تقرير القافلة

الإعانات الحكومية للطاقة وجدواها

تُعدّ الإعانات الحكومية على أسعار المواد الأساسية، وخاصة تلك التي تشمل منتجات الطاقة والمواد الغذائية، جزءاً من أدوات الحماية الاجتماعية التي تقر كوسيلة لتقاسم الثروة ورافداً من روافد الرعاية الاجتماعية. كان الهدف من تشريعها، بالإضافة إلى محاربة الفقر من خلال تخفيض الأسعار على المنتجات ذات النطاق الاستهلاكي الواسع، حماية المستهلك من الصدمات الناجمة عن التقلبات الكبيرة في أسعار السلع الأساسية، بالإضافة إلى تشجيع الاستثمار في بعض القطاعات الصناعية، وكذلك دعم فرص العمل في القطاع الخاص.
وعلى الرغم من ذلك، فقد خرجت دراسات وأبحاث عديدة، أثبتت عدم جدوى هذه الإعانات على المدى البعيد، وتداعي نتائجها في تحقيق تلك الأهداف التي شرّعت أساساً من أجلها.

تداعيات الإعانات على
اقتصاديات الدول

  1. أظهرت الدراسات أن الإعانات لا تستهدف شرائح المجتمع المعنيّة بالدعم والحماية. حيث إن المستفيد الأقل من حجم الإعانات هي الشريحة الفقيرة من المجتمع ذات المستويات المتدنيّة من الاستهلاك للسلع المدعومة. وعلى سبيل المثال، فقد قدَّرت الدراسة التي أعدَّها صندوق النقد الدولي عام 2014م أن 3 بالمئة فقط من حجم الدعم المرصود للبنزين في مصر يعود إلى أفقر 40 بالمئة من السكان. وبناءً على تقديرات وكالة الطاقة العالمية، فإن أفقر 40 بالمئة من الأسر في إندونيسيا يصلها 15 بالمئة من حجم الدعم. ولأن من يستهلك أكبر قدر من الطاقة يحصل على استفادة أكبر من هذا الدعم الحكومي، أصبحت القطاعات الأكثر ثراءً واستهلاكاً المستفيد الأول من هذه الإعانات في المجتمع، وهذا ما يسبِّب التوزيع غير العادل للموارد الحكومية المحدودة.
  2. من يستهلك أكبر قدر من الطاقة يحصل على استفادة أكبر من الدعم الحكومي
  3. عملت بعض الدول الغنية بالثروات النفطية على دفع عَجَلَة الاقتصاد اعتماداً على الإمدادات الوفيرة من الثروة الهيدروكربونية. وفي حين أن هذا النمو الاقتصادي قد جلب الرخاء لمواطني هذه الدول، ودعَم التنمية الصناعية، وخلَق فرص العمل، فقد أسفر أيضاً عن استهلاك كبير للطاقة بلغ حدّ الإسراف. ويتضح ذلك من تضاعف الاستهلاك المحلي في دولة مثل المملكة خلال السنوات العشر الماضية، لتحتل المرتبة الثانية عشرة على مستوى العالم في استهلاك الطاقة، وسادس أكبر مستهلك للنفط والغاز الطبيعي حسب إحصاءات بريتش بتروليوم وإدارة معلومات الطاقة الأمريكية. كما اتبعت دول الخليج العربي الأخرى النمط نفسه، رغم قلة عدد سكانها. ومع استمرار النمو الاقتصادي والسكاني في هذه الدول، وفي غياب إجراءات تصحيحية حاسمة، يُتوقع أن يستمر استهلاك الطاقة المحلية في دولة كالمملكة العربية السعودية بالارتفاع ليصل إلى 8 ملايين برميل مكافئ من النفط يومياً بحلول عام 2030م، مما قد يهدِّد عائدات التصدير وريادة المملكة العربية السعودية لسوق الطاقة العالمية.
