علوم

اقتصاد «أوبر»

(uber)

لرفع قيمة الاستهلاك عبر مشاركته

isometricفي عام 1965م توقعت لجنة فرعية تابعة لمجلس الشيوخ في الولايات المتحدة الأمريكية، أنّ التطور المتسارع في معدلات الإنتاجية سيجعل الفرد الأمريكي بحلول الألفية الثالثة بحاجة إلى ما بين 14 إلى 22 ساعة عمل أسبوعياً ليتمكن من سدّ احتياجاته. واليوم وبعد مرور خمسة عقود على ذلك التقرير، ما زال الفرد الأمريكي يعمل ما يزيد على 40 ساعة أسبوعياً دون حقّ الحصول على إجازة مرضية مدفوعة، أو إجازة حمل وولادة للعاملات. ولا تتوقف المفارقة عند ذلك فحسب، بل إنّ أحد مرشحي الرئاسة الأمريكية لعام 2016م يطالب بزيادة عدد فرص العمل في الاقتصاد مدعياً بأن أفراد شعبه ما زالوا بحاجة إلى مزيد من ساعات العمل.

من باب الإنصاف، فإن اللجنة المذكورة في المقدمة ربطت توقعها باستمرار معدلات الاستهلاك على ما هي عليه. وهو الشرط الذي ربما سيحمي اللجنة من تندر الإحصائيين. إلا أنّه لن يجديَ نفعاً أمام مختصي الأنثروبولوجيا والمهتمين بقراءة تاريخ الحضارة البشرية. فالشواهد على تطور البشر ونشأتهم تدلّ على أن الرغبة المضطردة في الاستهلاك هي فطرة بشرية تسري في مختلف طبقات المجتمع، ولا تنحصر في فئة دون أخرى ولا تتوقف عند حدود سدّ الاحتياجات المعيشية التي يقوم عليها بقاء الإنسان، بل تستمر ما دامت هناك شرعية للتملك وفرصة للاقتناء. ففي عام 55 ق. م. كان النقاش محتدماً في مجلس الشيوخ في روما حول سبل حماية المدينة من الإفلاس، في وقت كانت المدينة تعاني عجزاً تجارياً بسبب الإفراط في استيراد الحرير والتوابل من الصين.

وإذا كان يحلو للناقمين على الرأسمالية تحميل آدم سميث وأتباعه نتائج تفشي المادية والاستهلاكية في سلوك وقيم البشر، فإن الرغبة في التملك والاستهلاك كانت سلوكاً ملازماً لحضارة الإنسان، أعاد اختراع أدواته مرات عديدة باختلاف حقب هذه الحضارة وأساليب تنظيم علاقات البشر مع بعضهم.

1101750714_400فالذهب الذي لم يكن يسد أي حاجة مباشرة للبقاء، انتشر استخدامه في مصر كسلعة ملكية لعقود سبقت أول استخدام نفعي له كعملة وأداة لتخزين الثروة ومقايضة الممتلكات. والحروب التي كانت تشنّ لغايات نبيلة معلنة، كانت في باطنها أداة لزيادة ثراء الغازي على حساب نهب ممتلكات المغلوب على أمره. والحركات الاستعمارية استطاعت أن تمتد لقرون وتبلغ مشارق الأرض ومغاربها لأنها فتحت أسواقاً جديدة أمام سلع الدولة المحتلّة، وضمنت إمدادها بالمواد الخام اللازمة لإنتاج مزيد. وحتى العبودية، لم تصبح صفحة خالدة في تاريخ البشر بسبب استعلاء لون على آخر فحسب، ولكنها كانت مصدراً رخيصاً لإنتاج القطن، وقصب السكر اللازم لصناعة بعض المشروبات بكميات تجارية.

الاستهلاكية والرأسمالية

«الاستهلاك هو النهاية الوحيدة والغاية من كل عمليات الإنتاج، ورخاء المُنتج لا يجب الالتفات إليه إلا إذا كان لازماً لتحقيق رخاء المستهلك»..

