رأي ثقافي

التواقيع: اللغة الوامضة

حين أشار ابن خلدون لأهمية التواقيع ذكر براعة جعفر البرمكي الذي نقل عنه قوله: إن قدرتم أن تجعلوا كُتبكم كلها تواقيع فافعلوا. وقد قال في مقدمته: كان جعفر ابن يحيى يوقّع في القصص بين يدي الرشيد، فيتنافس البلغاء في تحصيلها، للوقوف فيها على أساليب البلاغة وفنونها. وقبل ذلك، استشهد النقاد في كثير من الأعمال القرائية على اللغة الشعرية التي قد تكون مختبئة في جملة عارضة، وجواب شارد، ورد مسكت، ووصف عابر.. أي في الحديث الذي يختصر الوزن والقافية والمعنى والخيال، ويشعر المستمع فيه بذات الشعور الذي يتركه الشعر من هزة. قاسوا ذلك على جواب حسان بن ثابت حين طلب من ابنه وصف الطائر الذي لسعه، فقال: كأنه ملتف في بُردي حبرة، يعني الزنبور، فرد حسان منتشيًا: قال ابني الشعرَ وربّ الكعبة! وقد علق مؤسس علم البلاغة عبدالقاهر الجرجاني على هذا الخبر مفرقاً بين الذهن المستعد للشعر وغير المستعد له.

فكرة هذه التواقيع أو الجمل القصيرة والمعاني المكثفة اتسعت بشكل مشروط في لغة تويتر كشاهد حاضر، فأصبح متعاطي هذه النافذة، ينظر للإيجاز على أنه ضرورة، وبالتالي ازداد الحرص وارتفع الجهد في تنميق سطر لافت يضمن لذاذة الإمتاع ومباعث التأمل. ومن بين كثير من المغردين، كان هناك سرب نابه جميل احتفظ بنغمة خاصة في الكتابة، وكأنما يصطحب الكلمات في نزهةٍ بريّة مملوءة بالمواعيد والضحكات.

من شواهد هذه التواقيع التي أزعم فرادتها وتألق أصحابها، ما يمكن مطالعته في قلم يوسف حماد ورشاد حسن وإيڤانوڤنا رومانوڤ على سبيل المثال، حيث يتشكل المعنى في حضورهم على هيئة حديقة وأطفال يتغنون بالمراجيح، وأحياناً على هيئة عبارة مبتهلة على باب حزين لم يطرقه زائر، أو على شكل حارة منسيّة حفظت ملامح الزحام والسعة وضاعت في التمدن.

نعم، اللغة يمكن أن تنمو، ولا ضرر حين نصفها بالكائن الحي، حيث لها قلب يحمل شهيقاً ظاهراً وزفيراً متجدداً، منذ كانت فكرة المناغاة إلى حد تعلم الكلام وانطلاقه، لكن الامتياز في هذا النمو الفاتن (والفاتن شرط) لا يكون دون دهشة والتماع، على شاكلة: «لا أستطيع أن أشتري رصاصاً بعدد أعدائي، فهناك أعداء يولدون عند بائع الذخيرة» أو على ازدهار مكثف: «حينما تقرع الجرس، يتذكّر الباب، فأس الحطّاب» أو على اتساع وإيجاز: «شعور الكره عندي بسيط لا يؤذي. لا يختلف عن شعور الكره الذي يكنه طفل تجاه حارس الملاهي» والشواهد التي تصافح نوافذ الضوء الأجد كثر.

لا أشك أن هناك اشتغالاً مشابهاً في حقل التواقيع الوامضة، من أسماء كثيرة تستحق الإشارة والإشادة، بيد أني لا أريد إلَّا التلويح على هذا الخط الذي بدأ يتسع متوازياً مع النوافذ التواصلية بشكل عام، وتويتر على الأخص الأشهر. وأعلم تماماً أن هذا الحضور لم يقطف السبق، بل جاء مكملاً للرؤية التي ترفع من شأن الإيجاز والإحساس بالكلمات.

ولا أدري حقيقة عن وجاهة هذه القراءة في نتاج نوافذ التواصل، ولكن الإصدارات الحديثة التي تتواتر في معارض الكتب، تظهر حضوراً مختلفاً لأقلام شابة، تأسست على لغةٍ سهلةٍ طيّعة، وأخذت طريقاً مختلفاً للتعبير الذي هو بمنزلة الأيقونة ذات الحواس المنتبهة! الأيقونة ذات اللغة الوامضة التي تراهن على البقاء.. بالجواب الذي يحضر في إهاب الشعر واللغة الأنيقة، وبالتداعي الملتف بأسباب الجمال، وبالكلمات العميقة، ولكل زمنٍ أهلٌ وكلمات..

أضف تعليق

التعليقات