  4. يُعد انخفاض أسعار منتجات الطاقة أحد المحركات الرئيسة وسبب النمو المتزايد في الطلب المحلي على الطاقة. فقد أدَّت الإعانات إلى مستويات مرتفعة من الاستهلاك في الطاقة بلغت حدّ الإسراف المفرط، ما جعل دولاً كالإمارات العربية المتحدة والمملكة من أعلى المستهلكين لنصيب الفرد من الوقود والكهرباء في العالم. فبينما تستهلك الاقتصادات العالمية في المعدل 1.2 برميل مكافئ من النفط لكل 1,000 دولار أمريكي في الناتج المحلي الإجمالي، تستهلك الإمارات والمملكة على التوالي 2.94 و2.59 برميل لإنتاج المستوى نفسه من النشاط الاقتصادي، وهذا أكثر من ضعفي ذلك المعدل. وعلى الرغم من توجُّه كثير من دول العالم إلى تحسين كفاءة استهلاكها للطاقة، اتّخذ معدل الاستهلاك في دول مجلس التعاون الخليجي مجرىً معاكساً وجلب بدوره نتائج عكسية على معدل الكفاءة.
  5. تسهم الإعانات في حال بقائها عند مستواها الحالي في تسارع معدل استهلاك الطاقة النفطية والكهربائية محلياً، وهذا الأمر بالغ الأهمية في تحديد المستقبل التنافسي للدول المصدرة للنفط. فكما أشير في النقاط السابقة، فإن استمرار مستوى النمو الاقتصادي المتوقع، وعدم تهيئة وتفعيل قوانين تكبح السلوك الإسرافي، سوف يؤدي إلى استنزاف الموارد النفطية، رغم ضخامتها، إلى الحد الذي قد يعيق الدول المصدرة عن تلبية الطلب العالمي على النفط وتفوُّقها في أسواق الطاقة العالمية، مما سيزيد من صعوبة الحفاظ على الاستقلالية في مجال الطاقة. ونتيجة لذلك، سوف يؤدي استنزاف الموارد النفطية إلى تقليص الموارد المالية الكافية لتلبية احتياجات هذه الدول في المستقبل واستدامة العائدات للأجيال المقبلة.
  6. قوّضت الإعانات على منتجات البترول والطاقة الكهربائية الجدوى الاقتصادية من مبادرات التطوير والاستثمار في تقنيات ومصادر أخرى من الطاقة
  7. تخلو الإعانات، خاصة إعانات الوقود، من الجدوى الاقتصادية، وتمثل تكلفة باهظة وعبئاً ثقيلاً على مالية الحكومات. ففي دراسة أجرتها وكالة الطاقة الدولية عام 1999م، قُدِّر صافي قيمة الخسائر السنوية في النمو الاقتصادي بسبب دعم الطاقة المستهلكة في ثماني دول من خارج منظمة التعاون والتنمية بـ 257 مليار دولار. كما خلصت مجموعة واسعة من الدراسات والمبادرات إلى أهمية إصلاح منظومة إعانات الطاقة نظراً لآثارها السلبية. وبحسب دراسة صندوق النقد الدولي التي قدَّرت أن دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تنفق على الإعانات في المتوسط أكثر من المناطق الأخرى وتواجه صعوبة متزايدة في تمويلها. حيث وصل مجموع دعم الطاقة في عام 2011م إلى 236 مليار دولار، أي ما يعادل 48 في المئة من الإعانات على مستوى العالم، وأكثر من 8 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، أو 22 في المئة من الإيرادات الحكومية.
  8. قد تكون الإعانات مناسبة لدفع عَجَلَة النمو وتشجيع الاستثمار الصناعي في مراحله المبكِّرة. لكن هناك حاجة إلى تغيير تدريجي لاحقاً لتعزيز القدرة التنافسية الاقتصادية لهذه الدول. حيث إن بعض إعانات الوقود والكهرباء تتعارض مع هدف التنمية المستدامة، وتضعف من احتمالات نمو الكيانات الاقتصادية، وتعيق زيادة مستوى إنتاجية الاقتصاد. وكثيراً ما أُشير إلى التشوهات الاقتصادية التي سببتها الإعانات، وخاصة تلك التي تهدف إلى تعزيز صناعات أو قطاعات معيَّنة، وأدَّت إلى تحويل استغلال الموارد من الصناعات الأكثر إنتاجية إلى الأقل إنتاجية والاستغلال المفرط للطاقة، وأحدثت تشوهات هائلة في منظومة الاقتصاد، وأضعفت بالتالي الكفاءة الاقتصادية. فقد أعاقت الإعانات توجيه الدعم للقطاعات الأكثر إنتاجية وشجعت النمو في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة مثل الإسمنت والصلب.
