه الشمال عبر القرن الإفريقي إلى الجزيرة العربية ومنها إلى أوراسيا. وذلك بسبب التطورات الجيولوجية الكبيرة في ذلك الحين، وكانت نتيجتها تضخم الصحراء الإفريقية، ما أدى حسب بعض النظريات العلمية إلى تغير كبير في مجرى نهر النيل. ونتيجة ذلك تفرق هؤلاء في كافة أنحاء العالم القديم وصولاً إلى جنوب شرق آسيا.

وقد وُجدت آثار أحفورية تدل على وصول هذا النوع من البشر إلى شرق آسيا، في ريوات، باكستان، تعود إلى ما يقرب من مليوني سنة. كما وجدت آثار في تل عبيدية قرب بحيرة طبريا في فلسطين تعود إلى حوالي 1.5 مليون سنة. وأيضاً وجدت آثار في دمانيسي في القوقاز تعود إلى 1.81 مليون سنة.

وفي الصين وجدت آثار لأدوات حجرية، في حوض نيهيفان، استعملها الإنسان منذ حوالي 1.66 مليون سنة. وقد وجدت في الموقع الأثري في خينهودو في مقاطعة شانغي أول علامة على استعمال للنار منذ 1.27 مليون سنة.

وتشير أقدم الآثار الأحفورية التي وجدت في «أومو كيبيش» في إثيوبيا بالقارة الإفريقية إلى أن أجدادنا عاشوا هناك منذ 200000 سنة.

ب – الهجرة الثانية
تساعد الدراسات الحديثة المتعلِّقة بخارطة التوزع الجيني على مستوى الكرة الأرضية، إلى تكوين صورة واضحة حول من أين ومتى وإلى أين هاجر أجدادنا خلال المراحل التاريخية المختلفة.

منذ حوالي مليوني سنة، خرج الإنسان من موطنه الأصلي في إفريقيا، باتجاه الشمال عبر القرن الإفريقي إلى الجزيرة العربية ومنها إلى أوراسيا

فقد ترك الإنسان إفريقيا قبل ما بين 60000 و70000 سنة واتجه، كما أسلافه السابقين، شمالاً. وسبب الهجرة هذه هو في التغيرات المناخية التي حصلت آنذاك، حين دخلت الأرض فجأة في فترة جليدية أخيرة جلبت معها ظروفاً قاسية جداً للعيش. وتشير الأدلة الوراثية إلى حدوث انخفاض حاد في عدد السكان آنذاك، حتى وصل إلى ما يقارب 10000 فرد فقط: لقد كنا على شفير الاندثار، والهجرة إلى أمكنة أخرى كانت طوق النجاة.

ج – من إفريقيا إلى الشرق الأدنى
منذ حوالي 70000 سنة عبروا مضيق باب المندب الذي يفصل اليمن عن جيبوتي واتجهوا شمالاً نحو الشرق الأدنى.

د – من الشرق الأدنى إلى آسيا
اتجه الناس منذ 50000 سنة إلى جنوب آسيا، وإلى شرقها منذ 30000 سنة. ووصلوا إلى أستراليا منذ 46000 سنة للمرة الأولى حين لم تكن قد وطأتها أقدام أي نوع من البشر قبلهم.

هـ – من الشرق الأدنى إلى أوروبا
وهاجر الإنسان إلى أوروبا منذ 43000 سنة.

84و – الهجرة من آسيا إلى القطب الشمالي
وقبل حوالي 20000 سنة توجّهت مجموعة صغيرة من الصيادين الآسيويين صوب القطب الشمالي لآسيا الشرقية خلال العصر الجليدي الأعظم الأخير. ففي ذلك الوقت، كانت الصفائح الجليدية الكبرى، التي كانت تغطي أقصى الشمال، قد امتصت المياه من اليابسة حولها لمسافات شاسعة جداً. وأدى هذا إلى انخفاض مستويات سطح البحار حوالي 300 قدم، فشكَّلت هذه الظاهرة جسراً، في أقصى الشمال، بين العالم القديم والعالم الجديد، أي بين القارة الأمريكية والقارة الآسيوية.

ز – من القطب الشمالي إلى القارة الأمريكية
واخترق المهاجرون إلى القطب الشمالي بعد ذلك اليابسة جنوب المناطق الجليدية منذ حوالي 15000 سنة. وفي غضون ألف سنة بعد ذلك، أي منذ 14000 سنة انتشروا في كافة أنحاء القارة الأمريكية. وكان عبور هذا الجسر من قِبل هؤلاء الصيادين الجسورين القفزة النهائية الكبرى لرحلة الإنسان ما قبل التاريخ.

