حياتنا اليوم

الفن

والفنانون على أشيائنا اليومية

 

حين يقف المستهلك في متجر أمام رفّ يضم مواد استهلاكية من النوع نفسه ولكن من إنتاج شركات مختلفة، ويحار كيف يختار ما سيشتريه من بينها، فلماذا سيختار هذا دون ذاك، رغم أن أسعارها متقاربة وجودتها قد لا تتفاوت كثيراً؟ إنه الشكل الجذَّاب وفق ما يقوله اختصاصيو الإعلان ومراقبو أهواء المستهلكين. غير أن هذا القول، على صحته، يختزل صناعة عملاقة. فماذا عنها؟

يتألَّف”الشكل الجذَّاب” من ألوان غلاف السلعة، ومن حجمها وطريقة تغليفها،. والأهم من ذلك، الاسم الذي تحمله. فهذه المكوّنات مجتمعة تجذب عين المشتري وتلعب دوراً حاسماً في تحديد قراره بالشراء من عدمه. لذا، ازدهرت أعمال وفنون تقديم البضائع منذ بات الإعلان عنها في وسائل الإعلام المرئية أمراً لا بد منه للترويج لها. وبات الاهتمام بالشكل الخارجي أكبر من الاهتمام بالبضاعة نفسها، وصار لهذا النوع من الأعمال اختصاصات محدَّدة تدرّس في الجامعات، يلاحق العاملون فيها أهواء وأمزجة المستهلكين والموضة السائدة التي تجتذب فئات عمرية معيَّنة، ومن طبقات اجتماعية مختلفة. فطريقة تقديم المنتجات للرجال تختلف عن طريقة تقديمها للنساء، وما يقدَّم للمراهقين يختلف عنه للمراهقات، وللأغنياء غيره للفقراء.
يدخل كل ذلك في أطرٍ فنون التشكيل، ففنون تقديم البضاعة شكلاً ولوناً وتغليفاً، تشبه أي نوع من أنواع الفنون التشكيلية كالرسم والنحت وعروض التجهيز وغيرها، وإذا أضيف إليها اسم لفنان تشكيلي فإن صورتها تكتمل في ذهن المتلقي. فالرسَّام سيختار بالتأكيد دفاتر للرسم ومعاجين الألوان التي تحمل اسم “بيكاسو”، وستشتري المرأة عطراً أو أدوات التجميل التي تحمل اسم “دالي” الشغوف بجمال زوجته غالا، التي رسمها في معظم لوحاته، وسيختار الجميع ملابس وحقائب “شانيل” رائدة الموضة الفرنسية، حتى لو كانت بضائع مقلَّدة، وقد باتت تشكّل سوقاً واسعاً منذ صار اسم صاحبتها أهم من البضاعة نفسها.

النجوم والفنَّانون سلعاً
تطوّر هذا النوع من الإعلان عن المنتجات ليصبح عامّاً، أي تتبنّاه كل الشركات والمؤسَّسات الإنتاجية، لأنه بات جزءاً أساسياً للترويج لبضائعها وتسويقها وخلق صورة أيقونية لها في ذهن المتلقي المستهلك. وبات التنافس على أشدّه في القطاعات المختلفة للترويج، وكلما كان الشكل فنياً وأكثر جاذبية لفئات واسعة من المستهلكين كانت البضاعة أكثر رواجاً. لذا لجأ المروِّجون إلى النجوم على اختلافهم، من الرياضيين والممثلين وعارضي الأزياء والمغنّين والفنَّانين التشكيليين، الذين يشكِّلون مُثلاً عليا لجمهورهم. فلا بدّ للجمهور من أن  ينجذب إلى البضاعة التي يستخدمها نجمه، مثاله الأعلى، وليس بالضرورة أن تكون البضاعة تدخل في إطار عمل النجم، فيمكن للاعب كرة قدم أن يروِّج لشامبو أو معجون أسنان، ويمكن لممثِّل أن يروِّج لنوع من المشروبات، ولعارضة أزياء شهيرة أن تروّج لعطر، ولرسّام أن يروّج لملابس…ويدخل الفن التشكيلي في كل ما نصنعه لإمتاع حواسنا. وهذا هو معنى الشكل في الفن، ولا فرق في هذا بين البناء المعماري أو المجسم أو الصورة أو القصيدة أو المعزوفة.. فجميع هذه الأشياء تتخذ أشكالاً معيَّنة لا يمكن إدراكها إلا باعتبارها  ألواناً، ولا يمكن الفصل بين ما نراه شكلاً وما نراه لوناً. وما اللون إلا المظهر الخارجي للشكل، ومع ذلك فإن للون دوراً مهماً يلعبه في فن تقديم السلعة بسبب تأثيره المباشر على حواسنا.