  9. أضعفت الإعانات الجهود التي تبذلها الأجهزة الحكومية الهادفة إلى ترشيد الاستهلاك وتقليل الطلب الكلي على الطاقة. فبالرغم من النتائج الملموسة التي حققها المركز السعودي لكفاءة الطاقة ومجلس دبي الأعلى للطاقة والهيئات الحكومية المختلفة، والحملات الإعلامية المكثفة التي تهدف إلى نشر حسّ الترشيد، إلا أن تأثيرها يُعد متواضعاً ومعوقاً في غياب الدافع الاقتصادي بالنسبة للمستهلك الفرد، إذ إن الأسعار المتدنية للوقود أبطلت الحافز لدى المستهلك لتوظيف التقنيات الحديثة ذات الكفاءة العالية في استهلاك الطاقة من تجهيزات الإضاءة، والأجهزة المنزلية، ووسائل النقل. واستمرت المركبات عتيقة الطراز التي تحرق كميات عالية من الوقود تجوب الشوارع، وأدت إلى تشجيع استخدام المركبات المتزايد في الطرق دون رادع اقتصادي، مما سبَّب الازدحامات الخانقة ومشكلات التلوث. وعلى سبيل المثال، فقد وجد تقرير صدر عام 2007م عن المنتدى الاقتصادي العالمي أن كفاءة استهلاك الوقود في وسائل النقل العام والخاص منخفضة بشكل استثنائي في البلدان التي تدعم الوقود، حيث يبلغ متوسط استهلاك الوقود في المركبة أكثر من ضعف المعدل في البلدان التي لا تدعم الوقود.
  10. تسهم الإعانات في حال بقائها عند مستواها الحالي في تسارع معدل استهلاك الطاقة النفطية والكهربائية محلياً
  11. في ظل الأسعار المتدنية، التي قُدِّمت أصلاً بقصد التخفيف على القطاع الصناعي من ضغوط السوق التنافسية، غابت حوافز تجديد البنية التحتية وتوظيف تكنولوجيا أكفأ. ونتيجة لذلك، ضعفت دوافع تقليل التكاليف وشجعت الاستمرار في استخدام تكنولوجيا عتيقة الطراز، مما أدى إلى تشغيل مصانع أقل كفاءة ومكائن رديئة الإنتاجية.
  12. عند تقييم الفوائد المترتبة على بقاء الإعانات لقطاعات معيَّنة، يلزم عدم الاكتفاء بتسليط الضوء على السلع أو الخدمات التي تم إنتاجها، أو الفرص الوظيفية التي تم إيجادها، بل تقييم الفوائد العائدة على المجتمع من قيمة هذه الإعانات، فيما لو أنفقت على خلاف ذلك أو تركت في خزينة الدولة. وهذه في كثير من الحالات، من المرجح أن تضاهي ذلك بكثير وتفوق الفوائد الاجتماعية التي يمكن تحصيلها من تلك الإعانات، والتي غالباً ما يمكن تحقيقها على نحو أكثر فاعلية وبتكلفة أقل دون الحاجة إلى دعم أسعار الطاقة. ففي دراسة حديثة صدرت عام 2014م، قارن صندوق النقد الدولي بين حجم الإنفاق على الإعانات لدى مصدِّري الطاقة في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وحجم الإنفاق على المشاريع التنموية والتعليم والصحة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2011م. وأشارت الدراسة إلى أن إعانات الطاقة في دولة كإيران تزيد بأكثر من ضعفي الإنفاق على المشاريع التنموية والتعليم وأكثر من خمسة أضعاف إنفاقها على قطاع الصحة، في حين بلغت إعانات الطاقة أكثر من 5 بالمئة مقارنة بما نسبته 3 بالمئة على المشاريع التنموية في الإمارات العربية المتحدة، وبلغت 10 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي في المملكة التي أنفقت على المشاريع التنموية وقطاعي التعليم والصحة 11 بالمئة وأقل من 8 بالمئة و3 بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي على التوالي. ويلاحظ هذا التفاوت في الدول الأخرى التي شملتها الدراسة.
