أدب وفنون

النص القصير

وتداخل الأجناس الأدبية

Typewriterإن تصنيف النصوص المكتوبة وتقسيمها وفق أنواع وأجناس أدبية ذات خصائص محدَّدة وسمات متباينة، لم يأتِ إلا في مرحلة متأخرة من عمر الكتابة. وقد دار، ولا يزال، جدل طويل حول تداخل الأجناس الأدبية وتماهيها وسقوط الحواجز والجدران المتوهمة فيما بينها، إما لصعوبة تصنيف النصوص أو لروح التمرد الطاغية لدى كثير من الكتَّاب الذين لا يأبهون عادة بتصنيف وتأطير ما يكتبونه من نصوص.

وغني عن الذكر أن هناك أجناساً كتابية لا تحتمل اللبس مع غيرها من الأجناس الأخرى. فالحدود، من حيث الشكل على أقل تقدير، ما بين الشعر الذي يراعي أصول كتابة النص الشعري من حيث الوزن والتقفية، وبين النص النثري التقريري التقليدي أو النص المسرحي واضحة. ولكن مثل هذه الحدود لا تكون عادة بمثل هذا الوضوح حين يتطرق الحديث إلى قصيدة النثر والقصة القصيرة جداً أو المقالة الشخصية والشذرة. «فدراسة الأشكال القصيرة – التي تغطي قروناً ولغات عدة – تكشف أن مفهوم الجنس الأدبي غامض، ومتغيِّر الشكل، وأحياناً غير موجود».

هذا ما يقوله الكاتب والمحرر آلن زيجلر، وهو ما دفع به إلى أن يصدر مختارات تضم قصائد نثر ومقالات موجزة، وأشكالاً أخرى من الأشكال النثرية في أنطولوجيا ضخمة تغطي مساحة زمنية تصل إلى خمسة قرون، تحت عنوان حاول فيه أن يجمع بين كل أشكال الكتابة المتشابهة في خصائصها وسماتها وهو Short، أو ما يمكننا ترجمته بالنص القصير.

64cإن تصنيف النصوص النثرية القصيرة يبدو محيراً بالفعل في كثير من الأحيان؛ فما قد يكون قصيدة نثر عند كاتب ما قد يكون ومضة قصصية أو مقالة موجزة عند كاتب آخر. كما أن محرر أي أنطولوجيا سيقف حائراً في تصنيف النصوص النثرية القصيرة التي تركها كتَّابها غفلاً من التصنيف.

الحل الذي يقترحه معدّ هذه الأنطولوجيا التي بين أيدينا هو أن يضعها جميعاً في مكان واحد وتحت سقف وعنوان واحد جامع لشتاتها ومقرب بين سماتها؛ فهنا سنجد قصائد نثر لستيفان مالارمي وهارييت مولان، إلى جانب قصص قصيرة جداً للويزا فالينزويلا وديان ويليامز، ومقالات موجزة لإدغار آلن بو وجو ويندروث، وشذرات لفريدريك شليجل وسيوران، ومقطوعات غير مصنفة لروبرت موزيل و دبليو. إس. ميروين.

Penولأن إيراد كلمة Short (النص القصير) وحدها على غلاف الكتاب كان سيبدو غير كافٍ لإعطاء فكرة للقارئ عن محتواه، فقد فضل محرر الكتاب أن يضع عنواناً فرعياً مسانداً يوضح الرؤية ويرفع اللبس المحتمل. فماذا جاء في ذلك العنوان الفرعي؟ «أنطولوجيا عالمية لخمسة قرون من القصص القصيرة جداً، وقصائد النثر، والمقالات الموجزة، وأشكال أخرى من النثر». هذا ما جاء في العنوان الفرعي الذي كان يمكن أن يمتد ليشمل الحكايات والأقوال المأثورة وقصة الومضة وقصة اللمحة والقصص المصغرة والنانوقصة والقصة السريعة والحالات والسكيتشات، إلخ.

64b

ولكي يضع النصوص المختارة في إطار محدَّد من حيث الحجم، فقد آثر معدّ المختارات ألا يتجاوز عدد كلمات النصوص المختارة 1250 كلمة. أما الثقافات التي تنتمي لها تلك النصوص فهي الثقافات الغربية، أو الآداب الغربية، مع إقرار الكاتب في مقدمته أن هناك نصوصاً كثيرة رائعة تنتمي لثقافات أخرى غير غربية لم يشتمل عليها الكتاب، خاصة الآداب المشرقية. ويبرِّر استبعاد نصوص تلك الآداب من هذه الأنطولوجيا، بأنه من غير الممكن ضم كل ثقافات العالم في أنطولوجيا واحدة، وهو تبرير يمكن تفهمه وتقديره. ولكن السؤال هنا هو لماذا لم يستخدم مفردة «غربية» بدلاً من «عالمية» في عنوان الكتاب، ليكون التوصيف أكثر دقة وموضوعية؟

