ديوان اليوم

المتنبي يداعب دمية!

  • 79

لا بد لشاعر عظيم كأبي الطيب المتنبي، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، أن يكثُر حاسدوه؛ ويُحاول من استطاع منهم كَيْل التُهم له وإثارة نقمة مَنْ يقَرِّبه من الولاة والأمراء عليه. غير أنَّ هذا الشاعر الفذّ ترك آثاره العظيمة ليخلدها الزمان، و منها هذه الشوارد التي نوردها هنا.

هذه الأبيات القليلة تحمل في طيّها دُعابة وطرافة وظرفاً لا نعهده في شعر المتنبي. بل نراها، على بساطة الموضوع تحمل وصفاً جميلاً، ومدحاً، وفخراً بالنفس، وشكّاً بالحاسد وفرحاً بالانتصار وإثباتاً للمقدرة الشعرية …
من الذين كانوا يحسدون أبا الطيب لسرعة خاطره في ارتجال الشعر رجل يُعرف بابن كروس.
ويُروى أن ابن كروس التقى المتنبي في مجلس من مجالس بدر بن عامر، فألمح لبدر أن المتنبي يعمل شعره ويُعدّه قبل حضوره إليه.
فقال بدر: “مثل هذا لا يجوز أن يكون، وأنا أمتحنه بشيء أُحَضّره للوقت”.
فلمّا اكتمل المجلسُ، أَخرج بدر لُعبةً كان قد أَعَدَّها، لها شعر في طولِها، تدور على لولب وإحدى رجليها مرفوعة، وفي يدها باقة ريحان. وهي تُدار على الحاضرين، فإذا وَقفت أمام أحدهم نَقَرها فدارت، فقال أبو الطيّب فيها مُرتجلاً:
وجـاريــــــــةٍ شَــعْــــــــرُهــــــا شَـــطْـــــرُهـــــــــا
مُـــحَـــــــكَّــــــمَـــــــةٍ نـــــافـــــــــذٍ أَمْـــــرُهـــــــــــــــا
تــــــــــــدورُ وَفـــــــــــي كَــــفــــِّهـــــا طــــــاقـــــــــةٌ
تَضَــمـــــَّنَــهـــــا مُكــرَهــــاً شِــــبــــْرُهــــــا(1)
فـــــإن أسْكَرَتْـــنـــــــا فـــفـــــي جَهْــلــــِهــــــــا
بـمــــــا فَـعَـــلــــَتْــــــــــــهُ بــــِنـــــــــا عُـــــذْرُهـــــــــا

وَأُديرت هذه الدّمية فوقفت أمام أبي الطيّب فقال: جـــــــاريــــــــــةٌ ما لـــــجـســـــمـــــِهــــــــــا روحُ
بالقـــلــــبِ مِـــنْ حُبِّــــهـــــــــا تَبـــــاريــــــــحُ
فـــي كـــفِّهـــــــا طاقـــــةٌ تــــُشــــيــــــرُ بهــــــا
لكـــــلِّ طِــــيـــــبٍ مــــنْ طِـيبـــهــــــــا رِيــــحُ

ثم أَدارَها، فوقفَتْ أمام بدرٍ فقال المتنبي:
يــــــا ذا المَعـــــــالــــــــي وَمـــعْـــدِنَ الأدب
ســـــيِّـــــدَنــــــــــــا وابــنَ ســيِّــــدِ الـــــعَـــــرَبِ
(. . . . . .)
أَهــــــذِهِ قابــــــلَـــــــــتْـــــــــــــــكَ راقــــــصــــــــــــةً
أَم رَفَـــــعَــــــتْ رِجلَـــــــــها من الـتَّـعَـــــبِ؟

وأضاف يمدحه، وَيَصفُ الدمية بقوله:
إنَّ الأمــيـــــــــــرَ أَدامَ الله دولَـــــــــتَــــــــــــــــهُ
لَفَاخِرٌ كُسِيَــــتْ فَخْــراً بــــــه مُضَـــــــــرُ
في الشَّرْبِ جاريةٌ مِنْ تَحْتِها خَشَبٌ
مـــــا كـــــانَ والدَهــــــــا جِـنٌّ ولا بَشَـــــــرُ
قـامَتْ على فَرْدِ رجــلٍٍ مِنْ مَهَابَتِــــهِ
وَليسَ تعقِلُ مــا تأتي ومـــا تَــــــذَرُ(1)