لا تعدو الرأسمألية كونها محصلة تجربة بشرية وأداة أخرى لتنظيم علاقات البشر الاقتصادية والاستجابة لنزعة الاستهلاك والتملك عند الإنسان. فعلى سبيل المثال تم استخدام مصطلح «shoplift»، الذي يدل على جريمة اختلاس البضائع من المتاجر أثناء التسوق، لأول مرة في عام 1685م، وهو التاريخ الذي سبق ظهور كتاب «ثروة الأمم»، الذي يُعد حجر الأساس للاقتصاد الرأسمالي الحديث، بتسعة عقود. وعلى الرغم من ذلك فإن مدرسة آدم سميث، الذي كان مفكراً أخلاقياً بالدرجة الأولى قبل أن يُعرف بنظرياته الاقتصادية، تحظى بالنصيب الأكبر من اللوم حين يكون الحديث عن الآثار السلبية للاستهلاك. وربما يعود السبب في ذلك إلى انحيازنا إلى التركيز على التاريخ الحديث أو بسبب التوثيق الدقيق الذي حظيت به هذه المدرسة واقترانها في متلازمة ثنائية بالمدرسة الماركسية. ولكن الواقع الذي لا يمكن تجاهله هو أن الرأسمالية ركزت على رغبات المستهلك بشكل مباشر، وجعلتها حجر الزاوية في كل التعاملات الاقتصادية.

يقول سميث في كتابه ثروة الأمم: «الاستهلاك هو النهاية الوحيدة والغاية من كل عمليات الإنتاج، ورخاء المُنتج لا يجب الالتفات إليه إلا إذا كان لازماً لتحقيق رخاء المستهلك». وتمثل هذه الفكرة ما يُعرف بمصطلح «سيادة المستهلك» الذي يدل على أن تلبية رغبة المستهلك تشكِّل الغرض الأساسي للعملية الاقتصادية كاملة.

uber1ومَنْ يطالع كتب الاقتصاد الجزئي سيجد في الصفحات الأولى مصطلح المحدودية «Scarcity» الذي ينص على أن المستهلكين يواجهون معضلة دائمة تتعلَّق بمحدودية المصادر المادية، والوقت، والقدرة على الاستهلاك في كل مرة يقررون فيها شراء سلعة ما. ونتيجة لهذه المعضلة يجد المستهلك نفسه أمام حتمية اختيار سلعة، والتضحية بأخرى كفرصة بديلة يشكل الاستغناء عنها ثمناً للحصول على السلعة المختارة. وتفسر النظرية الاقتصادية الآلية التي يقرر بها المستهلك اختيار سلعة دون أخرى، بأنه اختيار عاقل ومنطقي مبني على تقييم المستهلك لسلعة ما على أنها تعود عليه بأكبر نفع متوقع، مقارنة بالثمن الذي تمّت التضحية به للحصول عليها. وتبعاً لهذا المنطق، ولسيادة المستهلك كمحور رئيس في العملية الاقتصادية فإن على المُنتج أن يخضع لرغبة المستهلك وتقييمه الذاتي للمنفعة المرجوة من أي سلعة، وهو التقييم الذي يتم الاستدلال عليه عبر معرفة السعر الأقصى الذي يقبل المستهلك بدفعه، وأن يستطرد في إنتاج تلك السلعة ما دامت تكلفة إنتاجها الإضافية تقل عن – أو تساوي – المنفعة المرجوة. هذه الآلية التي تعرف بقانون التكلفة الإضافية الذي ينصّ على أن معدل الإنتاج المثالي هو ذلك المعدل الذي تتساوى عنده التكلفة الإضافية لإنتاج سلعة ما مع الربح الإضافي المتوقع من بيعها. ونظراً لأن الفائدة المرجوة من الاستهلاك تتناقص بزيادة الكمية المستهلكة فإن على المنتج أن يواجه سقفاً أعلى لما يمكن إنتاجه قبل أن تصبح سلعة غير ذات نفع.

