بيئة وعلوم

التلوث الضوئي
كيف نطفىء نجوم سمائنا بأيدينا؟

  • 40-41

قد يستغرب البعض أن هناك تلوثاً ناتجاً عن الضوء. فبالنسبة إلى الكثيرين منّا، كلما ازداد الضوء كلما كانت حياتنا أفضل، خاصة في الليل والأماكن المظلمة.
الزميل أمين نجيب يحدثنا عن هذا التلوث الذي لم ينتبه إليه إلا قلة، والذي من شأنه أن يحدث خللاً في الطبيعة.

تعد إنارة المدن والأبنية والحدائق والشوارع بالكهرباء سبباً لما صار يعرف بالتلوث الضوئي. فإنارة المدن قديمة في التاريخ، إذ كانت روما القديمة تضيء سوقها العامة وساحاتها بالمشاعل. وفي العام 1882م، كانت في نيويورك آلاف الأضواء، ولكنها لم تكن ساطعة: «هذه هي آلاف البقع الضوئية الصغيرة التي لا تؤثر على العتمة، إنها أضواء غاز، غاز النيون، عديم اللون والرائحة. لا شيء يمكنك قراءته غير أفق أسود مرقط بالضوء..»، هكذا وصف أحدهم المدينة آنذاك. أما مصابيح شوارع باريس في القرن التاسع عشر فلم تكن كافية لكشف تحركات «مدام بوفاري» السرية كما جاء في رواية غوستاف فلوبير. لكن الأمور صارت مختلفة تماماً في بداية القرن الحادي والعشرين.

بدأ العلماء قبل نحو ربع قرن بإجراء دراسات جادة حول هذا التلوث. وفي سنة 1989م وجد بيارانتو سانزانو وفابيو فالسيني من جامعة بادوا في إيطاليا وكريستوفر بولدر من جامعة كولورادو أن بعض صور الأقمار الصناعية لمدن ومصانع وحتى سفن الصيد تشبه إلى حد كبير حرائق هائلة تلتهم ظلام الليل. وبذل الثلاثة جهوداً كبيرة لوضع أول طريقة تمكّن من قياس الضوء والظلام. ووضعوا بالفعل أول أطلس من نوعه في هذا المجال. وكشفت أبحاثهم المذهلة أن ضوء مصباح كهربائي واحد في شارع معين يؤثر على الرؤية حتى مسافة 200 كلم عن موقعه. وتوقع سانزانو أنه في حال استمرار زيادة الأضواء بالوتيرة الحالية، فإن مجرة درب التبانة التي ننتمي إليها، لن تكون في مجال النظر في إيطاليا كلها بحلول العام 2025م.

ويشير الأطلس المذكور إلى أن هذا التلوث لا يطال العالم الصناعي فقط، بل العالم بأسره. وقد اقترح الدكتور دايف كروفورد من «الجمعية العالمية للسماء السوداء» أن تكون مصابيح المدن موجهة كلها صوب الأسفل، وليس إلى فوق. وأعطى مثالاً على ذلك تجربة مدينة تاكسون في ولاية أريزونا، والتي تعتبر أول مدينة تُحسن التعامل مع التلوث الضوئي، إذ استبدلت المصابيح التقليدية فيها بأخرى من السودويوم أقل توهجاً وتكلفة، ويذهل زائر هذه المدينة الجميلة من حفاظها على الليل دون حرمان المتنقل في شوارعها من الرؤية الجيدة.

ومع العلم بأن الناظر إلى السماء يفترض أن يرى في وضع طبيعي حوالي 2500 نجم، فإن بعض الأطفال في العديد من المدن العالمية سيولدون ويموتون من دون أن يروا النجوم. وثلثا سكان العالم و 99 في المئة من سكان المدن، و88 في المئة من سكان الولايات المتحدة، لا يرون سماء ليلية حقيقية من أماكن إقامتهم، وهذا ما دفع العالمة ويني بروير إلى الحديث عن «تدمير السماء» والقول: «إن النجوم صارت من ضمن الأنواع السائرة إلى الانقراض».