وأُديرتْ ثانيةً فََسَقَطَتْ، فقال:
مَــــــا نَقَلَـــــتْ عِــنــــد مَشْيـــــــةٍ قَدَمَـــــــــــا
ولا اشْتَـــكَـــــــتْ مِنْ دُوارِهــــــا أَلَــمَـــــــــــا
لَمْ أَرَ شخصــــاً مِنْ قَبْـــــلِ رُؤيتـــِهـــــــــا
يـَفْعــــل أفعــــالَـــهــــــا وَمَــــا عَـزَمَـــــــــــا (2)
فَـلا تَلُمْــــهــــــــــا علـــــى تَوَاقُـــــعـــــِهـــــــــــــا
أَطْــرَبَـــــهـــــــا أنْ رَأتْــــــكَ مُبْتسِـــــــمــــــــــا

ويُقال إنَّ المتنبي وَصفها بشِعْرٍ كثير، وهجَاها أيضاً بمثلهِ (لم تحفظ تلك الأبيات). فما كان من ابن كروس إلاَّ أنْ خَجِلَ على عمله ذاك. وأمر بَدْر بِرَفْعِها، فَرُفِعَتْ. فارتجل المتنبي.
وَذاتِ غــدائِــــــرٍ(1) لا عَـــــيْــــــبَ فيـهـــــــــا
ســـــوى أَنْ ليـــسَ تَصْلُــــــحُ للعِــــنـــــــاقِ
إذا هَجَـرَتْ فــــعَــــــنْ غيـــــــر اختيـــــــــارٍ
وإنْ زارَت فَــــعَـــــنْ غــيــــرِ اشْتِـــــيـــــــــاقِ
أَمَرْتَ بـــــأنْ تُـــــــشــــــــالَ فَفــارَقتْــــــنــــــــا
وَما ألِمَـــتْ لحـــــــادثـــــــــةِ الــــفِــــــــــــراقِ

وداخل أبا الطيب الشكُّ في موقف ابن كروسٍ
فسأل بَدْراً:
“ما حَملك أيها الأمير على ما فَعْلْتَ؟”
فأجابه بدر:
“أردْتُ نَفْيَ الظَنَّةِ عن أدَبِكَ” فقال:
زَعَمْتَ أنَـــكَ تنفـي الظــنّ عن أدبـي
وأنتَ أعظـــمُ أهـــلِ الأرضِ مِقــــْدارا
إنّي أنا الذّهبُ المعروفُ مَخْبَرُهُ (1)
يزيد في السّبكَ للدينَـارِ دينــارا (2)

فعاجَلَهُ بَدْرُ بقوله: “بل للدينارِ قِنْطارا”.
فَرَدّ المتنبي بأبيات يمدح فيها كَرَمه ومنها:
بِرَجــــــــــاءِ جـــودِكَ يُطْــــــــرَدُ الفَـــقْــــــرُ
وَبـأنْ تُـــعَــــــــــادَى يَـنْــفَـــــــــدُ العـُـــمْــــــــــرُ

—————————-

ذلك الطفل الذي كنت
البحث عن الطفولة الضائعة في الشعر العربي الحديث
اختيار وتعليق الشاعر شوقي بزيع

يدين الشعراء في معظم ما يكتبونه من شعر لتلك الريح القادمة من جهة الطفولة محمَّلة بعبق البدايات، وروائح التراب البكر. ففي تلك الأماكن النائية وحدها يختلط ضوء الشمس بمياه الظلمات، ولمعان النجوم الأولى بما يرشح عن الأسَّرة من حداء أمومي. والمقطوعات الرائعة التي عثرت عليها في أعمال أدونيس ومحمد الفيتوري ونزار قباني وصلاح عبد الصبور ومحمود درويش وأمل دنقل تكاد تكون تنويعاً على المعنى ذاته ورثاءً للطفولة الهاربة إياها ومحاولة مضنية لاستنطاق ذلك الطفل المغيَّب في دواخلهم بوصفه القشة الأخيرة التي تعصمهم من الهلاك.