الترويج فن تشكيلي
قديماً، كان مصطلح “فن” يُستخدم للإشارة إلى أية مهارة أو براعة، وهو مفهوم تغيّر خلال العصر الرومانسي في القرن التاسع عشر، عندما أصبح ينُظر إلى الفن باعتباره قدرة خاصة على التصنيف يتمتع بها العقل البشري، أي التمييز بين المنتج المعروض للاستخدام، والمنتج المعروض للزينة. وينطبق هذا التمييز على فنون النسيج مثلاً، حيث يُستخدم الآن مصطلح فنون ألياف النسيج، أو فنون النسيج، لوصف الأشياء التزيينيَّة القائمة على النسيج وغير المخصَّصة للاستخدام العملي. وهو ما ينطبق أيضاً على عالم الأزياء، إذ إن الأزياء المعروضة على خشبات العروض لمصممي الأزياء العالميين تختلف تماماً عن بضائعهم الموجودة في السوق. ففي عرض الأزياء يقدِّم المصمم عملاً فنياً يحفر اسمه في مخيلة المستهلك، الذي حين يذهب إلى السوق لشراء الملابس فإنه سيجد أنواع الملابس “على الموضة” والصالحة للاستخدام اليومي، لكنها تحمل اسم مصممها الذي يميِّزها عن غيرها من الملابس، ولو كانت متشابهة بتصميمها. فاسم المصمم بات منفصلاً عن منتوجه. وهو الفنان الذي يخلق اسماً خاصاً لمنتجاته، رغم أن قطعة الملابس نفسها من صنع عامل الخياطة نفسه في أحد المعامل المنتشرة في البلدان النامية مثلاً.

مصطلح “البراندنومر” هو عبارة عن اسم العلامة التجارية التي أصبحت مصطلحاً عالمياً للمنتج أو الخدمة أياً كانت علامته التجارية.

إنه التمييز بين الجانب النفسي الذي يحدّده الشكل الخارجي للمنتج وبين الجانب التجريبي. والجانب النفسي، عبارة عن هيكل رمزي تم تأليفه وتكريسه في ذهن المستهلك المفترض عبر بث متواصل للصورة في وسائل الإعلام المختلفة والكثيرة. وهذا لا يتطلَّب إقناع المستهلك بأنَّ العلامة التجارية المرتبطة بالمنتَج لديها من الصفات والكفاءة ما يجعلها خاصة أو فريدة من نوعها، فقط، بل وإقناعه أن المنتج الذي سيشتريه هو نفسه المعلن عنه بكل البهرجة والجدية التي يراها.

العلامة التجارية فنياً
إن دعم العلامة التجارية بحملة إعلامية ذكية موجَّهة إلى أذواق المستهلكين بعد دراسة حاجتهم، يدفع المستهلكين إلى دفع أثمان مرتفعة لمنتجات قد تكون رخيصة التكلفة. وهذا يعني التلاعب بالصورة المتوقعة للمنتَج، وبذلك يرى المستهلك أن المنتج يستحق المبلغ الذي يريد المعلن أن يراه، بدلاً من القيمة المنطقية التي تضم تكلفة المواد الخام الكلية، بالإضافة إلى تكاليف التصنيع، وتكاليف التوزيع. لذا فإن المشتري في زمن العولمة والبحث عن الرفاهية بات يشتري اسم المنتج وشكله وليس المنتج نفسه.
يشكِّل اسم الماركة نوعاً من العلامة التجارية، إذا كان اسم الماركة يحدّد بشكل حصري مالكها كمصدر تجاري للمنتجات أو الخدمات. كما أصبحت الشخصيات الناطقة في الإعلانات جزءاً من بعض العلامات التجارية.
إلى ذلك، أصبح فعل ربط المنتج أو الخدمة مع العلامة التجارية جزءاً من ثقافة البوب. وتمتلك معظم المنتجات نوعاً من الهوية، من ملح المائدة العادي إلى مصمِّم سروال الجينز. فهناك مصطلح يسمى”البراندنومر” وهو عبارة عن اسم العلامة التجارية الذي أصبح مصطلحاً أو اسماً عاماً للمنتج أو الخدمة، مثل”ألتيكو” أو “كلينيكس”، التي باتت أسماء تستخدم غالباً لوصف أي نوع من المواد اللاصقة، أو أي نوع من المناديل الورقية.
وفي كثير من الأحيان، ولا سيما في القطاع الصناعي، يتم الترويج لاسم الشركة فقط، في حمل اسم مجموعة متنوّعة من المنتجات، على سبيل المثال، “مرسيدس بنز” أو “بلاك آندديكر”، أو حتى مجموعة من العلامات التجارية الفرعية، مثل”كادبوري” الألبان والحليب، و”كادبوريفليك” أو “أصابع كادبوري”في الولايات المتحدة. وأحياناً تتنافس الماركات التي تنتجها الشركة نفسها، فعلى سبيل المثال، فإن مسحوقي الغسيل “برسيل”، و “أومو”، تعود ملكيتهما لشركة”يونيليفر”، ومع ذلك فإنهما يتنافسان في إعلاناتهما. وأياً كان الفائز برضا المستهلك، فإنَّ الأرباح النهائية ستصب في الجيب نفسه. الأمر نفسه ينطبق على مسحوقي الغسيل المتنافسين “أرييل” و “يس” اللذين تملكهما شركة “بروكتر أند غمبل”.