من الاستهلاك إلى الاستهلاكية
إن هذه الآلية المنطقية لاستهلاك الأفراد القائمة على محدودية الموارد لم تؤدِّ إلى محدودية في الاستهلاك، بل إن المنتجين وجدوا في سيادة المستهلك وفطرة التملك، ذريعة لجعل الاستهلاك منفذاً يتجاوز تلبية الحاجات الأساسية إلى تحقيق جملة من الرغبات النفسية والاجتماعية يعرف من خلالها المرء نفسه وموقعه من المجتمع أو ما يعرف لدينا اليوم بالاستهلاكية.

لقد أسهمت التحولات السياسية والاجتماعية والتقنية التي تلت الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر، في إعلاء قيمة السوق كمنفذ تتم عبره معظم التعاملات الاجتماعية ويكتسب من خلاله الأفراد مستهلكين كانوا أو منتجين موقعهم الاجتماعي. وتشمل هذه التحولات الحرية الفردية وانتهاء العصر الإقطاعي، ونشوء ما يُعرف بالطبقة الوسطى وهو المصطلح الذي جرى استخدامه للمرة الأولى في عام 1745م، ليدل على الطبقة العاملة من المجتمع التي لا تملك رأس المال وتستعيض عنه بتحويل وقتها ومهاراتها إلى أدوات للكسب.

605aa59a-73cc-4539-8a08-7be55294c571_20150512193732732وقد أفرزت هذه التحولات فرداً يشبه الأغلبية في الحقوق التي يتمتع بها، والواجبات التي يضطلع بها. وفي الوقت الذي ارتفعت فيه قيمة الفرد وأصبح دور الدولة مجرد ضامن لحقوقه ورفاهيته، فقد انحصرت فضاءات التمرد التي يمارس عبرها ذاته المستقلة، وأصبح الرجال في عُرف النظام الاقتصادي الحديث مكائن للكسب يؤدون أعمالهم وفقاً لكتيب إرشادات – كما نصّت نظرية الإدارة العلمية لفريدريك تايلور – ليفوزوا بحقّ العيش الكريم في نهاية المطاف. ومع تضخم الآلة الرأسمالية واضطرار غالبية الأفراد إلى الانضمام إلى مؤسساتها، تنامى دور الاستهلاك والسوق كمنفذ يحاول أفراد المجتمع من خلاله شراء مكانتهم الاجتماعية. وفي حين كان الاستهلاك فعلاً يصف الطريقة التي يلبي بها الأشخاص متطلباتهم الحياتية عبر مقايضة ثرواتهم، فإن الاستهلاكية تصف الطريقة التي يُعرّف بها الأفراد أنفسهم بتضمينها داخل ممتلكاتهم الماديّة.

أثر الاستهلاك على النظام الاقتصادي
يمتدّ أثر الاستهلاك من مكانة الأفراد إلى بنية الأنظمة الاقتصادية. ففي الاقتصادات التي لم يعد بمقدروها الاعتماد على الوحدات الإقطاعية المكتفية بذاتها أو الموارد الطبيعية أو الحروب كمورد اقتصادي، أصبح الاستهلاك والإنفاق محركين للعجلة الاقتصادية برمّتها عبر مضاعفة الثروة الناتجة عنه، وإعادة تدويرها من خلال تبادل أدوار الاستهلاك والإنتاج بين أفراد ومؤسسات المجتمع.

ففي الولايات المتحدة الأمريكية يمثل الاستهلاك ما حجمه سبعين في المائة من إجمالي الناتج القومي العام. وخلال عشرينيات القرن الفائت، أدّى إحجام أفراد المجتمع عن الاستهلاك نتيجة تشاؤمهم من مستقبل السوق إلى تحويل أزمة اقتصادية عابرة إلى ما يُعرف الآن بالكساد العظيم، الذي لم يحدث نتيجة لنضوب المواد الخام أو اكتفاء في الطلب بل كانت أزمة توقعات وإحجام عن الإنفاق، تطلّب حلها تدخل الدولة لتشجع الاستهلاك من جديد وإعادة دفع العجلة الاقتصادية.

