أدب وفنون

النشر الذاتي

أهو بداية الاستغناء عن الناشرين؟

cover ebook1في القرن العشرين لم يكن نشر كتاب بالشكل التقليدي من خلال دور النشر المعروفة يعني، لأي كاتب، مجرّد توزيع طبعات من كلمات جاءت عصارة إبداع وجهد وبحث طويل موضوعة بين غلافين أنيقين، وإنما كان الأمر أشبه بتحقيق فوز معيَّن، إذ يشير إلى اختيار الكتاب وتأهُّله للنشر بعد التفحص والمراجعة من قبل مجموعة من المحررين والمدققين. ولكن الحال تغيَّر، وبطريقة جذرية. أصبح النشر الذاتي، الذي كان يُعد في وقت من الأوقات ممارسة غير مجدية في إثبات الذات، مشروعاً اقتصادياً قابلاً للحياة لمؤلفي الكتب الإلكترونية.

وفقاً لشركة «بوكر» الأمريكية التي تُعنى بنشر كل ما يتعلق بلوائح دور النشر والمكتبات، صدر في عام 2013م وحده نحو 460,000 كتاب منشور بطريقة ذاتية على النطاق العالمي، أي بزيادة خمسة أضعاف خلال سنوات خمس. وأصبحت الكتب المنشورة ذاتياً تُمثل نحو %4.5 من سوق الكتب، و%15 من سوق الكتب الإلكترونية، في الولايات المتحدة. ومما لا شك فيه بأن صناعة النشر الذاتي بدأت تتطور من مساحة من الفوضى، ذات عناصر بدائية، إلى صناعة لها مقوماتها الأساسية. فالكتب المنشورة ذاتياً لم تزد في الأرقام فقط، وإنما أصبحت لها بصمتها الخاصة ومميزاتها المستقلة.

كانت شبكة الإنترنت وظهور الكتب الإلكترونية العاملين اللذين مثَّلا الأساس في تغيير قواعد اللعبة. فازدهرت أخيراً الكتب الإلكترونية بشكل كبير، وبلغت نسبة حقوقها نحو %40 من حقوق المؤلفين في شركة «أمازون»، الشركة الرائدة في النشر الذاتي، التي تُعد أكبر مكتبة في العالم. كما وصلت نسبة حقوقها إلى نحو %35 من حقوق المؤلفين للكتب الإلكترونية، وذلك لدى مجموعة الناشرين الخمسة الكبرى (مجموعة هاشيت للكتب، هاربر كلينز للنشر، مكميلان للنشر، بنغوين راندوم هاوس، وسيمون وشوستر). وقد أدّى ازدهار هذا النوع من الكتب إلى تمهيد الطريق أمام النشر الذاتي، إذ وفّر الإطار الرقمي المناسب والأدوات التقنية السهلة الاستخدام للانطلاق بهذا النوع من النشر. كما أنّه مع بداية ظهور الإنترنت فُتحت آفاق، وإن محدودة، للنشر الذاتي، حيث ازدهرت كتابة المدوّنات والمحادثات القصيرة وكتابة المذكرات والأسفار والتعليقات وتحميل الصور، وكلّها أشكال مختلفة من النشر الذاتي بطريقة أو بأخرى.
books speed
ومن ناحية ثانية قدّمت أمازون مساحة توفّر خدمات لتسهيل كل مراحل النشر الذاتي تُعرف باسم «Create Space». فهي لا تسهل طبع الكتاب فقط، وإنما تضمن صدوره بشكل أنيق وجذَّاب وبغلاف ملوّن ذي جودة فنية عالية، إضافة إلى تزويده برقم حسب المعيار الدولي (.I.S.B.N). وبذلك يكون للكتب المنشورة ذاتياً نفس مواصفات الكتب الصادرة عن دور النشر التقليدية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن أكثر الكتب التي استفادت من التقدم التكنولوجي وازدادت أعدادها بطريقة النشر الذاتي، هي كتب الصور الفوتوغرافية التي ازدهرت بسبب التطور الذي أحدثته التكنولوجيا الرقمية في تصميم وإنتاج المنشورات المرئية.

