طاقة

الإنترنت.. عدواً للبيئة!

كم تكلِّف كل نبضة كهربائية يحمّلها هاتفك الذكي؟

iphonesيتغنَّى الكثيرون بالأثر الإيجابي الذي تركته الإنترنت على صعيد البيئة. والمثل الأبسط الذي يطالعنا أكثر من غيره هو كم من الورق (وبالتالي من الأشجار) وفَّر علينا البريد الإلكتروني استهلاكه، وكم من الطاقة وفرت علينا الإنترنت من خلال إعفائنا من أعباء النقل والانتقال. ولكن هل الإنترنت هي فعلاً مجانيةٌ تماماً كما يبدو ظاهرياً بالنسبة لمستخدمها؟
الواقع قد يفاجئ الكثير، حتى إنه لا غرابة في أن تطل علينا قريباً حملات ترشيد استهلاك الإنترنت ضمن حملات ترشيد استهلاك الطاقة.

في أي لحظة من النهار أو الليل، هناك مئات الآلاف من أكثر الحواسيب تقدماً في العالم موصولة بالإنترنت بواسطة أسرع خطوط الاتصال التي تم ابتكارها. هي موصولة بالكهرباء، وبمقسمات الشبكة، وبشبكات أصغر فيما بينها، وتشرف عليها مجموعات من أبرع المختصين والمهندسين والمبرمجين، وهي – فوق ذلك – تستهلك كميات مهولة من الطاقة. لكن الغريب في الموضوع هو أن كل هذه الحواسيب تمارس الشيء نفسه: لا شيء.. لا شيء على الإطلاق!
لماذا، وكيف؟ الإجابة تبدأ عند مشكلة ضخمة واجهها جيف روثشيلد، كبير مهندسي الحواسيب في شركة «فيسبوك» عام 2006م.
ففي أحد الأيام، واجه جيف مشكلة يعرف كيف يحلها. فقد كانت خوادم شركة فيسبوك التي تقع تحت مسؤوليته، ترزح تحت ضغط هائل بسبب الكمية الهائلة للمعالجة التي تقوم بها والكميات المهولة من البيانات المتدفقة منها وإليها نتيجة لكثرة الزوار للموقع في تلك اللحظة (الخادم هو حاسب آلي ذو مواصفات عالية في العادة متخصص بتقديم بيانات موقع الإنترنت للمستخدمين الذين يريدون تصفُّحه). كانت هذه الخوادم تتكدس في غرفة مستأجرة لا تزيد أبعادها على 12×18 متراً. وهذا الضغط عليها جعل أجزاءها المختلفة تسخن إلى درجات خطيرة تهدِّد سلامتها وبالتالي تهدِّد بتعطل الموقع وعدم قدرة متصفحي الإنترنت الوصول إليه.
خرج جيف وفريقه من المبنى، واشتروا كل مروحةٍ وجدوها في كل محلات الأدوات الكهربائية المجاورة. وحدها تيارات الهواء الباردة التي بثتها تلك المراوح استطاعت أن تبقي خوادم فيسبوك على درجة حرارة آمنة، وبالتالي أبقت الموقع يعمل بانتظام.
حصل هذا في عام 2006 حين لم يكن عند فيسبوك غير عشرة ملايين مستخدم، وكانت جميع خوادمه في مركز رئيس واحد. أما في هذه الأيام فيتردد على الموقع ما يقارب المليار مستخدم، ويحتاجون إلى عديد من مراكز الخدمة الأكبر بكثير من ذلك المركز القديم. وكلٌ من هذه المراكز (التي تدعى مراكز البيانات) يستضيف عشرات آلاف الخوادم المصفوفة في مساحات تصل إلى مئات آلاف الأمتار المربعة.