– إلى أمي
أحنُّ إلى خبز أمي
وقهوة أمي.. ولمسة أمي..
وتكبر فيَّ الطفولة يوماً على صدر أمي
وأعشق عمري لأني
إذا متُّ،
أخجل من دمع أمي!
خذيني/ إذا عدتُ يوماً
وشاحاً لهدبك
ضعيني، إذا ما رجعت
وقوداً بتنور نارك..
وحبل غسيلٍ على سطح دارك
لأني فقدت الوقوف بدون صلاة نهارك
هرمتُ، فردي نجوم الطفولة حتى أشارك
صغار العصافير
درب الرجوع.. لعشِّ انتظارك!
محمود درويش

– صورة
هل أنا كنت طفلاً..
أمَ اْنَّ الذي كان طفلاً سواي؟
هذه الصورة العائلية..
كان أبي جالساً، وأنا واقفٌ.. تتدلى يداي!
رفسة من فرس
تركت في جبيني شجاً، وعلمت القلب أن يحترس.
أتذكـر…
سال دمي
أتذكـر…
مات أبي نازفاً.
أتذكـر..
أختي الصغيرة ذات الربيعين.
لا أتذكر حتى الطريق إلى قبرها
المنطمس
أوَ كان الصبيُّ الصغير أنا؟
أم ترى كان غيري؟
(…)
أمل دنقل

– أول الكلام
ذلك الطفل الذي كنتُ، أتاني
مرةً،
وجهاً غريباً.
لم يقل شيئاً. مشينا
وكلانا يرمق الآخر في صمتٍ. خطانا
نهَرٌ يجري غريباً.
(…)
أدونيس

– ٥ رسائل إلى أمي
أيا أُمِّي ..
أنا الوَلَدُ الذي أَبْحَرْ ..
ولا زالَتْ بخاطرهِ
تعيشُ عَرُوسَةُ السُكَّرْ
فكيفَ .. فكيفَ .. يا أُمِّي
غَدَوْتُ أباً ..
ولم أَكبُرْ ؟.
نزار قباني

– طفل
قولي .. أمات
جسيه .. جسي وجنتيه
هذا البريق
(…)
هذا الصبي ابن السنين الداميات العاريات من الفرح
هو فرحتي، لا تلمسيه !
أسكنتُهُ صدري فنام
وسَّدْتُه قلبي الكبير
وسقيت مدفنه دمي
وجعلتُ حائطه الضلوع
وأنرت من هدبي الشموع
ليزوره عمري الظمي (….)
صلاح عبد الصبور

– الطفل والعاصفة
لأكاد أراه .. أرى جثته
ملقاة فوق العشب
فأصيح بها: يا ريح قفي
رديه .. فتنهار الأصداء
وتمتد قصور الرعب
وأطوف مع الليل حزينا
أجري .. والمأساة أمامي
تجري .. ها أنذا يا طفلي
آت أتسلق أيامي
ها أنذا يا طفل الرغبه
أضفر من أجلك أحلامي
ها أنذا .. حتى ينمو العشب
ويتعانق فوق رخامي.
محمد الفيتوري

هذه الحقيقة الإنسانية بالذات هي التي دفعت الناقد الفرنسي فرانس هيلينز إلى الاعتراف بأن “الطفولة ليست مجرد ذكرى. إنها الكنز الأكثر حياة، وهي تستمر بإغنائنا رغماً عنا. وويل لمن لا يقدر أن يستعيد طفولته أو أن يدركها كجسدٍ في جسده الخاص، أو كدم جديد في الدم القديم”.

لا شعر غنياً إذن بلا طفولة غنية. فهناك فقط تنتصب الشجرة الهائلة للاستعارات التي يقطفها الشعراء كما يقطف الفلاحون الثمار.
والشعراء ليسوا سوى الأبناء الشرعيين لأبوة الطفل الذي كانوه. لذلك لم يتردد الشاعر الإنجليزي ألكسندر بوب في القول بأن “الطفل هو أب الرجل”.

لم يقصر الشعر العربي منذ بداياته في استيلاد المعاني التي تحول الحياة برمتها إلى طللٍ مبلَّل بالحنين والترجيح والتعلق بأهداب الماضي، أو إلى التلفُّت بالقلب، وفق الشريف الرضي، نحو مصدر الغبطة الأرضية. وأكثر ما أدهشني وأنا أتصفح ديوان الشعر العربي الحديث هو رغبة الشعراء في استعادة الطفل الذي كانوه والذي يتوارى كفلذةٍ من الذهب وراء جبلٍ من الهزائم والعثرات وخيبات الأمل.

أضف تعليق

التعليقات

أحمد

عظيم المتنبي