frederick-w-taylors-quotes-2وفي ظل تنامي الحاجة الملحة إلى الاستهلاكية كأداء لتعريف أفراد المجتمع ولضمان بناء النظام الاقتصادي، فإن استجابة السوق لهذه الحاجة جاءت عبر توفير مزيد من الخيارات، في كل مرة يبحث فيها متسوق ما عن ملبس أو سيارة تعكس شخصيته المستقلة عن الجميع. فإذا كان القصد من التسوق هو التفرّد وتعريف الذات، فإن كل سلعة تفقد قيمتها بمجرد أن تصبح في أيدي الآخرين أيضاً، ومعها تولد حاجة أبدية إلى وفرة في الخيارات لسدّ هذا النقص وإشباع رغبات تتجاوز الفائدة الوظيفية لأي منتج.

فقد أصبحت الوفرة وصفاً ملازماً للاستهلاكية والرأسمالية، على الرغم من أنّ أفرادها ما زالوا يقعون تحت معضلة المحدودية وحتمية الاختيار. وإذا كنتَ تبحث عن حلّ لهذه المفارقة فإنّ الجواب يكمن في قدرة أدوات الدعاية والتحولات في سلوك المستهلكين على تغيير المنفعة المرجوة من الاستهلاك والثمن المبذول من أجل الحصول عليها.

وكنتيجة مبطنة لاقتصاد الوفرة، أصبحت الخيارات التي تحاكي كل منفعة ممكنة يبحث عنها المستهلك متاحة في شكل عبوة أو خدمة، ليجد من خلالها ما ينبئ الآخرين عن ذاته أو ما يمنحه شعوراً بصفات مختصة بفئات أخرى من المجتمع.

هكذا تنامى الحرص على الملكية الشخصية، وزاد الارتباط بين الذات وممتلكاتها، وأصبح تراث التسويق يعجّ بمصطلحات مثل «شخصية المنتج» الذي يرشد المسوِّقين إلى سبل «أنسنة» منتجاتهم وإضفاء صفات شخصية عليها، لتطابق تلك الصفات التي يتمتع بها أو يطمح إلى اكتسابها مستهلكوه. وتذهب الدعايات التي قد تعرض مجرد منظف منزلي يختص بوظيفة معروفة، إلى تضمين فكرة الوفرة في عرضها المنتج، حيث تجادل هذه الرسائل بأن أثر هذا المنتج يتجاوز التنظيف إلى تلبية مختلف الحاجات النفسية لمستخدمه كفكرة القبول الاجتماعي والتميّز وسط الأقران.

من الوفرة إلى المشاركة
هل يمكننا الاستمرار في العيش في نظام اقتصادي يقوم على توفير كل ما يرغب المستهلك في تملكه، وثقافة استهلاكية تجعل التملك المادي أسلوباً لتعريف الذات؟

UberApp2ربما يكون الكساد الاقتصادي الأكبر في تاريخ البشر قد حصل بسبب توقفهم عن الاستهلاك، ولكن الشاهدين البيئي والحيوي ينذران بأن الاستهلاك ليس وحده المحرك لعجلة الرفاهية والاستدامة. فقد شكَّلت الاستهلاكية فكرة اجتماعية لإشباع رغبات لا علاقة لها بالفائدة الوظيفية المباشرة من المنتج وقدرة تقنية على توفير منتج يستجيب لكل فكرة قد تخطر في بال المنتج أو المستهلك على حد سواء. ففي عالم اليوم يستهلك الـ %5 الأغنى من سكانه قرابة %25 من موارده، ويزداد عدد المستهلكين فيه يوماً بعد يوم بفضل تراجع معدلات الفقر، وزيادة الانفتاح التجاري. وتنفق نساء الدولة الأغنى فيه يومياً على مستحضرات التجميل ما يُعد دخلاً يومياً لأفراد الدول الأفقر، وتبلغ نسبة إهدار الطعام ما بين 30 إلى %40 من إجمالي ناتج الغذاء العالمي. وفي هذا العالم، يرزح عديد من دول الاقتصاد الاستهلاكي تحت ما يُعرف بالدَين الحيوي، الذي يشير إلى الدول التي يتجاوز استهلاكها من المواد الخام ما يفوق طاقتها الحيوية عبر الاستيراد من دول أخرى، أو عبر استهلاك موارد كان يجب ادخارها لأجيال قادمة.