الهجرات خلال التاريخ المعروف
بعد انتهاء العصر الجليدي الأخير، ودخول الكرة الأرضية في عصر المناخ الدافئ والمعتدل، ازدهرت الزراعة. وأدت الثورة الزراعية إلى ازدياد كبير في عدد السكَّان، وإلى نشوء الدول وصعود الإمبراطوريات وحدثت الرحلات المذهلة العابرة للمحيطات التي بدأها البولينزيون في المحيط الهادئ.

1 – القبائل السامية
إن أول الهجرات الكبيرة في تلك الفترة هي للقبائل السامية في الشرق الأدنى التي كانت تربطها اللغة المشتركة. وبدأت تنتشر منذ حوالي 5000 سنة من موطنها، في جنوب شبه الجزيرة العربية واليمن، على طول طرق القوافل الصحراوية عبر صحراء سيناء إلى البادية السورية. واندمج هؤلاء المهاجرون خلال 500 سنة، من هجرتهم الأولى، مع ثقافة بلاد ما بين النهرين. وهذا الخليط هو ما جلب الحضارة إلى الشريط الساحلي لشرق البحر المتوسط، التي حفَّزت كثيراً من الهجرات اللاحقة في اتجاهات عدة.

2 – القبائل الهندية-الأوروبية
ثاني أكبر الهجرات في هذه الحقبة التي تجمعها اللغة المشتركة، هي القبائل الهندية-الأوروبية. وكانت هذه القبائل من الرعاة تعيش في السهول الممتدة من أوكرانيا الحالية شرقاً حتى البحر الأسود وبحر قزوين. وبدأت هذه القبائل بالانتشار جنوباً وغرباً باتجاه شبه القارة الهندية منذ حوالي 4000 سنة بحثاً عن مناطق أكثر جاذبية للرعي. وقد رافق هذا التمدُّد نوع من العنف، أو ما نعرفه اليوم بالحرب. لكنه كان تدريجياً عبر مئات من السنين، ولا يشبه حروبنا الحالية. وهذا بدوره أدى لنزوح مجموعات منافسة إلى أماكن أخرى.

3 – هجرة الحثيين والفارسيين
من هذه القبائل الهندية-الأوروبية نذكر الحثيين الذين استوطنوا الأناضول في تركيا الحالية، والفرس الذين استوطنوا السهول الإيرانية، ثم أكملوا هجرتهم إلى الهند وحتى سريلانكا منذ حوالي3600 سنة.

4 – هجرة الإغريق والجرمان والسلت والسلاف
هاجر بعض هذه القبائل الهندية-الأوروبية إلى أوروبا منذ 3800 سنة، فاستوطن الإغريق في جنوب القارة، والجرمان في الشمال، والسلتيين إلى الغرب في فرنسا الحالية وإسبانيا وإنجلترا. ومنذ 3500 سنة بدأت القبائل السلافية الهجرة إلى بولندا وغرب روسيا.

5 – الهجرة الثانية للقبائل الجرمانية
85والقبائل الجرمانية، التي تنتمي إلى مجموعة القبائل الهندية-الأوروبية، واستوطنت المناطق الشمالية من أوروبا في إسكندينافيا، بدأت منذ حوالي 2200 سنة تهاجر جنوباً وشمالاً. وفي غضون مئة عام، كان هؤلاء قد وصلوا إلى نهري الدانوب والراين. حتى إنهم هددوا الإمبراطورية الرومانية في أقصى جنوب القارة وخاصة جنوب فرنسا وشمال إيطاليا، وأحياناً حاصروا روما نفسها وفرضوا عليها شروطهم.

واستمرت هذه الهجرات والهجمات للقبائل الجرمانية حتى القرنين الرابع والخامس الميلادي. وكان لها الأثر الكبير على أوروبا، حيث تغير وجهها إلى الأبد. ويعتقد كثير من المؤرخين أن هجرة هذه القبائل كانت السبب الرئيس في انهيار الإمبراطورية الرومانية الغربية، بدليل استمرار شقيقتها الإمبراطورية البيزنطية الشرقية بعد ذلك لنحو ألف عام، إذ إن هجرة هذه القبائل لم تصل إليها. ولم تستقر حال القارة حتى أسست هذه القبائل (التي كان يطلق عليها الرومان تعبير البرابرة) الدول التي نعرفها اليوم في وسط أوروبا.

