فنان و مكان

الحجاز في أعمال

طه صبان

يصعب تقدير أعمال الفنان التشكيلي طه صبان (مولود عام 1948م) دون استحضار المكان الذي يتبوأ الصدارة ضمن موضوعات لوحاته: لمحاتٍ من الحياة في الحجاز لا تُخطئ المشاهد. واللمحات الحياتية تلك تدور في فلك المكان وتحقق من خلال الشخصيات المكانية والحركة وجودها، ما يجعل المكانَ المحورَ الذي تدور حوله باقي عناصر العمل الفني.

العلاقة بين الفن التشكيلي والمكان علاقة أزلية تتجاوز كونَ المكانِ موضوعاً للفن إلى كونه ممارسةً أيضاً، حيث لا يمكن للفن بحال من الأحوال أن يوجد دون مكان. ولذا كان لزاماً ألاّ يزوغ المكان عن الاهتمام عند مقاربة أي عمل فني. فالفنان يتعامل مع اللوحة باعتبارها مكاناً يخطط له، ثم يملؤه بالشخوص ويؤثث مساحاته بالألوان والأشكال وفق رؤيته الخاصة. ونتج عن هذا التعالق مستوياتٍ متباينةٍ من المكان، تبعتْها بالضرورة مستوياتٌ من الممارسة الفنية، أدناها حيّزُ اللوحة بين يدي الفنان وأقصاها الفضاء الفكري المجرد.
IMG_7365
يعيد طه صبان إنتاج الحجاز في لوحاته، بَيْد أنّا ونحن نتأمل تلك اللوحات نفطن إلى أن صبان لا يعيد على قماشة الرسم إنتاج المكان كما هو، أو كما كان في الواقع. بل اتخذ في إعادة إنتاج المكان ضُروباً مختلفة تُعين على فهم المغامرة الفنية التي يجترحها في أعماله. إن ألوان اللوحة غير ألوان المكان الذي تحاول تمثيله، على سبيل المثال، إذ ينتقي صبان للوحاته ألواناً تتسم بقدر عالٍ من الحيوية والتناغم والانسجام، وتبعث سكوناً وطمأنينة يدعوان إلى التأمل والتذوق، خصوصاً حينما تحاول بعض اللوحات أن تمثل حارة حجازية بأكملها تتكئ مبانيها على بعضها ويتشارك أشخاصُها البناء. ويطرز هذا التناغمَ الماديَّ الضوء الذي يمدّ اللوحة بدفء روحاني يعكس إحساساً فريداً بالمكان. يزيد من هذا الإحساس رصفُ صبانَ مفرداتِه اللونية والزخرفية بطريقة معينة، ما يجعلها وحدات تزدحم في الغالب في قلب اللوحة النابض بالحركة والمفعم بالحيوية كما هو حال الحارة الحجازية الملفوفة بالتقارب والحميمية.

الحجاز بين زمنين
لكن معالجة الفنان للمكان لا تكتمل كممارسة فنية دون تناول الزمان أو التعليق عليه، وأعمال الصبان ليست استثناءً. فعلى الرغم من التناغم في لوحة ألوانِ صبان، تخلق الكيفية التي تعالج بها لوحاتُه المكانَ توتّرا ما بين زمنين مختلفين. إن الحجاز الذي تصوره تلك اللوحات آفلٌ لسوء الحظ، كله أو جزء منه، ولم يعد يحتل من مساحة اليوم سوى الذاكرة والمخيلة. وهنا تكمن المفارقة، إذ يجاور صبان ما بين الماضي والحاضر.

فنٌ حاضنٌ للذكرى
3508المجاورة كلمة مفتاحية في شخصية الحجاز والحجازي، إلا أنني لا أستطيع أن أجزم أن المجاورة في أعمال صبان آمنة أو مريحة على أقل تقدير. فالتوتر الذي تعمد اللوحات إلى إحداثه في ذهن المتلقي عائد إلى حقيقة أنها تضيء العلاقة بين المكان والذاكرة. هل اندثر حجاز صبان أم لا يزال باقياً في الذاكرة؟ أيا تكن إجابة السؤال، يعمل الفن عند صبان حاضناً للذاكرة، حاضناً لا يكتفي بدور الصون والأرشفة، ولكنه يحرض على تقدير الدور الجمالي والثقافي للفن وينحاز إلى القيمة الجمالية والنقدية.

يعيد طه صبان إنتاج المكان على اللوحة كما أسلفنا، ولكن جانباً من المكان يظهر في لوحاته على شكل خاص، أعني به الهندسة المعمارية الحجازية. فاهتمام الفن بالمعمار عائد بشكل رئيس إلى قصدية المعمار ودوره الوظيفي الذي قد لا يرقى الفن إلى تأديته بالطريقة التي يقوم بها المعمار. ولهذا فإن أعمال صبان تستزيد من تناولها للمكان عبر اتخاذها من المعمار الحجازي موضوعاً لها، تبرز من خلاله السمة الجمالية للمكان الحجازي.

3507الطراز المعماري الحجازي أيضاً لم ينقله صبان كما كان في الواقع، بل انتزع منه البعدَ الثالث وحرّف المنظور. وكان أن أزال هذا التدخل الفني عن المكان كلَّ القيود التي قد يفرضها الواقع المادي. فمثلاً، مجاورة الأشخاص لبنايات الحارة الحجازية نتج عنه أن أُعطي الأشخاصُ قيمة قصوى، حتى إن أشخاصاً في بعض اللوحات بدوا أطول من البناية. إنهم أشخاص مرتبطون بالمكان ويملكون إحساساً إيجابياً بالمكان.

ما من شك أن المعمار الحجازي آخذ في الاضمحلال وربما غدا مآله المحو يوماً ما عطفاً على الكساح الفني الذي يعتري الذائقة الجمعية، فيما يتعلق بالمعمار خصوصاً والفن عموماً. وهكذا فإن ما يُعلي من شأن لوحات الصبان أنها تشده إلى الذاكرة وتبقي حضوره أخضرَ في الذاكرة والمخيلة، كلما طالع لوحاته مطالع. إن استلهام صبان النمطَ أو النموذج المعماري الحجازي بتفاصيله الخلابة وتركيزه على إبراز وظيفته الاجتماعية من خلال تمثيل الرواشين والمشاريب والأبواب والنوافذ الخشبية التي تزين الواجهات، ليعيد النظر إلى دور المكان في تشكيل هوية المنطقة والفرد على السواء.

3511أخال أن المشاهد لأعمال طه صبان معروضةً في أحد المعارض والصالات المنتشرة في مدينة جدة مثلاً، سيشعر بنوع من المسؤولية تجاه المكان الذي شكّل ربما جزءاً مهماً من هويته. تنسحب تلك المسؤولية بطبيعة الحال على المؤسسة. وأشدد أنّي لا أعني بالضرورة تلك المسؤولية التي تستلزم القيام بعمل ما، ولكنها المسؤولية الصادرة عن تقدير للقيمة الجمالية في الفن باعتباره نشاطاً إنسانياً. إن النماذج الحداثية التي استُجلبت لتأثيث المدينة الحجازية لم تراع الإرث الحضاري والثقافي للمنطقة، ولهذا جاءت بليدة وصماء. هذا ما سيشعر به المشاهد للوحات طه صبان. لم تكن الدعوة إلى التشبث بالماضي والركون إليه من سنن الفن يوماً، ولكنه التطلع الدائم إلى النقد والمغايرة وتهذيب التجربة الإنسانية.

أضف تعليق

التعليقات

هشام مخدوم

قمة الروعة و الجمال و الاحساس