ماذا يكلف نقل 100 ميغابايت؟
taqa1عندما تفتح متصفح الإنترنت في هاتفك الذكي وتتوجه إلى موقعك الإخباري المفضل على سبيل المثال، فإن ما يحدث في الواقع هو أن هاتفك سيرسل نبضة إلكترونية تحوي بيانات معيَّنة تطلب صفحة الموقع الذي ترغب فيه. هذه النبضة تنتقل من هاتفك، إلى أحد أجهزة شركة الاتصالات التي تشترك معها، والتي تنقلها بدورها تسلسلياً إلى عدد من الحواسيب وصولاً إلى الخادم الذي تقطن فيه بيانات الموقع الإلكتروني الذي ترغب بتصفحه.
قد لا تعرف أن زيارتك هذه إلى موقعك المفضَّل استهلكت كمية لا بأس بها من الطاقة. فقد قامت إحدى الباحثات بتقدير كمية الطاقة التي يستهكها الخادم عندما يقوم بإرسال بيانات إلى هاتفك. الرقم التقريبي الذي وصلت إليه هو أن الخادم يستهلك ما يعادل 5.9 واط ساعي (التي هي وحدةٌ لقياس الطاقة) لإرسال ميغابايت واحد من البيانات. مما يعني أنك إذا أردت تحميل ملف حجمه 100 ميغابايت (الذي هو حجم ألبوم موسيقى مثلاً) فإنك تستهلك 590 واط ساعي. وعلى سبيل المقارنة، فإن غلاية الماء تستخدم 50 واط ساعي لتغلي كوباً واحداً من الماء. ما يعني أن تحميل ملف حجمه 100 ميغابايت يستهلك طاقة تعادل ما يلزم لغلي 12 كوباً من الماء. قد تُفاجأ أن هذه الكمية كبيرة، لكنها لا تزال أقل بكثير من الطاقة التي كان سيستهلكها شحن ألبوم الموسيقى إليك في قرص مدمج عبر البريد.
مراكز بيانات فيسبوك، هي بدورها، مجرد قطرة في البحر الشاسع الذي هو مراكز البيانات التي تستخدمها شركات الإنترنت والتقنية المختلفة. فكل بحث تقوم به في جوجل، وكل مرة تتصفح تويتر، وكل مرة تستخدم الخدمات الإلكترونية للبنك الذي تتعامل معه، فإنك تتواصل مع مراكز البيانات هذه كما يفعل مئات الملايين من البشر الآخرين في اللحظة نفسها. فلك أن تتخيل الحجم الرهيب للبيانات التي تنهمر من وإلى مراكزها في كلِّ ساعات اليوم. ولك أن تتخيل تباعاً كمية الطاقة التي تستهلكها هذه المراكز لتشغيل الخوادم وتبريدها.

شركة فيسبوك ترزح تحت ضغط هائل بسبب الكمية الهائلة للمعالجة التي تقوم بها والكميات المهولة من البيانات المتدفقة منها وإليها

1.3 في المئة من الطاقة الكهربائية العالمية!
كمية الطاقة المهدرة هذه كانت الموضوع الذي تناوله أحد تقارير صحيفة النيويورك تايمز. وجاء هذا التقرير بعد تقصٍّ أجرته الصحيفة لمدة سنة كاملة قامت خلالها بدراسة كميات الطاقة التي تستهلكها مراكز البيانات ومحاولة معرفة درجة كفاءتها في استخدام هذه الطاقة. اتهمت الصحيفة في هذا المقال شركات الإنترنت بأن حقيقة الكميات المهدورة للطاقة في مراكز بياناتها هذه لا تتماشى مع الصورة الذهنية لاستخدام الطاقة بالكفاءة التي تدعيها شركات الإنترنت.
قالت الصحيفة في تقريرها إن مراكز البيانات هذه تعمل على مدار الساعة بطاقتها القصوى، بغض النظر عن مدى الاستغلال الفعلي لهذه الأجهزة والطلب الفعلي لخدماتها. حتى إن الصحيفة تقول إن مراكز البيانات هذه تهدر ما يصل إلى %90 من كميات الكهرباء المهولة التي تستخدمها.
وهذا الاتهام خطير، لأن مراكز البيانات في العالم تستهلك ما يقارب من 1.3 في المئة من الطاقة الكهربائية في العالم كل سنة. وهذه النسبة هي في ازدياد مع استمرار توجه العالم إلى استخدام الأجهزة الذكية أكثر وأكثر وزيادة الاعتماد عليها في الحياة اليومية. فعلى سبيل المثال، بين عامي 2000 و2005م تضاعفت كمية الطاقة التي تستهلكها مراكز البيانات في العالم. وبين عامي 2005 و2010م، زادت من جديد بنسبة 56 في المئة. أضف إلى هذا كثرة كلام شركات التقنية والإنترنت تحديداً عن اهتمامهم بالبيئة والطاقة الخضراء ومحاولة استخدام الطاقة بكفاءة لتقليص الأثر السلبي الناتج على البيئة.

