فرشاة و إزميل

التشكيلي السعودي زهير طوله

تناثر الفنون في فضاء المرسم

 

لا تقتصر زيارة محترف الفنان التشكيلي السعودي زهير طوله على مشاهدة أعماله وأعمال بعض أصدقائه من الفنَّانين المعلَّقة على جدران المحترف نفسه، الواقع في الدور الأرضي من منزله. فللفنَّان الذي يحمل على عاتقه أيضاً تدريس الفن التشكيلي مواقف لافتة من أحوال الساحة التشكيلية في المملكة، يعبِّر عنها بالوضوح نفسه الذي يفسِّر به انغماسه في الشأن الإنساني العام والتاريخ والآثار كمصادر للإلهام.

أول ما يتبادر إلى ذهن الزائر لمرسم زهير طوله هو أنه أمام فنان غزير الإنتاج، لا يكف عن البحث في موضوعات تمس جوانب معرفية وإنسانية للتعبير عنها في أعمال تعكس رؤاه وما يدور في خلده حيالها.

يضحك زهير طوله عندما نسأله عن مجسم ينتصب في إحدى زوايا مرسمه، ويمثّل شخصاً بالطول الحقيقي، غير أنه ملفوف بشريط يكبله من أسفل ساقيه حتى أعلى رأسه، بينما يتخذ جسده وضعاً مائلاً، فيقول: “هذا أوسكاري، يرافقني في مختلف مشاريعي، ربما يراقبني، أو أستشف شيئاً غامضاً من وجوده أمامي، لا أدري. انكساره يعني لي كثيراً. إنه صديق وجداني فرض وجوده عليَّ، وهو الآن يحمل حقيبة الباحث المتجوِّل ويحمي رأسه بقبعة لتقيه وهج الشمس”.
مصادر من الحياة اليومية
الفنان زهير طولة فنان تعبيري تسكنه روح طفل مشاكس، فيصل بالتعبير إلى أقصى مداه، ويستمد إلهامه من وحي الضوء الساطع.

بدأت ميوله الفنية منذ سن مبكرة، وصقلها بعدة دورات في التصوير الزيتي على يد الأستاذ يوسف التهامي بالمركز السعودي للفنون التشكيلية بجدة من العام 1988 إلى 1990.

وما يلفت النظر في أعماله تلك المعالجة الجريئة للخطوط الحادة والخطوط الانسيابية والمنحنية، بحيث تساعد عين المشاهد على التركيز، كما تعطيه علامات ونقاط استدلال من خلال رموز وشخوص محاطة بأطواق.

معظم أفكار أعماله الفنية مستوحاة من مشاهد الحياة اليومية التي تتناول حالات مختلفة من الانفعالات، عبر ملامح الوجوه ومشاعر الحزن والألم والفرح وغير ذلك من العواطف البشرية. كما يمكن القول إن طوله ينتمي إلى أولئك الفنَّانين الذين نهلوا من فنون الأطفال والبدائيين والناس الذين يرسمون من القلب إلى اليد مباشرة، من دون التقيد بالتعاليم والقوانين الأكاديمية الباردة.
الحضور الأكبر هو للإنسان والضوء
خلال الثلاثين عاماً الماضية ساقته أفكاره وأبحاثه إلى إنجاز المئات من الأعمال التي تقول الكثير حيال قضايا ومنعطفات إنسانية خاصة وعامة. مثل استشهاد الطفل الفلسطيني محمد الدرة، أو كارثة التسونامي التي حلّت بشرق آسيا، أو هجرة الشعب السوري في الآفاق…

يفسِّر ابن المدينة المنورة انغماسه بالشأن الإنساني العام بقوله: “إنِّ الإنسان هو المخلوق الأهم على هذا الكوكب، وهو يحمل بين جنباته صفات الخير والشر والحب والعداء وكافة النوازع المتناقضة في آنٍ واحد. والفنَّان بطبيعته يميل نحو العطاء والخير والجَمَال، لذا ينبغي له أن يقود توجّهاته نحو الفعل الإيجابي كي لا تسـود الفوضى، وأن يكون مفتاحه السحري لذلك هو التعامل بالحب والتوافق والتكامل بينه وبين كافة المخلوقات”.

“بعض الفنَّانين من الجيل الجديد مُغرَّر بهم بمفاهيم وهمية لمسايرة الموضة، أو لمجاراة ما يتم ترويجه لصالح فنون التجهيز”.

وفي هذا الشأن، يرى طوله أن ثمة محرّضاً داخلياً يجعله يتلبس أمراً ما ويبقى في حالة إلحاح عليه، ولا يمكنه التفلّت منه إلا إذا أمسك بالفرشاة وراح يرسم الخطوط الرئيسة لعمله الفني المقبل الذي قد تستغرق ولادته وقتاً وتفكيراً طويلاً، إلا في حالة الأفكار المختمرة والمفكّر فيها ملياً، فإنها تسيل على قماش اللوحة منذ أن تلامسها الريشة، وكأنها تنساب إنسياباً كشلال ينهمر بفعل الجاذبية.

