علوم

درجات مئوية قليلة تكفي لإفساده

التلوث الحراري للماء

إضافة إلى الأشكال المعروفة من التلوث البيئي التي تستقطب الأضواء والتحذيرات، ثمة نوع من التلوث يلقى اهتماماً متزايداً، ألا وهو التلوث الحراري الذي، وإن بقي محصوراً في محيط المناطق الصناعية، فإن مفاعيله ملحوظة على الحياة، وخاصة المائية منها. فالعمليات الصناعيه تؤدي عادة إلى انبعاث طاقات حرارية مختلفة كالمياه الحارة أو الهواء الساخن، وعلى الرغم من أن بعض هذه الصناعات لا تلوث الماء إلا أن استخدامها كميَّات كبيرة من الماء في التبريد، ثم تصريف هذه الكميات إلى المحيطات والبحار والأنهار والبحيرات والسدود يؤثر على الحياة المائية والحيوانية والنباتية.

التلوث الحراري هو ارتفاع درجة حرارة الماء لأي سبب غير طبيعي، الأمر الذي يؤثِّر على التوازن البيئي للمسطح المائي. ومن التعريفات الأخرى بأنه إفساد البيئة عند مصبات المياه الحارة في المسطحات المائية.

ومصادر التلوث الحراري كثيرة. ويمكن إجمالها بالقول إنها كل الصناعات التي تتولد عنها طاقة حرارية عالية، يتم تصريفها في الطبيعة عشوائياً. ومن أبرز مصادر التلوث الحراري للماء يمكننا أن نذكر على سبيل المثال محطات توليد الطاقة الكهربائية.

تُبنى هذه المحطات في أحيانٍ كثيرة بالقرب من المصادر المائية، لأنها تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه لتبريد مفاعلاتها. والتبريد يعني نقل الحرارة من الآلات إلى الماء، فترتفع حرارته. وعندما يُصرف هذا الماء إلى المسطحات المائية، فإنه يرفع حرارتها، الأمر الذي يؤدي إلى خلل في الحياة المائية والحيوانية والنباتية.

وإلى محطات التوليد الكهربائية، يمكننا أن نضيف أيضاً صناعة الحديد والصلب إلى مصادر التلوث الحراري للماء. فهذه الصناعة هي من أكثر الصناعات استهلاكاً للطاقة وتحتاج إلى كميات كبيرة من المياه للتبريد. كما أن مياه تبريدها تحتوي كميات من جزيئات الحديد والقشور المختلفة.

ولمعرفة حجم المشكلة نشير إلى أن إنتاج طن واحد من الحديد يحتاج إلى 300 متر مكعب من المياه. أما إنتاج طن واحد من الأسمدة النيتروجينية فيحتاج إلى 6000 متر مكعب من المياه من أجل عمليات التصنيع والتبريد.

إلامَ يؤدي التلوث الحراري؟
كشفت الدراسات التي أجريت على الحياة المائية في المسطحات الملوّثة حرارياً، عن بعض نتائج هذا التلوث، ومنها:

• يؤثر على العمليات الأيضية للأحياء المائية، مما يقلل من نشاطها، وبالتالي إلى موتها المبكر.

CHINA/• تقل كمية الأسماك في الأنهار الملوثة، وخاصة إذا زادت درجة حرارة الماء عند المصب على 50 درجة مئوية.. ومن الأمثلة الدراماتيكية التي يمكننا أن نضربها عما يمكن أن يذهب إليه التلوث الحراري، أن بعض أنهار أمريكا الشمالية وصلت حرارتها إلى أكثر من درجة الغليان أكثر من مرة. وهذا ما يؤدي إلى انعدام الحياة فيها تماماً. ومن الأسماك التي تتأثر جداً بالتلوث الحراري للماء مهما كان طفيفاً، أسماك السلمون.

• تستطيع الأسماك وبعض الحيوانات المائية أن تهرب عند تعرضها للتلوث الحراري المائي ولكن بعض الأصداف واللافقريات والرخويات لا تستطيع أن تهرب بسرعة نظراً لضعف حركتها مما يؤدي إلى موتها. كما أن هروب الأسماك من منطقة معينة يعني إفقارها بما قد يكون مورد رزق وعيش للإنسان الذي يعيش في محيطها.

• إن ارتفاع حرارة الماء يؤدي إلى نقص الأكسجين المذاب في الماء. فمن جهة، تعمل الحرارة العالية على طرد الأكسجين الذائب، ومن جهة أخرى تُضعف قابلية الماء لإذابة الأكسجين فيه. فاللتر الواحد من المياه عند حرارة 5 درجات مئوية يذيب 9 سنتيمترات مكعبة من الأكسجين، أما عند 20 درجة مئوية فاللتر الواحد يذيب 6 سنتيمترات مكعبة من الأكسجين فقط. ولذلك، كلما زادت درجة حرارة الماء قلَّت نسبة الأكسجين في الماء. وينعكس هذا على الثروة السمكية مما يؤدي إلى خسارة كبيرة فيها وإلى موت كثير من الهائمات المائية (البلانكتون) التي تُعد مصدر غذاء رئيس ومهم للأسماك ومصدراً غير مباشر لتوفير الأكسجين أيضاً من جهة أخرى.