taqa2لماذا هذا الهدر؟
لنعد إلى مثال شركة فيسبوك. كانت كل خوادم فيسبوك تسكن في مركز بيانات لا تزيد مساحته على 220 متراً مربعاً في 2006م، لكن مع زيادة عدد مستخدميها إلى 1000 مليون مستخدم حالياً، احتاجت إلى توسع رهيب في بنيتها التحتية لدعم هؤلاء المستخدمين. فلدى فيس بوك حالياً ما يقدَّر بـ 180 ألف خادم يتوزع أغلبهم في مركزين للبيانات بنتهما الشركة لهذا الغرض مساحة كل منهما هي 28 ألف متر مربع. بالإضافة إلى استئجارها لخوادم في مراكز بيانات أخرى منتشرة حول العالم.
ويُقدَّر عدد خوادم شركات أخرى مثل شركة غوغل بـ 900 ألف خادم. أما مايكروسوفت فيبلغ عدد خوادمها أكثر من مليون خادم. ومثل فيسبوك وغيرها، تحتاج هذه الشركات إلى عدد خوادم كبير كي لا تتعطل أي من خدماتها في فترات الازدحام الشديد وزيادة عدد المستخدمين بشكل مفاجئ. وهذا هو ما يجعل هذه الشركات تُشَغِّل هامشاً احتياطياً من الخوادم كي لا تتوقف الخدمة عند الزيادة المفاجئة للطلب. هذه الهوامش الاحتياطية هي التي تدَّعي صحيفة النيويورك تايمز أنها تهدر الطاقة بشكل ضخم وبنسبة قدَّرتها بـ 90 في المئة أحياناً.
بلا شك كانت هناك ردود أفعال متفاوتة على التقرير. ولكن بعض العاملين في شركات الإنترنت انتقد التقرير وبعض المغالطات التي وردت فيه. فقد أوضحت شركات فيسبوك وغوغل وغيرها أنها تسخّر تقنيات متقدمة جداً لتخفيض استخدام الطاقة سواءً داخل الخوادم، أو في مكيفات تبريد مراكز الطاقة، أو غير ذلك. كما احتج البعض على إدانة الصحيفة لتشغيل أعداد احتياطية من الخوادم، وضربوا مثالاً بتعبيد الطرق. فأنت مثلاً ترى أحد الطرق الرئيسة لها أربعة مسارات، لكنها فارغة وقت الفجر. هل يُعد هذا هدراً للمساحة؟ وقياساً على ذلك، يصبح من غير العدل أن تحاسب مراكز البيانات بصرامة على هدر الطاقة، خارج أوقات الذروة لأنها تحتاج كل هذه البنية التحتية لإبقاء الخدمة تعمل بشكل سليم أثناء وقت الذروة.
واحتج آخرون على أن نسبة الـ 90 في المئة لهدر الطاقة الواردة في التقرير هي نسبة مبالغ فيها، ولا تستند على أدلة واقعية. فمثلاً يقدر باحثون أن أمازون لديها نسبة إشغال لمراكز بياناتها تتراوح بين 7 و25 في المئة. أما فيسبوك وغوغل ومايكروسوفت فلا توجد معلومات متاحة للعامة تبيِّن هذه النسب لديها.
وأشار نُقَّاد التقرير إلى الحركة التقنية المسماة بـ «البيئات الافتراضية» (Virtualization)، التي تُعد أحد الحلول الجيدة لمشكلات عدم إشغال الخوادم، وتم تبنيها بشكل واسع في مختلف مراكز البيانات وشركات الإنترنت.
كذلك لا يمكن تناول هذا الموضوع دون الإشارة إلى «مشروع الحوسبة المفتوح» (Open Compute Project) الذي أطلقته فيسبوك نفسها في أبريل 2011م. على غرار مشاريع المصادر المفتوحة، فقد قررت فيسبوك نشر الدروس التي تعلمتها من عملية إعادة تصميم أحد مراكز البيانات الرئيسة لها ومشاركتها العالم. هدف هذا المشروع هو التعاون بين مختلف الشركات للوصول إلى تصاميم مراكز البيانات صديقة للبيئة وأقل تكلفة وأكثر كفاءة في استخدام الطاقة.