6 – الهجرة الثانية للقبائل السلافية
استغلت القبائل السلافية، التي كانت قد هاجرت إلى غرب روسيا وبولندا منذ فترة طويلة، انهيار الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي وبدأت تنتشر غرباً وجنوباً حتى البحر الأبيض المتوسط وأسست ما يعرف اليوم بمعظم دول البلطيق وأوروبا الشرقية.

7 – هجرة الأنكلوسكسون
واستغل الأنكلوسكسون أيضاً انهيار الإمبراطورية الرومانية وتراجعها، وقدموا من الدانمارك وشمال غرب ألمانيا واستوطنوا وأسسوا، بحلول القرن السابع الميلادي، ما يُعرف اليوم بإنجلترا.

الهجرات العربية
أ – قبل الإسلام

يعتقد كثير من المؤرخين أن الهجرات السامية التي بدأت كما أسلفنا سابقاً من جنوب الجزيرة العربية ومن اليمن إلى منطقة شرقي المتوسط وبلاد ما بين النهرين بموجات من الهجرات المتتالية، حلّت محل السومريين. وكان هؤلاء مستقرين على الزراعة. ولذلك أطلق عليهم اسم النبط، مقارنة بالعرب الذين كانوا من الرعاة.

أسس العرب الوافدون أول مدينة فيما بين النهرين وهي الحيرة في جنوب العراق

وبمرور الوقت، واستمرار الهجرات المتتالية، اندثرت حضارة النبط وسادت العربية ولغتها. وقد أسس العرب الوافدون أول مدينة فيما بين النهرين وهي الحيرة في جنوب العراق. وشهد تاريخ المنطقة صراعاً مستمراً بين الهجرات من الجنوب والسكان المحليين المستقرين في أعمال الزراعة.

88ب – بعد الإسلام
استمرت الهجرات العربية مع الفتح الإسلامي وخاصة في بدايته إلى الشام وبلاد ما بين النهرين. ولم تعتنق المنطقة الإسلام فقط بل تكرس استعرابها. ومع توسع الفتح الإسلامي شرقاً وغرباً، اعتنقت الشعوب شرقي بلاد ما بين النهرين حتى الصين الإسلام ديناً، لكنها لم تستعرب. والسبب في ذلك واضح، وهو أن الهجرات العربية السابقة لم تصل إليها. وهكذا استطاعت مقاومة الاستعراب. حتى إن العرب الذين استقروا مع الفتح الإسلامي في هذه المناطق، اندمجوا مع مرور الوقت، في حضارات هذه الشعوب.

أما نتيجة الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا فكانت تكريس استعرابها بشكل شبه كامل. بما في ذلك الإسكندرية التي كانت تُعد مدينة يونانية. فبعد محاصرتها سنة 640م لأربعة عشر شهراً، توصَّل الجانبان إلى اتفاقية سلمية، فأعطى العرب سكانها سنة كاملة للنزوح سلمياً بشكل كامل عنها. وفي سنة 642 تسلَّم العرب المدينة تماماً وهجرها اليونانيون دون عودة. وهكذا تكون أغنى مدينة بيزنطية، في ذلك الوقت، قد أصبحت عربية دون قتال.

وبعدما فتح العرب في سنة 711م معظم أنحاء إسبانيا وسموها الأندلس تدفق على البلاد الجديدة كثير من المهاجرين العرب.

الهجرات التركية والمغولية
تُعد منغوليا في شمال شرقي آسيا، نقطة انطلاق مثالية لحركة القبائل البدوية بحثاً عن مراعٍ جديدة. فهي تقع في أقصى طرف من مجموعة متواصلة من المراعي المفتوحة والسهوب التي تصل على طول الطريق إلى أوروبا. وهي مثالية لحركة الفرسان التي تتقنها تماماً هذه القبائل. وعلى جنوب طريق البدو هذه، تعيش تجمعات سكانية غنية ومستقرة.

أ – هجرة الأتراك مع الغزوات
87وابتداءً من القرن السادس الميلادي، شكَّلت التجمعات السكانية المستقرة في الجنوب، هدفاً لموجات متتالية من الغزوات والهجرات حتى القرن الثاني عشر. وكلما استحوذ المهاجرون على منطقة جديدة، امتلكوا حافزاً أقوى للتوسع والانتشار إلى أخرى.