نماذج من النصوص القصيرة

• الفنان
في إحدى الليالي ألحَّت عليه رغبةٌ لصنع تمثال السعادة التي تدوم للحظة، فخرج باحثاً عن البرونز، حيث لم يكن بإمكانه التفكير إلا بالبرونز. ولكنَّ البرونزَ الموجودَ في العالم تلاشى تماماً، ولم يكن من الممكن العثورُ على البرونز في أي مكان، ما عدا البرونز الذي يشكّل تمثال الحزن الذي يدوم إلى الأبد.
64aلقد صنع هذا التمثال بنفسه. بيده صنعه ووضعه على قبر الشيء الوحيد الذي أحبه في الحياة. على قبر الشيء الميت الذي أحبه وضع هذا التمثال الذي صنعه بنفسه لكي يبقى علامة على حب الإنسان الذي لا يموت، ورمزاً لحزن الإنسان الذي يبقى إلى الأبد. وفي كل أرجاء العالم لم يكن هناك من برونز سوى البرونز الذي صنع منه هذا التمثال.
فما كان منه إلا أن أخذ التمثال الذي صنعه، ووضعه في أتونٍ كبيرٍ، وأطعمه للنار. وهكذا من تمثال الحزن الذي يدوم إلى الأبد صنع تمثال السعادة التي تدوم للحظة.

أوسكار وايلد

• عجل البحر الميت

(1)

booksماشياً صوب الشمال باتجاه المكان، أصادفُ عجلَ بحرٍ ميتاً. على بعد عدة أقدام يبدو مثل جذع بني اللون. الجسدُ مستلقٍ على ظهره، ميتاً منذ عدة ساعات فقط. أقف وأنظر إليه. هنالك رعشة في اللحم الميت: يا إلهي، إنه لا يزال حياً. وتنتابني صدمة، كما لو أن أحد جدران غرفتي قد تهاوى.
رأسه متقوِّس إلى الوراء، العينان الصغيرتان مغمضتان؛ شعر شاربه يرتفع وينخفض أحياناً. إنه يُحتضر. هذا هو الزيتُ. هنا فوق ظهره الزيتُ الذي يدفئ منازلنا بكفاءة بالغة. الريح تعصفُ بالرمل الناعم باتجاه المحيط. الزعنفةُ القريبةُ مني تظل مطوية فوق البطنِ، وتلوحُ مثل ذراعٍ غير مكتملةٍ، مزججةٍ بشكلٍ طفيفٍ بالرملِ على حوافها. الزعنفةُ الأخرى نصفها باقٍ في الأسفل. وجلدُ عجل البحر يبدو مثل معطف قديم، مخدوش هنا وهناك – من قبل قواقع بلح البحر ربما.
أمدُّ يدي وأمسّه. فجأةً ينتصب قائماً ويلتفتُ. يصدر ثلاث صرخات: أورك! أورك! أورك! – مثل الصرخات التي تصدرها ألعاب الكريسماس. يندفع بقوة باتجاهي؛ أصابُ بالذعر وأقفزُ إلى الوراء ، بالرغم من معرفتي أنه ليس هنالك من أسنان في ذلك الفك. يأخذ في التخبط باتجاه البحر. ولكنه يخرُّ فوق وجهه. إنه لا يريدُ الرجوع مرة أخرى إلى البحر. ينظر عالياً باتجاه السماء، ويبدو مثل سيدة عجوز فقدت شعرها. يضع ذقنه مرة أخرى فوق الرمل، ويعيد ترتيب زعنفتيه، وينتظر لكي أرحل. فأرحل.

(2)

في اليوم التالي أعود لأودعه. إنه ميت الآن. ولكنه ليس ميتاً. لقد كان على مسافة ربع ميل من الشاطئ. اليوم أصبح أشد نحافة، جاثماً فوق بطنه، ورأسه مرتفع.
أضلاعه أصبحت أكثر وضوحاً: كل فقرة في ظهره تحت المعطف أصبحت مرئية، وملتمعة. إنه يشهق ويزفر.
تجيء موجةٌ، وتمسُّ أنفه. يلتفتُ وينظر إليَّ – عيناه مائلتان؛ قمة رأسه تبدو مثل سترة صبي جلدية مثنية فوق قضبان دراجة هوائية. إنه يموتُ ببطءٍ. الشاربان أبيضان مثل شوكات الشيهم، والجبهة تميل…؟
وداعاً، يا أخي، لتمتْ في صوت الأمواج. اغفر لنا إن كنا قد قتلناك. لتعش سلالتك طويلاً، سلالة الإطار الداخلي، التي لا تستقر على البر، والتي تجد راحتها في المحيط. لتنعم بالراحة في الموت إذاً، حين سيخرج الرمل من منخريك، ويكون بوسعك أن تسبح في حلقات طويلة خلال الموت المطلق، غاطساً إلى الأسفل في الوقت الذي تندلع فيه الاغتيالات فوقنا. لا تريد مني أن ألمسك. أتسلقُ السفحَ وأعودُ إلى المنزل من الجهة الأخرى.