إذا أردت تحميل ملف حجمه 100 ميغابايت فإنك تستهلك 590 واط ساعي. وعلى سبيل المقارنة، فإن غلاَّية الماء تستخدم 50 واط ساعي لتغلي كوبـاً واحـداً من الماء

الاستهلاك والتوفير بأرقام مدهشة
وجد هذا المشروع تفاعلاً جيداً في أوساط الشركات التقنية وانضمَّ بعض الشركات الكبرى مثل مايكروسوفت وإنتل وغيرها إلى تحالف يدعم هذا المشروع. ومع استمرار العمل على المشروع بدأت النتائج بالظهور سريعاً. ففي يناير 2014م أعلنت فيسبوك أن مشروع المعالجة المفتوح وفَّر على الشركة ما يقارب 1.2 مليار دولار. وبالإضافة إلى ذلك، قام بتوفير كمية من الطاقة تساوي ما يستخدمه 40 ألف منزل، كما وفَّر كمية من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون تساوي ما تنتجه 50 ألف سيارة.
هذه النتائج هي دلالات قوية على فاعلية المشروع والفوائد الضخمة التي قد تجنيها الشركات بتبنيها له ودعمه والمشاركة فيه. لأنه لا يقتصر فقط على طريقة تصميم مراكز البيانات، بل يتضمن تصاميم للخوادم، وتصاميم لمقسمات الكهرباء داخل مراكز البيانات وتوصيل الخوادم بها، بالاضافة إلى ابتكارات عدة في الشبكات وطرق توصيل الخوادم ببعضها.
electric pulseفمثلاً، توصل المشروع إلى أن التحويل بين الدرجات المختلفة للجهد الكهربائي يستهلك ما بين 11 إلى 17 في المئة من الطاقة التي يستهلكها أي مركز بيانات تقليدي. ومن هنا تم تصميم خطة الكهرباء بشكل مبتكر أدى إلى خفض استخدام الطاقة في مركز بيانات فيسبوك بنسبة 2 في المئة. وبشكل عام يستخدم مركز البيانات المصمَّم حسب مشروع الحوسبة المفتوح كمية طاقة أقل بـ 52 في المئة من مراكز البيانات التقليدية.
إلى الآن وعطفاً على ما سبق، يبدو السؤال الكبير حول علاقة الإنترنت بالبيئة مفتوحاً. إن كل ما تم حتى الآن في سبيل تقليص استهلاك حضارة الإنترنت للطاقة جيد بلا شك، لكن توسعنا ونهمنا لمزيد من الاتصال بالشبكة يعني أن حرقنا لمزيد من الطاقة سيستمر لا محالة، وهذه مسألة تحتاج للتدبر نظراً للفقر الشديد الذي تعانيه مجتمعات كثيرة للحصول على حاجاتها الأساسية من الموارد الأولية.. فضلاً عن الإنترنت عالي السرعة. ما يقودنا لسؤال فلسفي آخر مفاده: وما ذنبنا نحن؟!
للاستزادة عن مشروع البيانات المفتوح يمكن زيارة موقع المشروع: http://www.opencompute.org

أضف تعليق

التعليقات