مميِّزات جديدة
وإضافة إلى جميع مميزات الكتاب الإلكتروني، فإن للنشر الذاتي مزايا عديدة، منها سرعة الوصول إلى الأسواق، حيثُ من الممكن أن يتم الانتهاء من متطلبات عملية نشر الكتاب خلال أيام قليلة، بينما من الممكن أن يقطع الكتاب العادي ماراثوناً لمدة عام إلى العامين حتى يرى النور. كما يملك الكاتب قدرة على التحكم الكامل في عملية التخطيط، والتحرير، والتصميم، بينما تكون هذه القدرة على إجراء التغييرات في النشر التقليدي أقل بكثير، إذ إن الكاتب سيضطر إلى مراجعة دار النشر، وربما لن يتمكن من إجراء أي تغيير في نتاجه وجهده.

وقد سمح إطلاق تكنولوجيا «الطبع على الطلب» (Print on Demand) للكتَّاب والناشرين بتخفيض مخاطر النشر الذاتي. وتساعد تلك التقنية على طبع الكتب عند الطلب فقط، دون ضرورة تكديس الكتب في انتظار بيعها. ويساعد هذا الأمر على تخفيض النفقات. كما أنه بالنسبة لأي ناشر ذاتي يمكن لبيع النسخ مباشرة إلى المستهلك أن توفر عليه النسب المطلوبة للناشرين والموزعين التي قد تصل أحياناً إلى %50 من سعر المبيع.

من الممكن أن يتم الانتهاء من متطلبات عملية نشر الكتاب خلال أيام قليلة، بينما من الممكن أن يقطع الكتاب العادي ماراثوناً لمدة عام إلى العامين حتى يرى النور..

ومن ناحية التسويق، ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي على الترويج المجاني لبيع الكتب على الإنترنت. وهناك أمثلة كثيرة على كتّاب استطاعوا تحقيق نجاح باهر في هذا الخصوص. فقد قام الكاتب مارك دوسن بإصدار روايتين منذ عقد مضى بطريقة النشر التقليدية ولم يستطع بيع أكثر من 700 نسخة منهما. ولكنه أخيراً أصدر روايتين حديثتين قام بنشرهما ذاتياً من خلال أمازون وتمكن من بيع أكثر من 150,000 نسخة منهما. وكان قد أنشأ مجموعة من القرَّاء الذين وافقوا على قراءة كتبه قبل نشرها أو ما يسمى بـ «القرّاء المسبقين» في مقابل حصولهم على نسخة مجانية، كما استطاع التواصل، من خلال وسائل التواصل الرقمية، مع أكثر من 10,000 شخص. وبالإضافة إلى الترويج الذاتي، تقدِّم شركة أمازون ما يسمى بالبصمات (imprints) التي تساعد على الترويج لمختلف أنواع الكتب، ومن بينها الكتب المنشورة ذاتياً. وهناك أربع عشرة بصمة لمجموعة أمازون للتجارة الإلكترونية مثل «Thomas&Mercer» التي تروج لكتب التشويق و«Little a» لكتب الخيال الأدبي و«Two Lions» لكتب الأطفال. كما يمكن للنشر الذاتي أن يفتح باباً للشهرة ويمثل نقطة انطلاق لتحقيق مزيد من النجاح مثلما حدث مع ثلاثية «خمسون ظلاً للرمادي» لكاتبتها البريطانية إي ال جيمس، التي نشرتها أولاً بطريقة ذاتية، ومن ثم التقطتها شركة «راندوم هاوس» للنشر وطبعتها ورقياً، وأصبحت بعدها أكثر الكتب مبيعاً على مستوى العالم.

عربياً.. بدايات متعثرة
على المستوى العربي، وبسبب عدم انفتاح معظم الكتَّاب باللغة العربية على تقنيات النشر الذاتي ومواجهتهم صعوبات كبيرة في ذلك، لم توجد حتى الآن شركة تمكَّنت من إحداث اختراق تقني حقيقي في تطوير الكتب الإلكترونية باللغة العربية، باستثناء شركة «Narcissus» الإيطالية التي صارت توفّر في الآونة الأخيرة خدمة النشر الذاتي باللغة العربية.