روبرت بلاي

• الفأرة

دراسة الأشكال القصيرة – التي تغطي قروناً ولغات عدة – تكشف أن مفهوم الجنس الأدبي غامض، ومتغيِّر الشكل، وأحياناً غير موجود

بينما كنت جالساً تحت ضوء المصباح، أكتبُ صفحتي اليومية، تناهى إلى سمعي صوتٌ واهٍ. وكنت كلما توقفتُ، فإنه يتوقف أيضاً. ويبدأ مرة أخرى، ما إن أشرع في خربشة طريقي عبر الصفحة. إنها فأرة تستيقظ.
أشعر بمجيئها وذهابها حول الزاوية المعتمة حيث تضع الخادمة خِرَقَها ومكانسها.
تقفز الفأرة إلى السطح وتهرول عبر بلاطات المطبخ. تمر بالقرب من الموقد، أسفل المغسلة، وتختفي بين الصحون، وعبر سلسلة من مهمات الاستطلاع التي تتوسع فيها شيئاً فشيئاً، تقترب مني.
في كل مرة أضع فيها قلمي، يزعجها الصمت. وفي كل مرة أستخدمه، تحسب، كما أفترض، أن هناك فأرة أخرى، وهذا ما يبعث فيها الطمأنينة.
وبعد ذلك تغيب عن بصري. ثم لا تلبث أن تظهر أسفل طاولتي، وعند قدميّ. تدور حول ساق الكرسي هذه وتنتقل منها إلى تلك. تمس فردتي حذائي، وتقضم النعل، أو بشيء من الجرأة ترتقيهما!
والآن سيكون عليَّ ألا أحرك ساقي، وألا أتنفس بشكل عميق وإلا فستختفي.
ولكن يتوجب عليَّ أن أواصل الكتابة، وإلا فإنها ستنصرف عني تاركة إياي في وحدتي – أكتب، وأخربش أشياء صغيرة، بالغة الصغر، أنيقة، تماماً كما تقضم هي نعل حذائي.

جول برنار

• الوصول الغريب للرسالة الغريبة
كان يوماً طويلاً في العملِ ورحلةً طويلةً رجوعاً إلى الشقةِ الصغيرةِ حيثُ كنتُ أقيم. حين وصلتُ إلى هناك أشعلتُ النورَ ورأيتُ فوقَ الطاولةِ مظروفًا كُتبَ اسمي عليه. أين كانت ساعةُ الحائطِ؟ أين كانت الروزنامة؟ كان الخطُ خطَ أبي، لكنه ميّتٌ منذ أربعين عاماً. وكما قد يخمنُ المرءُ، رحتُ أفكرُ أنه ربما، فقط ربما، لا يزال حيّاً، يعيشُ حياةً سريّةً في مكانٍ ما قريبٍ. وإلا كيف يمكنُ تفسيرُ وجود المظروف؟ ولكي أستعيدَ توازني، جلستُ، وفتحته، وأخرجتُ الرسالةَ. «ولدي العزيز» هكذا بدأت الرسالة. «ولدي العزيز» ثم لا شيءَ بعد ذلك.

مارك ستراند

• برعم الزنبق
أبصرَ الرجلُ برعمَ زهرةٍ في راحةِ يدهِ. كان البرعمُ راسخاً ورديّ اللون، وكلما تفتّحَ بزغ منه وجهٌ خجولٌ بالغُ الصغرِ. لم يتحدثْ إليه الوجهُ ولم يبتسمْ له، وكان يكتفي بالتحديقِ بطريقةٍ غريبةٍ ملؤها التساؤل. لم يكن الرجلُ يعرفُ أيَّ شيءٍ عن الوجهِ، ولكنَّه أحس بعاطفةٍ غامرةٍ تجاهه فصارَ يرعاه ويحرصُ على حمايته. وأصبح لا يستخدمُ اليدَ التي تضمُّ الزهرةَ ذاتَ الوجه؛ وكان يبقيها إلى جانبه في قبضة مرخيّة، حتى لا يتنبه لوجودها أحد. وحين يخيّمُ الظلامُ كان يضعُ يده المبسوطةَ على مقربةٍ من خده. وإذ يغطّ في النومِ كان الوجه يشرعُ في الدندنةِ بصوتٍ خافتٍ طوالَ الليل، وكانت تنتابُ الرجلَ أجملُ الأحلامِ وأعذبُها.

كيم وايت

• الذئاب
الذئاب تهيمنُ على هذه الغابةِ. لقد أطاحت بمن كانوا مهيمنين عليها من قبل، وبسطت سيطرتها على كل المخلوقات فيها، وباتت هذه الغابةُ الآن ملكاً لها.
ولكن لا تدع الخوف يتسلل إليك إن مررت من هذه الناحية. فما من شيء هنا يمكن له أن يؤذيك، لأن الذئاب، بالطبع، قد جُبلت من شيءٍ أقل من الهواء.
عضتها تشبه النسيم. وحين تركض فإن بضعة أوراق تهتز. وربما تنحني زهرةٌ حين يعوي.
اعبر الغابة متى ما شئت، فما ينبغي لك أن تخشاه ليس موجوداً في الغابة.

كريغ مورجان تيشر

 

أضف تعليق

التعليقات

مها

رائعة