تدرك كثير من الأنظمة الاقتصادية والمستهلكين والمنتجين أن ليس بمقدور النظام الحيوي الاستمرار في إمداد السوق بكل ما يرغبه المستهلك ما دام الثمن الذي يستعدّ لدفعه يتجاوز التكلفة الإضافية لتقديم ذلك المنتج. وإن كانت المدرسة الرأسمالية التقليدية ترى أن السوق سيصحح نفسه عبر رفع الأسعار في حال ندرة المعروض، فإن هذه الآلية لا تقدم حلاً دائماً يجمع بين رفاه المستهلكين واستدامة الاستهلاك. وعلى الرغم من هذا الوعي فإن الدعوات المجردة إلى ترشيد الاستهلاك والتخلي عن المادية لا تبدو حلاً يستوعب الحاجة البشرية إلى الاستهلاك، ويضمنها في قالب آخر من أشكال التبادل الاقتصادي.

في المقابل، تشهد المرحلة ولادة ما يُعرف بـ «اقتصاد المشاركة» أو «اقتصاد التكلفة الإضافية الصفرية» متزامناً مع تطبيقات تجارية واسعة تهدف في مجموعها إلى مشاركة الموارد والخبرات بين المستهلكين والمنتجين بشكل يضمن تقنين الاستهلاك وجعله أكثر استجابة لحاجات المستهلك الحقيقية والتقليل من الفائض المهمل الملازم لعملية الاستهلاك.

اقتصاد يلجم الاستهلاك
uber2يقوم اقتصاد المشاركة على استثمار تقنيات التواصل الإلكتروني لتحويل المستهلكين التقليديين إلى منتجين عبر إعادة مشاركة مواردهم مع مستهلكين آخرين دون الحاجة إلى استثمار جديد أو تكلفة إنتاج إضافية. ومن أبرز تطبيقات هذا الاقتصاد خدمة «أوبر» لسيارات الأجرة التي يستخدم عملاؤها سياراتهم الخاصة لتوصيل الركاب، وموقع «آير بي آند بي» (AirBnB) الذي يمكِّن الأفراد من تأجير مساكنهم الخاصة لفترات زمنية محدودة كحل بديل عن الفنادق، وغيرها من التطبيقات التي تمكِّن المستهلكين التقليديين من مشاركة ممتلكاتهم مع مستهلكين آخرين دون الحاجة إلى وسيط، سواء كانت هذه الممتلكات وحدات تخزينية، أو مواقف سيارات، أو خبرات إرشادية. ويمتدّ أثر هذا الاقتصاد لتهديد صناعات أكثر استقراراً مثل إنتاج الكهرباء عبر مشاركة الطاقة الكهربائية من خلال شبكة متصلة بوحدات طاقة شمسية منزلية دون الحاجة إلى وحدة إنتاج مركزية.

ولا يعدّ اقتصاد المشاركة حالة تُعارض فطرة الاستهلاك أو تحقيق الربح عبر التعاملات الاقتصادية، فوسيط هذه التعاملات في كل حال هو المقايضة النقدية، وما يتم مشاركته في نهاية الأمر هو الموارد التي كان يُنظر إليها سابقاً كممتلكات خاصة.

