حياتنا اليوم

الحج

مشهدية إيمانية فريدة

shutterstock_350995835{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ}.. (30) الحج..
هذه هي الآيات من سورة الحج التي تدعو المسلمين لإقامة فريضة الحج لمن استطاع إليه سبيلاً. وبذلك أصبحت مدينة مكّة المكرّمة نقطة التقاء المسلمين من جميع أنحاء العالم، يحجون إليها سنوياً لإقامة ركن الإسلام الخامس. وهناك، وهم يقومون بمناسك الحج، يرسم حجاج بيت الله الحرام مشاهد لا مثيل لها، يتجسد فيها الإيمان في أبهى صوره. فتتجمع حشود المؤمنين حول البيت العتيق وتطوف في حركة دائرية واحدة، في مشهد كوني يجسِّد وحدة الرب والكون والإنسانية بما يبدو معه السير في الاتجاه المعاكس خلافاً لحركة الكون.

Haj Pilgrimsيذكرنا المشهد العظيم لملايين المسلمين في نقطة واحدة في وقت واحد وهم يطوفون بالكعبة الشريفة، بأنه لا يوجد دين آخر في العالم له قوة الجذب إلى المكان الواحد مثل الدين الإسلامي. وفي كل مرة يتوجه أي مسلم بصلاته نحو القبلة الشريفة يتم استدعاء هذا المنحى المكاني. وفي تصوير جميل لمشهد الطواف حول الكعبة، أنجز الفنان السعودي أحمد ماطر آل زياد عملاً فنياً هو أقرب إلى المشروع الفيزيائي بعنوان «جاذبية مغناطيسية»، وضع فيه مكعباً مغناطيسياً أسود كبيراً يمثل الكعبة الشريفة وحوله قطع من برادة الحديد ترمز إلى الجسم الموحد للحجاج، حيث لا فرق بين غني وفقير أو شاب وكهل، كلهم منجذبون إلى الكعبة كمركز وحيد للعالم. وقد تم عرض هذا العمل في معرض بعنوان «الحج: رحلة إلى قلب الإسلام» الذي أقيم في المتحف البريطاني عام 2012م، وكان الأول من نوعه في العالم.

مشاعر تهزّ الأفئدة
ليست رحلة الحج مجرد رحلة جغرافية فحسب، وإنما هي رحلة زمنية روحية يسعى فيها كل مؤمن إلى السير على خُطا الرسول – صلّى الله عليه وسلم -، والسعي إلى الرحمة والغفران.

magnيعبّر المسلمون عن قربهم من الله خاصة عندما يقفون على جبل عرفات، حيث نراهم يذرفون الدموع، وهم يقفون تحت الشمس الحارقة وسط الملايين من المؤمنين، عارفين أنه مهما كثرت الحشود من حولهم، فإنهم سيتركون هذه الأرض وحدهم للوقوف بين أيدي الله عز وجل. وهناك وثائق كثيرة لأشخاص سجلوا مشاعرهم في تلك اللحظات التي عاشوها في الحج، ومن أبرزهم الملاكم العالمي محمد علي كلاي، الذي أدّى فريضة الحج في 1989م، ومن ثم كتب يقول: «لقد كان هناك كثير من اللحظات الجميلة في حياتي. لكن المشاعر التي اختبرتها وأنا أقف على جبل عرفات في يوم الحج كانت الأقوى والأكثر فرادة على الإطلاق».

والليدي إيفلين كوبولد، السيدة البريطانية التي تنتمي إلى الطبقة الأرستقراطية والتي اعتنقت الإسلام وأصبحت أول بريطانية تقوم برحلة الحج في 1933م، كتبت رسالة مؤثرة إلى حفيدها عبَّرت فيها عن شعورها وهي تقضي مناسك الحج بقولها: «يبدو أنني لطالما كنت مسلمة».

ونجد المشاعر نفسها حتى في صفوف المشككين من المستشرقين الأجانب. ففي عام 1853م، تنكّر الرحالة ريتشارد فرانسيس بيرتون بزي طبيب أفغاني، وقام بالحج إلى مكّة المكرّمة بنية الاستكشاف ليس إلا. ولكن لم يسعه إلا أن يعبّر عن إحساس غريب تملكه وهو يقف في جوار الكعبة الشريفة حيث قال: «كان الأمر كما لو كانت الأساطير الشعرية العربية تتحدث عن الحقيقة، وكأنما أجنحة الملائكة هي التي كانت تلوح في الأفق، وليس نسيم الصباح العليل هو الذي كان يلوح بكسوة الكعبة».

