رأي ثقافي

الكتَّاب بوصفهم مخترعين

7602428830_172f45dd49_zيتميز عمل الكاتب في المجال الأدبي بالتحديد بقدرته على بناء شخصيات قادرة على تكوين فكرته وتجسيدها من أجل إيصالها للمتلقي بشكل ناجح. فمهمة الكاتب في بناء قصة أو تصدير فكرة ما ترتبط بصناعة شخص أو مكان أو زمان قد لا يكون موجوداً في الواقع ولا يمثل حدثاً بعينه.

فصناعة المكان تعني تشكيل محيط آخر لأحداثٍ بعينها بغض النظر عن مدى صلتها بالواقع أو مدى قربها أو بعدها عنه. الأمر نفسه ينطبق على اختيار زمن أو عدة أزمنة في سياق تاريخي طويل. وقد يخترع الكاتب فترة زمنية لا تنتمي للتاريخ إطلاقاً وهذا يتيح له المرونة في اختيار الفكرة أو القصة. أي إن الكاتب لا يجد ضرورة أو يشعر بحمل في إيراد معلومة صحيحة تاريخياً خصوصاً في القضايا الجدلية والشائكة.

يبرز الكاتب كمبتكر في أعمال الخيال العلمي بشكل أدق وأوضح، لذلك يكون في هذا النمط من الأدب متسع للإبداع في حبكة المحتوى والشكل لقدرة الكاتب على الابتكار بشكل أكبر؛ لأن الكاتب يتحرر من قيود كثيرة مثل ربط المكان أو الزمان بالواقع.

في الخيال العلمي يتنوع الكتَّاب في طرح أفكارهم، فمنهم من استخدم ما يسمى بالتاريخ البديل (Alternative History)، أي إن الكاتب يؤلف قصته استناداً إلى تغيير أحداث تاريخية لامتحان لحظات حاسمة شهدت ترجيح كفة دولة أو فريق سياسي. من بين الكتَّاب الذين طرقوا هذا النوع من التوظيف الثلاثي الأمريكي وارد مور، وهاري تيرتليدوف وأيضاً فيليب ديك. بشكل عام استند كتَّاب التاريخ البديل على سرد القصة بطريقة مشابهة للرواية التاريخية، لكنهم أضافوا أحداثاً لم تقع لتغيير مجرى الحدث الرئيس كالحرب مثلاً.

The_Time_Machine_Classics_Illustrated_133قد تتساءل: كيف ابتكر هؤلاء الكتَّاب تاريخاً مختلفاً في أعمالهم. اعتمد الأول في عمله Bring the Jubilee على الحرب الأهلية في أمريكا كمصدر لصناعة الحدث وبالتحديد صراع مدينة جاتيسبيرغ في ولاية بنسلفينيا. تاريخياً، لم يقتصر النزاع بين الشمال والجنوب الأمريكيين بين أفراد الشعب من البيض الشماليين والسود الجنوبيين فقط، بل شهدت الحرب سجالاً طاحناً وكانت جاتيسبيرغ الفيصل ونقطة التحول في الحرب بأكملها عندما تجابه الكونفدراليون من الجنوب مع وحدات الجيش. وارد مور ابتكر شخصية قادرة على العيش بين فترات زمنية متباعدة. البطل الذي يعيش في القرن العشرين يبحث عن تحقيق حلمه كباحث، فيلتقي مؤرخاً بإمكانه إعادة الزمن قرناً كاملاً، إلى القرن التاسع عشر من جديد، كي يتسنى للبطل وصف الحرب في جاتيسبيرغ.

لم يستطع المؤرخون عبر عشرات السنين حسم النقاش حول من انتصر في الحرب الفاصلة. أراد الكاتب هنا توظيف القصة في إيجاد الحقيقة الغائبة. عندما يتمكن البطل من العيش في القرن التاسع عشر يحسم المعركة لصالح الجنوب ويعلن استقلاله عن الدولة. يخترع الكاتب هنا إحدى أدوات الخيال العلمي وهي «السفر عبر الزمن». وهي نفسها الآلية التي قدَّمها الكاتب الإنجليزي هيربيرت ويلز في عمله «آلة الزمن»، حيث مكَّن الواقع من الارتحال من زمنه الحقيقي إلى زمن آخر. يتضح من عنوان العمل أن الزمن آلة يبتكرها الكاتب لتحقيق غرضه من الطرح.

الكاتبان هاري تيرتليدوف وفيليب ديك تبعا نماذج مشابهة في أعمالهما. تيرتليدوف أوجد الإمبراطورية البيزنطية في الحرب العالمية الثانية، بينما ناقش ديك تمحور الوقائع التاريخية بين مصدق ومكذب لها عبر الأجيال.

لا تختلف فكرة السفر عبر الزمن من حيث الهدف والتأثير عن توظيف شخصيات خارقة تقوم بأعمال تفوق طاقتهم. فيستخدم عدد من الكتَّاب شخصيات كهذه تتسم بصفة معينة كالقوة الخارقة مثلاً وتهدف غالباً إلى تمثيل فكرة اجتماعية. في «Black No More»، ابتكر الكاتب جورج سكايلر طريقة علمية يمكنه من خلالها تحويل لون بشرة الأشخاص من السمراء إلى البيضاء. ويهدف سكايلر من هذا الابتكار إلى نقد وفهم علاقات البشر مختلفي الأعراق ببعضهم لنقد العنصرية في أمريكا في أوائل القرن العشرين. أراد الكاتب تمثيل الواقع الاجتماعي من خلال افتراض بلاده كدولة عرق واحد يرفض الآخر.

تبيِّن الأمثلة السابقة أن الكاتب هو مبتكر بالدرجة الأولى، إذ إنه يحتاج إلى صناعة الحدث أو الفكرة من خلال اختراع أداة لإيصال فكرته. لا أدل على هذا من مثالَي أدوات السفر عبر الزمن، والقوة الخارقة، اللتين أثمرتا في صناعة تاريخ بديل وفهم أكبر لوقائع المجتمع الراهن.

أضف تعليق

التعليقات