• زيادة التفاعلات الكيميائية وتسريعها. الأمر الذي يؤدي إلى زيادة تحلل المواد العضوية الموجودة في الماء. ولذلك، إذا زادت درجة حرارة الماء على 40 درجة مئوية فإنها تصبح عندئذٍ بيئة غير مناسبة للحياة المائية الحيوانية والنباتية.

• تغير طوبوغرافي عام على المدى الطويل عند مصبات المياه الحارة.

• إن البرمائيات مثل الضفادع والسرطانات هي أكثر حساسية من الأسماك تجاه التلوث الحراري الذي قد يؤدي إلى هجرتها أو موتها، الأمر الذي ينعكس سلباً بدوره على الطيور التي تتغذى عليها.

• يؤدي التلوث الحراري إلى تحلل الملوّثات الأيوينية، مثل أيون السيانيد وأيون الأمونيوم. أما الأمونيا فتشكل حالة اتزان بين جزئي الأمونيا من جهة وأيون الأمونيوم وأيون الهيدروكسيد من جهة ثانية. ولا ننسى أن جزيء الأمونيا سامٌّ جداً بالنسبة للحيوانات البحرية. ومن الأمثلة على البحيرات التي توقفت فيها الحياة المائية بحيرة أورتا في إيطاليا منذ أكثر من ستين سنة، وبحيرة إيري في أمريكا الشمالية التي يصب فيها سبعة ملايين متر مكعب من المياه المستعملة في المدن، وثلاثة ملايين من المياه الملوثة حرارياً والناتجة عن الصناعة.

• ومن التأثيرات الطبيعية للتلوث الحراري للماء تغير لزوجته وقدرته على الشد السطحي وعلى تذويب الغازات.

وصولاً إلى الإنسان
وتمتد مفاعيل التلوث الحراري للماء إلى الإنسان. وذلك ليس فقط من خلال خسارته للثروة السمكية، بل أيضاً من خلال ما يتبقى له منها. فمعروف أن الأسماك النافقة تبدأ بإفراز مادة سامة تُعرف باسم «ديوكسين السمك». وبعيد اصطياد السمك بوقت قليل، تكون نسبة هذا الديوكسين ضئيلة جداً، ولكنها تزداد بمرور الوقت، ولذا تفسد الأسماك بعد أيام قليلة من اصطيادها، أو حتى بعد يوم واحد إذا لم يتم تبريدها أو تجميدها لإبطاء فرزها لهذا الديوكسين. أما ارتفاع حرارة الماء بشكل ملحوظ في محيط السمكة، الذي يؤدي إلى موتها ببطء، فإنه يمنح وظائفها العضوية مزيداً من الوقت لإفراز الديوكسين الذي يمكن أن ينتقل إلى الإنسان لاحقاً.

وما الحل؟
la-sp-sn-water-pollution-2016-olympics-20150730من الآن وإلى أن تتبدل تقنيات الصناعة بشكل جذري في مستقبل لا يبدو قريباً، لا مناص من استخدام المياه في تبريد الصناعات الكبيرة. غير أن حل مشكلة التلوث الحراري للماء ليست مستحيلة ولا صعبة، وإن كانت مكلفة مادياً بعض الشيء.

ففي مدينة الجبيل الصناعية، يتم تبريد المياه الحارة الخارجة من المصانع فيما يشبه البحيرة الصناعية وقناة تصريف
تمتد لمسافة طويلة وتسمح للمياه أن تفقد حرارتها الخطرة قبل أن تصب في مياه الخليج العربي. وهذه القناة الصناعية هي من الضخامة بحيث يمكن رؤيتها من الفضاء الخارجي على موقع «غوغل الأرض».

إذن فإن الحل يكمن في تخطيط المنشآت الصناعية التي تستهلك الماء للتبريد، بشكل يضمن تبريد المياه بدورها قبل إعادة ضخها في المسطح المائي الطبيعي، كما هو حال المثل الذي ذكرناه أعلاه. ولا بدَّ من سن القوانين ووضع النظم الإلزامية في هذا الشأن. ولكن في دول عديدة، لا يستقطب التلوث الحراري اهتمام الرأي العام بما يكفي لكي تعمل المنشآت من تلقاء نفسها على درء مشكلته. كما أن القوانين الضابطة لهذه المشكلة لا تزال عند حدودها الدنيا، ليس فقط في الدول الآسيوية والإفريقية النامية، بل حتى في أمريكا، ودول حوض البحر المتوسط.

أضف تعليق

التعليقات