تغير الزمان وتغيرت الدروب
41إن ارتفاع عدد الحجاج من بضعة آلاف في بداية القرن العشرين، إلى نحو ثلاثة ملايين حاج هذا العام، هو شاهد على قدرة هذا الحدث الرائع على التكيّف مع العصر. فمناسك الحج لم تتغيَّر من السعي بين الصفا والمروة وطواف الإفاضة والإحرام والوقوف بعرفة. ولكن الطرق إليه تغيّرت وتطورت عبر الزمن. فبعد وفاة الرسول – صلّى الله عليه وسلم -، تمّ إنشاء أربعة طرق رئيسة إلى مكّة المكرّمة. ومن أول هذه الطرق وأهمها، درب زبيدة من الكوفة في العراق إلى مكّة المكرّمة الذي أُنشئ في مطلع القرن التاسع الميلادي بطول 1448 كلم، حيث كان الحجاج من العراق وإيران وآسيا الوسطى يتجمعون قبل القيام بالرحلة إلى مكة المكرمة. وقد عُرف بهذا الاسم نسبة إلى زبيدة زوجة الخليفة هارون الرشيد التي قامت هي شخصياً بالحج خمس مرات، وكانت قد أولت اهتماماً خاصاً بهذا الطريق، فأمرت بإنشاء الاستراحات وحفر الآبار وإدخال الإصلاحات ووضع الأعلام وتنظيف الطريق ورصفه وترميم البرك والآبار القديمة حوله. وقد أطلق اسمها، ليس فقط على الطريق نفسه، ولكن أيضاً على نظام الري المعروف باسم ربيع زبيدة في سهل عرفات خارج المدينة.

إن ارتفاع عدد الحجاج من بضعة آلاف في بداية القرن العشرين، إلى نحو ثلاثة ملايين حاج هذا العام، هو شاهد على قدرة هذا الحدث الرائع على التكيّف مع العصر

ومن ثم كانت هناك طرق الحج المصري والشامي واليمني.. ومنذ القرن الحادي عشر كان الحجاج يفدون من جنوب شرق آسيا وغرب إفريقيا وأوروبا الجنوبية، وكان بعضهم يسافر عبر الخطوط البحرية إلى البحر الأحمر على متن المراكب الشراعية والبواخر من سنغافورة ومومباي. وفي عام 1908م بعد تشييد السكة الحديدية بين الأناضول والمدينة المنورة مروراً بسوريا والأردن والعراق بطول 1400 كلم، سافر الملايين من الحجاج براً من إسطنبول والأناضول والشام.

مخاطر السفر قديماً
design 1ولكن السفر عبر هذه الطرقات كان محفوفاً بالمخاطر المختلفة مثل السيول والأمطار وشح المياه بالإضافة إلى المخاطر الجغرافية الطبيعية. حيث أظهر رسم بياني للطريق البحري الطويل جرى رسمه حوالي عام 1835م، وتم نشره باللغات الغوجاراتية والهندية والإنجليزية، كم كانت الرحلة محفوفة بالمخاطر، وكيف كانت السفن تغيِّر اتجاهها بعناية حول النتوءات المرجانية في البحر الأحمر. كما كانت معظم هذه الطرق في حالة أمنية سيئة، فضلاً عن دفع إتاوات لأمراء القبائل ومشايخها للمرور عبر ديارهم.

ويروي عبدالله بن سعيد الزهراني، الباحث المتخصص في تاريخ وآداب الحرم، لمحات تاريخية لأمن الحجيج قديماً وحديثاً، فيقول إن قوافل الحجاج كانت تتحرك على شكل مجموعات يحرسها عدد كبير من الجنود. وكان يصحبها عدد من العسكر والجنود لحمايتها من قطَّاع الطرق خلال المسير إلى الحج. وقد يكون مانسا موسى ملك مالي، أشهر من سافر للحج في القرون الوسطى عندما سافر عبر الصحراء من مدينة تمبكتو إلى القاهرة ثم إلى مكة المكرمة عام 1324م، متحدياً المخاطر بمواكبة 60,000 من أتباعه وحاملاً معه 300 رطل من الذهب، وزعها على طول الطريق.