تحاول أعماله استشراف المستقبل، وتحاكم اللحظة أمام جيل يسابق الزمن ليضع الفن التشكيلي السعودي في مصاف الفنون العالمية المعاصرة. ولا غرابة في أن يحصل الفنان على جائزة السعفة الذهبية الأوروبية في العام 1997م، وكان حينها لا يزال في بدايات مشواره.

كتب عن تجربته كثير من النقّاد، لعل أبرزهم الناقد الفني الفرنسي أونوتسو. جي يو، حين قال: “زهير طوله دائماً حاذق، بارع. يستمد إلهامه من وحي الضوء الساطع الذي يتميَّز به البلد الذي شهد مولده”.

وزهير طوله مُعلِّم لأجيال من الفنَّانين المستقبليين. فهو مدرّس لمواد الفنون في مدارس “الأنجال”. وقد عمل لما يزيد على ربع قرن في تعليم الأطفال والشباب. ولهذا، فهو يضع نصب عينيه مسؤوليته الرسمية التي يحملها على عاتقه، لكونه مُعلِّماً نظامياً تخرّج على يديه مئات الطلاب الذين برعوا في مجالات مختلفة كان للدور الجمالي السهم الأكبر في تثقيفهم وترقيتهم وتحفيز هممهم للخروج بأعمال فنيَّة فريدة وخاصة، تعطي لكل منهم أسلوبه المعبّر عن فنيَّته.
“لا أثق بفنون ما بعد الحداثة”
وحول ما يشغله كفنَّان وكمدرّس للفنون، يقول طوله: “يشغلني ما يحدث في الساحة الفنية السعودية، وهو ما يمكن أن أطلق عليه “صناعة الفنَّان”. فهل الفنَّان يصنع؟ هذا السؤال يحيّرني. إن الفنَّانين الجدد يضعون الهدف المادي كأولوية لهم، وكأن من يعملون على صناعة الفنَّان يريدونه أن يكون فنَّاناً دون تعليم أو تثقيف لبناء الحس الجمالي عنده. من هذا المنطلق لا أتفق مع مقولة أن أي إنسان هو فنَّان بطبيعته، قد يكون فنَّاناً للحظة، لكنه لن يكون فنَّاناً بشكل دائم يعطي ويجدِّد ويتفاعل ويضيف. أجد أن كثيراً من الأعمال التي تُنسب إلى مدارس الفنون المعاصرة أو التي يصفها البعض بـ “ما بعد حداثية”، هي في الحقيقة عبثية وسريعة الزوال. ما الذي ستضيفه أعمال التركيب في الفراغ والفديوهات والأعمال المفاهيمية التي تقترب من الرعونة أكثر من اقترابها من الفن الأصيل؟ هل ستضيف للأجيال المقبلة فكراً وفناً ومعرفة ورقياً؟ أشك في ذلك كثيراً.

ويرى طوله أن بعض الفنَّانين من الجيل الجديد مُغرّر بهم بمفاهيم وهمية لمسايرة الموضة، أو لمجاراة ما يتم ترويجه لصالح فنون التجهيز، وذلك كله عبر الادعاء بالانتماء إلى طبقة النخبة المثقَّفة التي تفهم ما لا يفهمه العامة.
مشروع “مخلدات الأرض”
منذ سنوات، كرّس طوله جهوده للفن البيئي المتعلِّق بتاريخ الآثار وحضارات الشعوب البائدة. فبدأ بمشروع “مخلدات الأرض” الذي يرصد كافة مظاهر الحضارات القديمة. وعلى هذا الأساس، انطلق الفنَّان في رحلات طويلة ومكثَّفة عبر الصحاري إلى مواضع الحياة القديمة التي قامت على أرض الجزيرة العربية، باحثاً عن أطلالها وبقايا بيوتها. ومتأملاً في كتاباتها ونقوشها التي هي ذاكرتها المحفورة على الصخور، وفي الحجارة التي ما زالت تحتفظ ببقايا تلك الآثار.

ويقول الفنَّان الذي يعمل على استنطاق ما تكتنزه الحجارة من معارف تاريخية: “نلاحظ في عمارات الحضارات، حيث كان الاستقرار عنصراً مهماً، كما هو حال الحضارة المصرية القديمة، استخدام الأحجار الجرانيتية بشكل مختلف عما عرفناه عن الحضارتين الرومانية والإغريقية بتفاصيلهما الكثيرة، والخامات التي تتناسب مع البيئة المناخية الرطبة. وكذلك الحال بالنسبة للحضارات التي قامت على الجزيرة العربية”.

