رسالة المحرر

المواطن الذي يُشبهنا

يَعُدُّ ريجيس دوبريه، الباحث الفرنسي، أن عام 1980 هو عصر القنبلة الرقمية، أو يوتوبيا الصورة الجديدة، لكنّ هذه القنبلة لم تتوقَّف عند الصورة في الفضاء الإعلامي، بل شكَّلت قلب كل تواصل علمي وجغرافي وتقني وكوني، كما لم يتوقَّف تأثيرها عند النخب المالية أو الأكاديمية أو الاجتماعية، بل اخترق الحياة اليومية لكل مواطني العالَم.. وربما لم يحدث شيء في تاريخ الإنسانية مثل هذا في كل عصورها.

أصبح للمواطن العادي اليوم، وربما منذ قرابة عقد من الزمن، حصّته من الإعلام والاتصال المؤثِّر، وقد تفوَّق حجم تأثيره أحياناً على سلطة رئيس تحرير صحيفة تقليدية، فسلطة القول وإشاعة الرأي المختلف وتغطية الأحداث لحظة وقوعها أمورٌ مشاعة يمتلكها الجميع. وتستطيع الفئة النابهة منها تسويقها أحياناً بأغلى الأثمان. وقد حدث دائماً أن يبادر شاب أو فتاة إلى تغطية حادثة ما بأبخس الكاميرات وبثها إلى وكالات العالَم قبل أن يصل المراسل المسلَّح بأدواته وكاميراته وخبراته المهنية الطويلة إلى مكان الحدث، وأصبح لهؤلاء حيّز إعلامي في القنوات الإخبارية الرصينة التي كانت حكراً على مراسليها المعتمدين والمدرّبين على رواية الأحداث وتغطيتها وفقاً لسياسة المحطة وإرشاداتها. لا يحدث هذا في الحقل الإعلامي وحده، بل رأيناه يحدث في مجالات أخرى، لنرى مثلاً كيف تقتحم شركة “أوبر” عالم سيارات الأجرة وتهدِّد أرزاق الملايين الذين عاشوا في أروقة هذه المهنة لعقود ولم يعرفوا غيرها. وهكذا يولد المواطن- الصحافي في كل أركان الأرض ليلتقط المهنة التي كانت محصورة في النخب الصحافية ويعيد تقديمها ويوسّع فضاءاتها بفضل معطيات التقنية الحديثة ومنصاتها الهائلة.

(المواطن – الصحافي) الذي خصَّصنا له ورشة هذا العدد، هو سؤال كبير في فضاء وسائلنا الاجتماعية، فهذه الشريحة تسهم بطبيعتها في الحراك الاجتماعي وتؤثِّر في الإيقاع اليومي لحياة الناس، وهو ما يجعلها أحياناً “ترمومتراً” يحفِّز الدولة على اتخاذ القرارات المناسبة تجاه مواطنيها، وينبِّه المؤسّسات والمنظمات إلى الارتقاء بخدماتها. لكنَّ بعض أقطاب هذه الشريحة التي تمنّينا أن تكون فاضلة، تقع في الأخطاء أيضاً. فنظراً لكونها تعمل من دون معايير مهنية أو أخلاقية ملزمة، فإنها تنحرف إلى إعلاء أهوائها وميولها على حساب الحقيقة والعقل بما يهدِّد السلم الاجتماعي أحياناً. فكم امتلأت صفحات الفيسبوك والتويتر بأشكال الهجوم والتربص والقدح، وكم حملت من إشارات دينية وطائفية وعنصرية وقبلية أخرجت مضامين ما يكتبونه عن سياق الحقيقة الموضوعية. والأسوأ أن الحوار المعرفي المأمول بين التيارات المتشاجرة دينياً أو أيديولوجياً أو فكرياً ينكفئ لتحلَّ محله عبارات الشتم والتصفية، وهو ما عطَّل حوارات حقيقية منتظرة بين المتنازعين وحوّلها إلى مشاحنات غير لائقة. وهنا يلاحظ مارك لينش، أستاذ العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن، أنَّ برامج الفنون والرياضة والترفيه قادرة على تعزيز التماسك الاجتماعي العربي أكثر من الحوارات السياسية أو حوارات الرأي.

إننا نعيش اليوم في عالم متجاور يطوّقه الاقتصاد المعرفي، وتنهزم فيه الحدود، وتتقلَّص قدرات الحكومات على مراقبة المحتوى الجارف الذي تعج به وسائل الإعلام الجديد، ما يجعل من فكرة المواطن – الصحافي وغيرها من أفكار شبيهة فرصة للتعبير عن واقعنا بكل تأزماته، ولكن دون استعادة القيم الأخلاقية الكامنة في ثقافتنا، ومن دون وضع مدونة قانونية وضوابط مهنية تحكم ما ينتجه هذا المواطن الصحافي من تقارير وأخبار وصور، فإننا سنواصل العوم في محيط من التحقيقات والتقارير التي لا يحكمها أي مقياس.

إنَّ الفئة التي تبدو الأنجح حالياً ومستقبلاً هي تلك القادرة على مواءمة الاحترافية والمصداقية التي يتمتع بها الصحافي التقليدي الخبير مع القدرة الاستباقية ومستوى الحرية واستثمار الفضاء الإلكتروني التي يتمتع بها المواطن- الصحافي، فكلا الطرفين يصنعان علاقتنا كمستهلكين مع كل أدوات الاتصال الاجتماعي الجديدة.

أضف تعليق

التعليقات