  13. من المنطقي تبرير استمرار الدعم في حال تجاوز مردوده الاجتماعي أو البيئي المنشود تكلفته الاقتصادية. وبخلاف الطرق التقليدية التي يتبعها صندوق النقد الدولي والوكالة الدولية للطاقة في استخدام قيمة الدعم الحكومي عند مناقشة موضوع الإعانات، ذهب معهد هاس للطاقة إلى حساب التكلفة الاقتصادية للإعانات من خلال تقدير حجم العبء الفائض الذي يمثِّل الخسائر التي يتكبدها المجتمع جرّاء عدم الكفاءة التوزيعية للموارد. وفي البحث الذي أجراه المعهد، احتلت المملكة العربية السعودية المركز الأول في هذا المقياس بخسائر بلغت 12 مليار دولار لعام 2012م، تمثِّل 27 بالمئة من التكلفة الاقتصادية الكلية على مستوى العالم.
  14. تخلو الإعانات، خاصة إعانات الوقود، من الجدوى الاقتصادية، وتمثِّل تكلفة باهظة وعبئاً ثقيلاً على مالية الحكومات
  15. تُشجع الإعانات تهريب المواد المدعومة عبر الحدود مستهدفة الأسواق ذات السعر الأعلى، مما يزيد من خطر تسرب الدعم لغير مستحقيه وإرهاق الأجهزة الحكومية بمهام المكافحة والمراقبة، كما يحدث بين الحدود الإيرانية الباكستانية والأفغانية.
  16. قوّضت الإعانات على منتجات البترول والطاقة الكهربائية الجدوى الاقتصادية من جدوى الاستخدام والتطوير والاستثمار في تقنيات ومصادر أخرى من الطاقة قد تستفيد منها هذه الدول الداعمة في سعيها إلى تنويع مزيج الطاقة بعيداً عن النفط، كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح، التي قد تكون ذات كفاءة اقتصادية وبيئية أعلى. ويعود السبب إلى صعوبة تقديم الطاقة المتجددة كخيار تنافسي في ظل انخفاض تكلفة الطاقة التقليدية على المستهلك مما يقلل جدواها الاقتصادية ويُحجم المستثمر عن وضعها في الاعتبار.
  17. عقبات رفع أو تخفيض الإعانات
    تعي الحكومات جيداً تداعيات وعيوب الإعانات على اقتصادياتها، ولكن علاجها ليس بالأمر اليسير. ولأن طبيعة ومستوى الإعانات تختلف من بلد إلى آخر، وتنطلق من مواقف وظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية مختلفة، فإن التحديات المرتبطة بالإصلاح تتفاوت بشكل كبير بين البلدان. ولذلك فإن الخبرات والدروس التي يمكن استخلاصها من تجارب بعض الدول التي أعادت النظر بسياسة الدعم، سواء كانت ناجحة أو غير ناجحة، هي ذات قيمة عالية بالنسبة لصنّاع السياسات في الدول التي ترغب في تصميم المشروع المناسب للإصلاحات. ويمكن تقسيم العقبات التي تواجه الحكومات في سعيها إلى إصلاح الإعانات إلى نوعين من التحديات؛ عقبات فنية وعقبات سياسية. وتتركز التحديات الفنية فيما يلي:

    1. صعوبة التوصُّل إلى الكيفية المثالية التي يمكن من خلالهما الانتقال من البيئة الحالية للإعانات والتحوُّل إلى الإطار المنشود، وهذه تشمل، بالإضافة إلى تهيئة وإعداد المجتمع كما سيذكر لاحقاً، مراحل التنفيذ وجدوله الزمني، واختيار القطاعات والمنتجات المستهدفة، على أن تأخذ بالاعتبار شرائح المجتمع المتأثرة من التحوُّل لأسعار غير مدعومة أو شبه مدعومة.