«لقد كان هناك كثير من اللحظات الجميلة في حياتي. لكن المشاعر التي اختبرتها وأنا أقف على جبل عرفات في يوم الحج كانت الأكثر قوة وفرادة على الإطلاق»
محمد علي كلاي

وفي لوحة شهيرة رُسمت في العراق عام 1237م، ظهر موكب صاخب من الحجاج على الجِمال في العصور الوسطى قادماً من تومبكتو والقوقاز ومتجهاً إلى مكة المكرمة، وهو يتحدى قطَّاع الطرق وحرّ الصحراء تتقدمه فرقة تقرع الطبول وتنفخ الأبواق.

اختلاف الحال بعد توحيد المملكة
بقيت هذه المخاطر تحدّق بالحجاج على مختلف دروبهم، إلى أن تم تأسيس المملكة العربية السعودية على يد الملك عبدالعزيز، يرحمه الله. وفي هذا، يقول الباحث عبدالرحمن التويجري، المهتم بالآثار والتاريخ، إنه في عهد الملك عبدالعزيز، طيب الله ثراه، «وضعت الأسس القوية التي قامت عليها الدولة المعتمدة على كتاب الله وسنة رسوله – صلّى الله عليه وسلم -، فشاع الأمن وتيسَّرت وتطورت حركة المواصلات البرية والبحرية والجوية. واهتم من جاء بعده من الملوك اهتماماً بالغاً بالحرمين الشريفين وحجاج بيت الله الحرام، وأصبح الحجاج يفدون إلى المملكة العربية السعودية من كل حدب وصوب، عبر كافة المنافذ لأداء مناسك الحج والعمرة آمنين مطمئنين».

Hajj Tentsويذكر محمد طارق الإفريقي، مؤلف كتاب «الدولة السعودية في الجزيرة العربية»، أنّ الملك عبدالعزيز كان حاكماً صالحاً في الجزيرة العربية يستند على الشريعة الغرَّاء، تمكّن من نشر العدل والأمن في الجزيرة بعد أن كانت مسرحاً للفوضى والسلب والنهب، حيث يجوب الحجاج طول البلاد وعرضها ليلاً ونهاراً مع أموالهم وأولادهم بكل طمأنينة لا يمسهم سوء، بعد أن كانوا يُقتلون ويُسلبون وهم تحت حراسة الجيوش والجنود. وأنه قد رأى بعينه أثناء تفتيشاته العسكرية، بصفته أول رئيس أركان حرب لجيش الملك عبدالعزيز، قوافل تترك حمولتها في الصحاري دون أية حراسة وتعود إليها بعد أيام عديدة فتجدها كما تركتها.

ليست رحلة الحج مجرد رحلة جغرافية فحسب وإنما هي رحلة زمنية روحية يسعى فيها كل مؤمن للسير على خُطا الرسول – صلى الله عليه وسلم – والسعي للرحمة والغفران

وإضافة إلى تغير الدروب إلى الحج، تغيرت البُنى التحتية المحيطة بالرحلة بشكل كبير، فمن أجل مواكبة ازدياد أعداد الحجاج، توالت المشاريع التطويرية على أيدي الملوك الذين خلفوا الملك عبدالعزيز، بدءاً بالملك سعود، حيث كانت أول توسعة للحرم الشريف في عهده، مروراً بأكبر توسعة للحرمين الشريفين في عهد الملك فهد، وما صاحبها من تطوير شبكات الطرق والأنفاق في المشاعر المقدسة ومكة المكرمة، ثم في عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز حيث شهدت المشاعر المقدسة بعض أكبر مشاريع التطوير، ومن أبرزها جسر الجمرات العملاق وقطار المشاعر والتوسعة الضخمة في الحرم الشريف. وتستمر مشاريع توسعة الحرمين الشريفين الضخمة حتى يومنا هذا بقيادة خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، حفظه الله.

فقد تغيَّر الزمان وتغيَّرت الدروب والبُنى التحتية المحيطة به، ولكن الحج، الركن الخامس للإسلام، فهو يقدِّم مشهدية عالمية فريدة، ترمز إلى قوة الإيمان وفرادة المكان في رحلة تغيّر حياة ملايين المسلمين سنوياً.

أضف تعليق

التعليقات