الاسم والشكل قبل النوع
تبرز بعض العلامات التجارية في نظر المستهلكين أكثر من غيرها بفعل امتلاكها لقيمة خاصة، ويقال إنها “هوية الماركات”. ويصبح بعض هذه العلامات التجارية “رموزاً ثقافية ” كشركات “أبل”          و “نايكي” و “هارلي ديفيدسون”. ويصبح بعض المستهلكين مهووسين بهذه المنتجات ويقيمون طقوساً خاصة لاقتنائها، كتأسيس جماعات وأندية والتسابق على الحصول على آخر طرز إنتاجها. ويستغل عدد من مصمِّمي الأزياء على سبيل المثال، الأسماء التجارية كامتداد في العطور والأحذية والإكسسوارات والمنسوجات المنزلية، وديكورات المنزل، والأمتعة، والنظارات الشمسية، والأثاث، والفنادق، إلخ.
ومدَّدت “مارس” علامتها التجارية من الشوكولاتة إلى الآيسكريم، و “كاتربيلر” من الآليات الضخمة إلى الأحذية والساعات والنظارات الشمسيَّة، و “أديداس” و “بوما” من المستلزمات الرياضية إلى المنظفات الشخصية. ومدَّدت “دنلوب” علامتها التجارية من الإطارات إلى المنتجات المطاطية الأخرى مثل الأحذية، وكرات الغولف، ومضارب التنس وغيرها من المواد المتنوعة.

أسهمت العولمة وثورة الاتصالات في خلق هذه الثقافة لإعداد جمهور مستعد لاستهلاك السلع الرأسمالية وفي الوقت نفسه نشر أفكار ثقافة المجتمع المُصنِّع لهذه السلع.

ولا يقتصر الاستهلاك على الجوانب المادية فقط، وإنما هناك جوانب معنوية واضحة. فالأفراد يستهلكون بجانب السلع المادية، الصور والرموز والمعاني التي ترتبط بها. ولعل التسمية الرئيسة للثقافة الاستهلاكية هي أنها تستخدم أساليب متعدِّدة لتحريك الرغبات والطموحات والأحلام. ولذلك أسهمت العولمة وثورة الاتصالات في خلق هذه الثقافة لإعداد جمهور مستعد لاستهلاك السلع الرأسمالية، وفي الوقت نفسه نشر أفكار ثقافة المجتمع المُصنِّع لهذه السلع.
تؤكِّد معظم الدراسات والبحوث الإعلامية أن عملية الترويج لثقافة الاستهلاك في عصر العولمة أصـبحت غاية في الدقة والسهولة في الوقت نفسه. فهي تعتمد على وسائل تكنولوجية معقَّدة لفتح المجال أمام التدفق الحر للمعرفة، وتحويل إنتاج المعلومات إلى صناعة تنتج سلعاً، وتدعو إلى الانفتاح الحر وطرح كل ما هو سهل وبسيط وسريع الانتشار. فقد قامت فلسفة التأثير في المستهلك على سيادة مفهوم المنافسة كمحرِّك محوري للعولمة الاستهلاكية. وتتطلب المنافسة في السوق العالمي التكيف مع ثقافة هذا السوق وامتلاك وسائل الإعلام وأساليب الدعاية والتسويق للسلع، وامتلاك القيمة الفكرية والثقافية لفنان مشهور يعرفه الجميع سواء أكانوا متابعين للفنون أو لا يهتمون بها. فأسماء بعض الفنَّانين باتت معلومة للجميع في زمن الترويج العالمي، وهذه الأسماء تسبق في وصولها إلى أُذن المستمع نوعية المنتج نفسه، ولا بدّ لإضافة هذه الأسماء، أو عمل فني من أعمالها، على السلع من أن تسهم في الترويج لها، وفي رفع قيمتها وقدرها في عين المستهلك حتى قبل أن يجرِّبها.

 

 

أضف تعليق

التعليقات