    2. احتواء الخطر الذي قد ينشأ من رفع معدل التضخم الناتج من زيادة الأسعار. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يؤدي ارتفاع أسعار الديزل إلى تضخم أسعار المواد الغذائية عند لجوء التجَّار إلى إلقاء اللوم على زيادة تكاليف النقل، أو زيادة تكلفة تشغيل الآلات المستخدمة في إنتاج المواد الغذائية.
    3. تخوّف الحكومات من تفاقم مشكلات التضخم الناتجة عن رفع الدعم عن الوقود أو تخفيفه، الذي سوف يؤدي إلى نتائج تضخمية سوف تتغلغل إلى جميع القطاعات والخدمات والسلع على السواء.
    4. تحديد آلية عادلة وفعّالة لتخفيف الضرر على الطبقات المعوزة من المجتمع، مما يتطلب تقييم ودراسة خيارات أخرى لتعويض هذه الطبقات، كالتعويض النقدي المباشر، برغم التعقيدات التي تصاحب هذا الخيار من تحديد المدى الزمني للتعويض وحجمه.
    5. تفعيل آلية تحديد السعر السوقي للمنتجات ونطاق الدعم بعد التخفيض، وفي حال كان القرار نحو تخفيف الإعانات بدلاً من إلغائها، هناك صعوبة في التوصل إلى مستوى السعر الذي يكفل تغيير السلوك الإسرافي الحالي إلى سلوك مقتصد، وفي الوقت نفسه يجلب عوائد كافية على الاستثمار.
    6. اختيار المنتجات والخدمات المستهدفة في رفع الدعم أو تخفيفه، خصوصاً تلك التي تجلب مركزاً تنافسياً لاقتصاد الدولة والموازنة بين الفوائد الاقتصادية المرجوة على المدى البعيد والقريب.
    7. تطوير المؤسسات الحكومية القائمة وتجهيزها لمراقبة وتنظيم السوق ما بعد رفع الدعم أو تخفيفه، وضمان تناغم مصالحها وسياساتها لكبح جماح الأسعار وحماية المستهلك.

    وعلى صعيد آخر، تتركز التحديات السياسية على المقدرة على احتواء وأخذ مخاوف المجتمع بعين الاعتبار مبكراً، وطمأنة المتضررين من رفع الدعم بالكيفية التي سوف تعتمدها الحكومة لتخفيف آثاره السلبية، وإعادة إنفاق ما يتم إنفاقه على الدعم بسياسات أفضل.

    تهيئة وإعداد المجتمع إلى بيئة بلا إعانات
    ما إن تشرع الحكومات في مناقشة رفع أو تخفيض الإعانات، فلا بد وأن يبرز العامل الاجتماعي أمام معظم نقاشات صنّاع القرار. ولكن هذا الاهتمام يصل أحياناً إلى درجة القلق غير المبرّر. ويعزى ذلك إلى شح الخبرات السابقة لدى الحكومات في سياسات رفع الإعانات وغياب سجل موثق بالتجارب الناجحة أو حتى الفاشلة منها على مدى زمني طويل. ولهذا تتردَّد الدول في اختيار التوقيت والآلية المثلى لإصلاح الإعانات واختيار نموذج مناسب لتخفيف أو تعويض الشريحة المحتاجة من المجتمع.