ويضيف حول انهماكه في دراسة اللقى الأثرية التي تعود إلى ما قبل الإسلام، عندما اقتصر التعبير الفني إلى حدٍّ كبير على فن الخط. “هناك حجارة تقابلك في تجوالك بالصحراء وتبدو عديمة الأهمية. أحاول تتبع نوعيتها ومعرفة الصخر الذي انفصلت عنه. إنها تحمل قصة أحاول تقصيها أو تخيّلها. فقد وجدت على سبيل المثال حجراً مستطيلاً ذا شكل هندسي يؤكد أن يد الإنسان تدخَّلت فيه وشكلته بهذا الشكل. ترى لماذا؟ ولأي غرض نحت بهذا الشكل؟ الأسئلة تحث على مزيد من البحث، وهذا يؤدي إلى مزيد من الاكتشاف والمعرفة. ثم يأتي دوري كفنَّان في إعادة بناء التكوين الكلي لبيئة هذا الحجر أو ذاك”.

استعادة روح الأطلال
ويتابع طوله حديثه عن تلك التجربة بالذات، فيقول: “استمرت رحلتي ما يزيد على الثلاثة أشهر. تجوَّلت خلالها في المناطق الشرقية والشمالية المتاخمة لمنطقة حائل ومدائن صالح وحتى تخوم البتراء، وزرت ضريح هابيل وقصر النبي سليمان -عليه السلام-. كنت أجد متعة لا تضاهى في قضاء الساعات الطوال تحت الشمس الحارقة، متنقلاً بين الكثبان الرملية وأطلال القرى الجبلية القديمة. أقِّب الحجارة وأستمع إلى موسيقى رياح الصحراء، وما وجدته كان يدفعني للمضي قدماً في البحث عن المزيد”.

ويضيف: “أنجزت حتى الآن سبعين عملاً، وجميعها محاولات دراسية لاستعادة التكوين البيئي القديم بعناصره المدنية، مثل: البيوت وأماكن العبادة والآبار ومناخات الإبل ومحالبها، أنقلها إلى الصورة التي كانت عليها وكأنني التقطتها منذ ذلك العصر.. أتخيَّل نفسي بأني أستعيد روحها، لذلك طغى اللون البني والترابي على مجمل هذه الأعمال، لون الأرض والصخور في تلك البقاع”.
شام ومأساة شعب
كرّس زهير طوله معرضه “شام” الذي أطلقه في الصيف الماضي، لمأساة الشعب السوري. وعرض فيه 40 لوحة بقياسات متفاوتة، مشغولة بأسلوبه الجامع بين التعبيرية والرمزية. وقد سيطر على الرسومات اللون الأصفر الشاحب، والأسود والبني، وتبدو مجاميع الأطفال والبشر في حالات مأساوية، مستعيناً بتوظيف “كولاجات” فوتوغرافية لنساء ثكلى يندبن مصيرهن وحياة أطفالهن.

“ملامح الشخوص والتكوين الكلي للأعمال التي ظهرت في اللوحات محاولات تعبِّر عن الانفعال والحزن والألم الذي تعرَّض له الشعب السوري. والأعمال التي عرضت في المعرض كانت منتقاة من بين 300 عمل، وهي ليست سوى إشارة عابرة للمأساة الحقيقية: معاناة الأطفال. ألم النساء. عجز الرجال”.

زهير هاشم طوله… سيرة قصيرة
فنَّان تشكيلي سعودي من المدينة المنورة، من مواليد 1968م. عرف من خلال أعماله المتميّزة في الفن التعبيري الرمزي. وهو عضو بيت الفوتوغرافيين بالجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، كما أنه عضو في جمعية الفنون الأوروبية ببلجيكا، وعضو في جمعية “آي سي أس” للتصوير في سكرانتون بالولايات المتَّحدة الأمريكية.

شارك في عديد من المعارض داخل السعودية وخارجها، ومن أبرزها: “المعرض الجماعي الثاني للفن المعاصر في المركز السعودي” عام 1989م، و”مهرجان التصوير الفوتوغرافي الأول في المركز السعودي” بمدينة جدة عام 1996م”.

حصل على السعفة الذهبية الأوروبية للفنون في بلجيكا عام 1997،

ولا ينقطع زهير طوله عن التواصل مع المعجبين بأعماله الفنيَّة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والسنابشات على وجه التحديد. وقد زاد عدد متابعيه على 27 ألفاً من الفنانين الشباب والمهتمين الحريصين. يتواصل معهم يومياً ويستشف من تعليقاتهم كثيراً من النقد المفيد للتجربة، فالناظر هو ناقد بطبيعة الحال، يعرف الغث من الثمين ريثما يراه.

 

تصوير: أوهانس سيسفيليان

أضف تعليق

التعليقات