ولمواجهة الصعوبات التي يواجهها الكتّاب في العالم العربي في النشر الذاتي، قامت شركة «The Townhouse Gallery» المصرية بتقديم ورش عمل على فترات متقطعة لتعليم برنامج التعبير الرقمي العربي. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه يوجد موقع عربي يقدِّم خدمة ترجمة الكتب إلى الإنجليزية بهدف نشرها في أمازون ليتمكن مستخدمو جهاز كيندل من شرائها وقراءتها.

editableأما بالنسبة لدور النشر، فيتميز موقفها بالفتور تجاه فكرة الكتب الإلكترونية، والنشر الذاتي. فهي لا تزال تعتقد بأن الاستمرار على الطريقة التقليدية في النشر كفيل باستمرار تجارتها. أما في الغرب، وبدلاً من إظهار الخوف من ازدهار النشر الذاتي، فقد بدأت دور النشر بالتأقلم مع الأوضاع الجديدة، وصارت تقدِّم معلومات أكبر عن البيع، وهي تسير بذلك على خطى شركة أمازون، وإن مع شيء من التأخير. وبدأت شركات مثل «HarperCollins» بالالتفاف على طرق النشر التقليدية للحصول على عقود للنشر، وذلك من خلال إنشائها موقع «Authonomy» الذي يسمح للكتّاب الطامحين بتحميل كتبهم على الموقع، لتتم قراءتها من زوار الموقع وإضافة التعليقات عليها، ومن ثمَّ تصنيفها من قبلهم. ويحظى الكتاب الذي يحصل على أفضل التعليقات والتصنيف كل شهر على فرصة مراجعته من قبل محرري «هاربر كولينز» لدراسة إمكانية نشره. كما بدأ ناشرون آخرون تقديم خدمات أخرى، إذ دفعت شركة «بنغوين» 116 مليون دولار أمريكي إلى شركة «Author Solutions»، التي تدير مجموعة من البصمات للنشر الذاتي، لتسهيل أمور الراغبين بنشر كتبهم على طريقة النشر الذاتي. والبرهان الآخر على الاهتمام المتزايد بالنشر الذاتي هو الاستعداد المتزايد للشركات للتعاقد مع كتّاب المستقبل. على سبيل المثال تقدّم الشركة البريطانية «Author House» عرضاً للكتّاب بسعر 849 جنيهاً أسترلينياً تضمن فيه مساحة لثلاث نسخ في عدد من المكتبات ولمدة ثلاثة أسابيع. وفي أستراليا قامت شركة «Book Pal» بترتيب مشابه، إذ عقدت شراكة مع سلسلة مكتبات «Angus&Robertson» يُسمح فيه للقرَّاء بشراء أي كتاب منشور ذاتياً على قائمة «Book Pal» من سلسلة المكتبات هذه.

قد يقول البعض إنه لا يمكن للكتب المنشورة ذاتياً أن تصل إلى نفس مستويات العناوين التي تدعمها دور النشر التقليدية، فمهما كان الكاتب موهوباً لا يمكنه مضاهاة التصاميم التي يضعها الخبراء والتدقيق والتقييم الذي يقوم به المحررون المحترفون. ولكن كما أشار «بيت باربلان»، أحد المديرين في شركة «بوكر»، فإنّ الناشرين الذاتيين الناجحين لم يعودوا مجرّد كتّاب عاديين، وإنّما أصبحوا أصحاب مؤسسات صغيرة، حيث يقومون بالاستثمار في مؤسساتهم ويوظفون خبراء التحرير وأصحاب المهارات في اللغة والتدقيق والتصميم وخلافه، ليتحوّلوا إلى مشروع حيوي ونابض في مجال النشر. وكما حصل مع وسائل الإعلام في هذا العصر الرقمي، تم قلب منطق القرن الماضي رأساً على عقب، إذ أمكن لما هو صغير وذكي أن ينافس ما هو كبير ومنظم ويحمل علامة تجارية واضحة. وكما عبَّر عن ذلك موقع شركة «ايندي ريدر» التي تقدِّم، من بين خدماتها الأخرى، خدمة النشر الذاتي: «لنفكر في هذه الكتب مثل السلع المصنَّعة يدوياً المنتجة على نطاق ضيق بدلاً من السلع التي تُنتج وتباع في المتاجر على نطاق واسع».

أضف تعليق

التعليقات