    إلَّا أنَّ هذا لا يعني أنه لا يمكن القيام بإجراءات استباقية قبل تطبيق الإصلاح الفعلي للإعانات. وهنا يبرز دور تهيئة المجتمع المدني والصناعي أيضاً، واعتماد مرحلة انتقالية لتسهيل عملية التحوُّل من الهيكل الحالي لأسعار المنتجات المدعومة، ومساعدة المستهلكين على التكيف مع الهيكل السعري الجديد. ويتعيَّن أن تراعي هذه المرحلة الانتقالية الترتيبات التالية قبل التنفيذ الفعلي للأسعار الجديدة:

    1. توعية المجتمع المدني شاملاً السوق والمستهلك بالكشف عن الضرر الذي تقوم به الإعانات بشكل عام. وهذا يمكن تحقيقه عن طريق حملة إعلامية مكثفة تركِّز على تسبب الإعانات في الإسراف في الاستهلاك وعدم عدالة التوزيع بين شرائح المجتمع، بالإضافة إلى عيوب الإعانات التي سُردت آنفاً.
    2. اعتماد أسلوب الشفافية مع المستهلك متلقِّي الدعم بالكشف عن القيمة الحقيقية للخدمة أو المنتج قبل الدعم، حتى يدرك مدى وحجم الدعم الذي يتلقاه، وحث الجانب الإيجابي في سلوكه الاستهلاكي. وهذا يتم بعرض التكلفة الحقيقية جنباً إلى جنب مع المبلغ المستحق بالفاتورة الشهرية، أو في لوحة إعلانية عند محطات الوقود، أو مكتوبة في قسيمة الإيصال.
    3. اعتماد أفضل الممارسات العالمية التي تهدف إلى ترشيد الاستهلاك ووضعها موضع التنفيذ. وهذا يتضمَّن أدوات البناء والتبريد المناطقي والمعدات المستخدمة في الصناعة وتوليد الكهرباء.
    4. معالجة وتحسين مستوى الكفاءة الإنتاجية الصناعية من خلال فرض سياسات حازمة لتقييد الاستيراد من المعدات والتجهيزات والخدمات ذات الكفاءة المتدنية. الذي من شأنه الحدّ من احتماليات تمرير آثار الزيادة في أسعار الوقود والمنتجات على تضخم الأسعار التي يواجهها المستهلك النهائي، والتخفيف من أثرها في إضعاف القدرة التنافسية الدولية للمنتجات.
    5. أضعفت الإعانات الجهود التي تبذلها الأجهزة الحكومية الهادفة إلى ترشيد الاستهلاك وتقليل الطلب الكلي على الطاقة
    6. التوسع في الحملات الإعلامية التي تهدف إلى توعية المستهلكين عن مخاطر الإسراف بشكل عام لتطال المدارس ومقار العمل والأماكن العامة ومواقع التواصل الاجتماعي.
    7. شحذ الحافز الديني لدى المجتمع وربط دوافع الترشيد بالتعاليم الإسلامية مدعّماً بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية ومآثر السلف التي تندِّد بالسلوك المسرف كصفة مذمومة.
    8. تشجيع الأسر على توعية أولادهم في تعاملاتهم ونشاطاتهم اليومية، والتأكيد على استخدام الجزء الذي يكفي الحاجة عند الأكل والوضوء والاستحمام وتشغيل مرافق المنزل من إضاءة وتكييف وأجهزة كهربائية.
    9. تأسيس جهاز حكومي مستقل ومحايد لمراقبة مستوى التضخم ودراسة أثره الناتج عن إصلاح الإعانات على شرائح المجتمع، والقطاعات الصناعية والتجارية، ومختلف المناطق الجغرافية. ويعمل هذا الجهاز كإنذار مبكِّر لدعوة الجهات المسؤولة للتدخل عند الحاجة إلى التصحيح.
    10. سنّ قوانين رادعة للتجَّار والمصنِّعين في حال استغلال زيادة أسعار المنتجات والخدمات وتمريرها للمستهلك بصورة مفرطة أو غير مبررة.