على صعيد آخر تشير آخر الأبحاث المتعلقة بتأثير الضوء الصناعي في الصحة إلى أن أجسامنا تعمل أفضل خلال ساعات النوم المعتمة. وأكد باحثون من جامعة بانسيلفانيا سنة 1999م أن الأطفال دون السنتين، الذين ينامون على الضوء الآتي من الشوارع، يتعرضون لمرض قصر النظر خلال الطفولة وخلال عمر المراهقة. ويقول الدكتور جورج برانيارد، أستاذ علم الجهاز العصبي والمخ من معهد جيفرسون الطبي: “ليس هناك من شك في أن الضوء هو منظم قوي لفيزيولوجيا الإنسان والتعرض إلى الضوء الباهر يؤثر في الكثير من وظائف الجسم الفيزيولوجية، بتعطيل الساعات الداخلية المنظمة لها، مما يؤدي إلى أمراض بيولوجية ونفسية كثيرة” ويقول الدكتور روبرت هان من “مركز السيطرة على الأمراض” في الولايات المتحدة: “النوم في غرفة معرضة لأضواء الشوارع يؤدي إلى أمراض سرطانية متعلقة بالهرمونات، ومنها سرطان الثدي” فالضوء يؤثر كثيراً في إفراز مادة Melatonin وهي هرمون يتعلق بوظيفة النوم والاستيقاظ وتعديل حرارة الجسم. ومن جانبه يقول عالم الدماغ، البروفسور روسل فوستر من “المعهد الملكي للعلوم” في لندن: “إن الذين يتعرضون للضوء الصناعي يصابون بمرض الحرمان من النوم المزمن.

الطيور، هي الأخرى، ربما تكون أكثر تأثراً بالتلوث الضوئي من الإنسان. فالكثير من الطيور المهاجرة يختزن في ذاكرته أنماطاً أرضية معينة في الليل والنهار تساعدها على الطيران خلال رحلاتها
الطويلة بتحديد أماكن وجهتها. كما أن بعض هذه الطيور يستعمل المجرات لاستكشاف إبحاره.. ولكن هذه الطيور أصبحت اليوم منجذبة إلى أضواء
المدن وناطحات السحاب وغيرها، التي تشوش
عليها ذاكرتها.
وفي سنة 1945م قتل حوالي خمسين ألف طير لحقوا بشعاع ضوئي في قاعدة وارنر روبنز الجوية في جورجيا حيث اصطدموا بالأرض. وقدر مايكل ميزور من “برنامج التحذير من الضوء المميت في الولايات المتحدة أن عدد الطيور التي تسقط ضحية الضوء المخادع يقارب الـ 100 مليون سنوياً. وكما نعلم جميعاً فإن الطيور تبدأ بالغناء عند الفجر، لكن الأضواء الساطعة تخدعها باستمرار. وتشوش ساعات توقيتها الداخلية مما يجعل بعضها يقوم ببناء أعشاشه في الخريف بدلاً من الربيع ويكون لذلك عواقب وخيمة على توالدها.

وهذا التلوث يؤثر في الحياة البحرية. فإناث السلاحف والخنافس تضع فراخها في الضوء الطبيعي على الشاطئ، فتنخدع بالأضواء الصناعية للشوارع والأبنية القريبة فتنتقل إلى الأماكن الخطأ. وهذا النوع من الحيوانات معرض، للانقراض خلال فترة ليست طويلة.

والأضواء الصناعية تؤثر أيضاً في بعض الأشجار فتحتفظ بأوراقها مدة أطول مما يؤثر في نموها الطبيعي ويعرضها لخطر الانقراض. كذلك تتأثر بعض الأزهار التي تتفتح في النهار وتغلق في الليل.

والتعبير نفسه “التلوث الضوئي” صاغه علماء الفلك والعاملون في المراصد الجوية الأرضية. وقد سمي أحياناً “العمى الضوئي”. إنه الضوء الذي يحجب الرؤية. فكثير من المراصد لم يعد قادراً على العمل الجيد بسبب الوهج المتصاعد من الإنارة الصناعية، وأصبح من الضروري نقلها إلى أماكن أخرى.

هذا التلوث الذي يزداد سنة بعد سنة بوتيرة مخيفة يجعل من هواية رصد الفضاء هواية غير ممكنة. ويقول بعض العلماء إنه إذا استمر هذا الاتجاه فسيكون القمر هو الملجأ الوحيد لهم.

لقد أخذ الإنسان الآن بتوسيع النهار على حساب الليل. لكننا عشنا، ومنذ فجر التاريخ، مع الليل، والنجوم أصبحت جزءاً من حياتنا الروحية. ونحن العرب، ربما من أكثر الشعوب التي تغنت بالليل والنجوم قد نكون أكثر المتأثرين بهذا التلوث. إن جزءاً مهماً من ثقافتنا هو الشعر وسكون الليل وتلألؤ النجوم وسطوع القمر في سماء صافية. فهل يذهب ليل الشعراء والعاشقين وملجأ المتأملين وشفيع الملهمين مع ضوء الحضارة الحديثة؟

أضف تعليق

التعليقات