ونتيجة هذه الغزوات استوطن الأتراك معظم آسيا الوسطى، وأسسوا دولاً لا تزال قائمة حتى اليوم مثل قيرغيزستان، تركمانستان، أوزبكستان، كزخستان. وشكلوا جيوباً في بعضها الآخر مثل تشوفاشيا في روسيا. بينما أسس أيضاً الأتراك السلاجقة، دولة استيطانية وسلالة حاكمة في الأناضول، حيث هي تركيا الحديثة التي تحوَّلت في عهد الأتراك من بني عثمان إلى إمبراطورية كبيرة. وقد توسَّعت هذه الإمبراطورية إلى وسط أوروبا حيث استوطن وهاجر كثير من الأتراك إلى بعض دول البلطيق واستوطنوها إلى يومنا هذا.

ب – المغول: غزوات كبرى دون هجرة
وبعكس الأتراك، فإن المغول الذين انطلقوا أيضاً من منغوليا، وأسسوا بعد غزوات عدة في القرن الثالث عشر الميلادي، واحدة من أكبر الإمبراطوريات في التاريخ، لم يبقَ لهم أثر سكاني كبير، باستثناء بعض الأقليات في الهند وبعض المناطق في الصين وروسيا.

الهجرات إلى أمريكا
أ – الهجرة إلى أمريكا الشمالية

بعد اكتشاف القارة الأمريكية من قِبل المستعمرين الإسبان والبرتغاليين في بداية القرن السادس عشر، والهجرات الكبيرة إليها، تغيرت القارة كلياً. فالسكان الأصليون الذين سبقوا هؤلاء المستعمرين الجدد بأربعة عشر ألف سنة، كما رأينا سابقاً، تمت تصفية معظمهم. واستبدلوا بمهاجرين جدد من أوروبا وبعدها من كافة أصقاع الأرض. كما استبدلوا أيضاً بأعداد كبيرة من الناس معظمهم من إفريقيا بواسطة تجارة الرقيق في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ويعتقد بعض المؤرخين أن تعداد هؤلاء وصل، في ذلك الوقت، إلى 12 مليوناً.

أكبر تحرك بشري من منطقة إلى أخرى كان في الهجرة من الأرياف إلى المدن في كافة أنحاء العالم

وفي فترة لاحقة، وبسبب الظروف القاسية التي ألمَّت بالقارة الأوروبية، هاجرت أعداد كبيرة إلى أمريكا. فعبرت المحيط الأطلسي مجموعات كبيرة من إيرلندا وإيطاليا وبولندا وألمانيا وغيرها. وللإشارة إلى حجم هذه الهجرات الهائلة يكفي مثلاً إلقاء نظرة على إيرلندا التي يبلغ تعداد سكانها اليوم 6.5 مليون نسمة، بينما يبلغ عدد المتحدرين منها في العالم حوالي 80 مليوناً. وفي تعداد لدائرة الإحصاءات الأمريكية أن هناك 36 مليون مواطن أمريكي من أصل إيرلندي.

ب – الهجرة إلى أمريكا الجنوبية
بدأ الإسبان وبعدهم البرتغاليون باستغلال شعوب وموارد جنوب أمريكا ابتداءً من سنة 1530م. وتعرَّض السكان الأصليون لنفس ما تعرَّض له سكان الشمال الأمريكي من عمليات إبادة بطرق مختلفة. وحل محل هؤلاء السكان المهاجرون الأوروبيون.

وقد منع الإسبان والبرتغاليون غير مواطنيهم من الهجرة إلى أمريكا الجنوبية. واستمر هذا المنع حتى حصلت هذه الدول على استقلالها. وفي واقع الأمر فإن الهجرة من الأوروبيين الآخرين لم تبدأ بشكل فعلي إلا بين 1870 و1930م.

وللتحقق من عمليات الإبادة الجماعية للسكان الأصليين وحجم الهجرات الكبيرة التي حلَّت مكانهم، يكفي إلقاء نظرة على التركيبة الإثنية لهذه الدول اليوم.

الهجرة إلى أستراليا وجنوب إفريقيا
86نتيجة الأحوال الاقتصادية السيئة التي سادت إنجلترا في القرن الثامن عشر والتي رافقت الثورة الصناعية، اتسعت الهوة كثيراً بين الأغنياء والفقراء. وعندما ازدادت نتيجة ذلك السرقات والأعمال المخلة بالأمن، أصدرت الحكومة قوانين شديدة القسوة حتى لأتفه الأسباب، فامتلأت السجون بالمحكومين. ولمَّا اعتبرت هذه القوانين مجحفة، كان الحل هو قرار الحكومة الإنجليزية بترحيل هؤلاء إلى الخارج، وكانت أستراليا هي المكان المناسب. وبدأ الترحيل في أواخر القرن الثامن عشر.