    11. تأسيس صندوق توفير الطاقة والاتفاق على تنظيمه العام مسبقاً، بحيث يموَّل من فارق السعر قبل الدعم وبعده أو جزء منه. حيث يهدف الصندوق إلى إعادة توجيه ما يمكن توفيره من الدعم لتعويض المتضررين من رفع الدعم، وتمويل الحملات الإعلانية الإرشادية وغير ذلك مما يرتبط بهذا الشأن.
    12. تفادي الرفع المفاجئ للدعم لما له من نتائج لا يمكن التنبؤ بها على الفرد والكيان الاقتصادي، مما قد يقوِّض الفعالية والجدوى من الناحية السياسية. وعوضاً عن ذلك، الانتقال بأسعار السوق بصورة تدريجية وسلسة. وقد يعتمد التدرج على محورين، يعتمد المحور الأول على التدرج بمستوى السعر حتى يصل إلى المستوى المستهدف مع الزمن، بينما يعتمد في المحور الثاني على التدرج في القطاعات التي يرفع عنها الدعم، كالبدء بأسعار اللقيم للقطاع الصناعي، ثم أسعار الوقود للقطاعين الصناعي والتجاري قبل تطبيق الأسعار على القطاع السكني وأفراد المجتمع.
    13. جدولة قرار إصلاح الإعانات مع توقيت جاهزية البنية التحتية من وسائل النقل العام والقطارات لتهيئة الظروف الملائمة للمواطنين وتقديم البدائل.
    14. إجراء دراسات في مجال الاقتصاد الاجتماعي لفهم سلوك المستهلك الذي يختلف من بلد إلى آخر باختلاف الثقافات، ولمعرفة مرونة وتجاوب الطلب على المنتجات مع التغير في السعر. وسوف تعطي نتائج هذه الدراسات فهماً أعمق للسوق والسلوك الاستهلاكي للمجتمع.
    15. مراقبة الدول التي بدأت برفع أو تخفيض الدعم وأخذ الدروس من تجاربها الناجحة، وتشكِّل تقارير المنتدى الاقتصادي العالمي، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي مادة غنية بالدروس التي تفيد صانع القرار في مرحلتي ما قبل وما بعد رفع الدعم.
    الوقت الملائم.. الآن؟
    هناك توافق متزايد وشبه إجماع لدى صنَّاع القرار ومن جانب المستهلك على أن عيوب الإعانات قد طغت على محاسنها، وبدأت تظهر بين الفينة والأخرى قرارات بتخفيض الدعم عن سلع مختارة وبمستويات مختلفة، مما يبشّر بجاهزية البيئة الاجتماعية والاقتصادية لاستيعاب القرار متى ما حان وقته. كما يدرك المراقبون الحاجة إلى قرار سيادي لتخفيض الإعانات ومعالجة آثارها السلبية التي تفاقمت عبر الزمن، يؤخذ في الاعتبار الحاجة إلى احتواء الأثر المترتب على المواطنين المحتاجين.وقد أشير إلى دور الحكومة الأساسي في إنجاح الإصلاحات في تشريع سياسات تحسين الكفاءة والإنتاجية وتفعيل الآلية الفعالة لمراقبة ومعالجة العواقب الناتجة عن إصلاح الإعانات من تضخم وخلافه. ومن الضرورة بمكان اختيار التوقيت الملائم للإصلاح، ولعل البيئة الحالية لأسعار النفط المنخفضة، التي تقلّص خلالها الفارق بين السعر العالمي للنفط وسعر السوق المحلي المدعوم، تجعل الوقت ملائماً أكثر من أي وقت مضى لتسهيل تقبل المستهلك للسعر الجديد بدلاً من اللجوء إلى قفزة عالية بالسعر قد تضر بالصالح العام.وعلى الرغم من الإشارة إلى أهمية مراعاة عدد من العوامل المهمة لإنجاح قرار إصلاحات نظم الإعانات. إلا أن تأجيل القرار في رفع أو تخفيض الإعانات لا يعني عدم جدوى الشروع في رسم خطة قابلة للتنفيذ وتهيئة المجتمعين المدني والصناعي ونشر الوعي وثقافة الترشيد بينهما.

أضف تعليق

التعليقات