في غضون القرن التاسع عشر تأسست في أستراليا عدة مستعمرات، توحَّدت سنة 1901م لتؤسس الدولة الأسترالية التي انضمت إلى الكومنولث البريطاني. وهاجر بعد ذلك 7 ملايين أوروبي إلى الدولة الجديدة حتى سنة 1945م. والهجرة الكبيرة إلى هناك حصلت بعد الحرب العالمية الثانية، خاصة من قبل الأوروبيين الذين أصبحوا دون مأوى بسبب الدمار.

ومن إنجلترا، انطلقت في الفترة نفسها موجة أخرى من المهاجرين صوب جنوب إفريقيا بفعل اكتشاف مناجم الذهب والماس فيها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وانضم إلى المهاجرين الإنجليز كثيرون غيرهم من المستعمرات البريطانية، وبشكل خاص من الهند. ولم يكتفِ هؤلاء المهاجرون بتشكيل جزء من النسيج السكاني في موطنهم الجديد، بل أقاموا نظاماً عنصرياً سحق السكان الأصليين لأكثر من قرن من الزمن كما يعرف الجميع.

الهجرة من الريف إلى المدينة
أ – حجمها

إن أكبر تحرك بشري من منطقة إلى أخرى هو في الهجرة من الأرياف إلى المدن في كافة أنحاء العالم. ففي مطلع القرن العشرين كان %15 من سكان الكرة الأرضية يعيشون في المدن، فارتفعت النسبة، حسب إحصاءات الأمم المتحدة إلى %50 سنة 2007م التي اعتبرت سنة مفصلية، وذلك بسبب الهجرة الكثيفة من الأرياف إلى المدن. ويتوقع أن تستمر هذه الهجرة لتصل سنة 2050م إلى %70.

ب – أسبابها
الحداثة والتصنيع والنمو الاقتصادي وتوفر الخدمات وانتشار الفكر العقلاني.

ج – تاريخها
عند نشوء المدن الأولى في بلاد ما بين النهرين ومصر، وحتى القرن الثامن عشر، لم تكن هناك هجرات كبيرة بين الريف والمدينة. حتى إن بإمكاننا القول إن توازناً معيناً كان قائماً بين حجم السكان القاطنين في الأرياف وأولئك المستقرين في المدن.

د – الهجرة في الدول الصناعية
ابتداءً من مطلع القرن الثامن عشر وبفعل الأسباب الواردة أعلاه بدأت المدن تتضخم. ففي إنجلترا، ارتفعت نسبة السكان القاطنين في المدن من %17 سنة 1801م إلى %27 سنة 1891م. وفي فرنسا ارتفعت النسبة إلى %37، وفي بروسيا ارتفعت إلى %41 وفي الولايات المتحدة الأمريكية ارتفعت إلى %28 في الفترة نفسها.

ه – الهجرة في الدول الأقل تطوراً
أما بقية دول العالم التي لم تلحق بالتطور الصناعي والحداثي، فلم تشهد هجرة كبيرة من الأرياف إلى المدن حتى الخمسينيات من القرن العشرين. فحتى سنة 1980م كانت نسبة السكان التي تعيش في المدن في الصين لا تتعدى %20 وارتفعت سنة 2006م إلى %41. أما في الهند فكانت النسبة %23 و %29 على التوالي.

مدن الصفيح أو الأحياء الفقيرة نتيجة الهجرة من الريف
حوالي ثلث سكان المدن في دول العالم الثالث – أي حوالي مليار نسمة يعيشون في أكواخ حول المدن.
ترتفع هذه النسبة في إفريقيا إلى %70.
أعمار هؤلاء الأفارقة تتراوح بين 15 و24 سنة.
على الرغم من هذا الوضع المأساوي فإن هذه الأحياء الفقيرة، جاذبة اقتصادياً؛ فحوالي %85 من فرص العمل الجديدة تحصل خارج الاقتصاد الرسمي.
أكثر من %50 من هؤلاء في جنوب شرق آسيا و%40 في جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا يفتقرون إلى خدمات الصرف الصحي.
ُقدر نمو سكان هذه الأحياء إلى مليار ونصف المليار بحلول 2020م.

أضف تعليق

التعليقات