ويجادل الاقتصاديون المنحازون إلى اقتصاد المشاركة بأن تطبيقاته تمثل تهديداً لفكرة الملكية الشخصية التي كانت ولا تزال إحدى الأفكار الأساسية في الثقافة الاستهلاكية والنظام الرأسمالي. فهذه التطبيقات تزيد المنفعة المرجوة من الممتلكات الشخصية عبر العائد المكتسب من مشاركتها، كما تزيد من التكلفة النسبية للممتلكات التي لا ينوي أصحابها توظيفها في اقتصاد المشاركة. وبجانب الفائدة الاقتصادية هذه، فإن لتحوُّل المستهلكين إلى منتجين أثراً نفسياً واجتماعياً يعادل ذلك الذي يحاول أفراد الطبقة الوسطى تحقيقه عبر الاستهلاكية كوسيلة للتعبير عن الذات. ففي حين قلَّصت الوظائف المكتبية التقليدية من دور هذا الفرد إلى مجرد مورد رزق عبر ما يكسبه نتيجة تقديم خدمته وموهبته إلى موظَّف ما، وساهمت الآلة التسويقية إلى تحويله إلى مستهلك سلبي غائب عن عملية الإنتاج يبحث عن تعريفه عبر ما يقتنيه، فإن اقتصاد المشاركة يمنح أفراد هذه الطبقة فرصة التحكم في الطريقة التي يكسبون من خلالها دخلهم وموقعهم المعيشي في النظام الاقتصادي. وهي الفرصة التي قد تقلل من أهمية الاستهلاكية في بناء العلاقات الاجتماعية وتعريف أفراد المجتمع ببعضهم.

Belong-Anywhere---Airbnb-s-new-mark-and-identولا تأتي هذه الضوضاء المحيطة بفكرة اقتصاد المشاركة – رغم الجدل حول أثره الحقيقي الحالي – وانتقاله من دائرة النقاشات الأكاديمية إلى مهاترات السياسيين وتحليلات مقدمي نشرات الأخبار، دون استشعار حقيقي لأهمية هذا النمط من التعامل الاقتصادي في تلبية التحديات التي تواجه عملية الاستهلاك والإنتاج بنمطها الحالي. بل يأتي متزامناً مع حلول تقنية وتشغيلية تسعى إلى الهدف نفسه: زيادة كفاءة الإنتاج وتقنين الاستهلاك. فعلى سبيل المثال، تُعد الخطوات التي تمّ إنجازها في مجال التسويق العصبي ثورة في فهم سلوك المستهلكين، وبالتالي تحقق مواءمة أكبر بين رغبات المستهلكين ونفقاتهم، وهذا ما قد يزيد من وعي المستهلكين للفائدة الحقيقية لما يستهلكون، وتركز جهود المنتجين على المنتجات التي تحقق أعلى نفع ممكن للمستهلك.

وتُعد التطورات في مجال البيانات الكبيرة (Big Data) من الممكِّنات لاقتصاد المشاركة، وزيادة كفاءة العملية الاستهلاكية. فالمشاركة ليست فكرة جديدة بل كانت الأساس الذي بنيت عليه الاقتصادات البشرية الأولى حين مكنت أفراد المجتمع من الاعتماد على بعضهم في سدّ احتياجاتهم. ولكن وفرة البيانات ستتيح لأفراد هذا الاقتصاد الوصول إلى مستهلكين جدد خارج إطارهم الجغرافي والتعرف على أسواق وفرص جديدة بفضل هذه البيانات. وفي حين يقترن الحديث عن إنترنت الأشياء والبيانات الكبيرة، فإن اقتصاد المشاركة يمثل مجالاً واعداً لزيادة كفاءة الاستهلاك عبر تطبيقات هذين المجالين. فالأشياء التي يجري توصيلها عبر هذا الإنترنت والبيانات الناتجة عنه هي ممتلكات في حوزة المستهلك. ومن أجل الحصول عليها تواجه المؤسسات التقليدية حتمية إشراك المستهلك في بنائها ومشاركته نتائجها. فعلى سبيل المثال، يحاول منتجو الأدوات المنزلية زيادة كفاءة استخدامها عبر ربطها بالإنترنت وتحليل بيانات هذا الاستخدام وتقديم إرشادات فورية لتحسينه وهي العملية التي تستوجب تحويل المستخدم إلى مستهلك مشارك في عملية الإنتاج!

airbnb-logo-vid-5لقد استطاعت الاستهلاكية إعادة اختراع أدواتها مرات عديدة باختلاف الظروف الاقتصادية. ومحدودية الموارد الحيوية التي تواجه اقتصاد الوفرة وترفع من تكلفة نمطه الاستهلاكي ستدفع إلى ولادة نظام اقتصادي جديد يستجيب لهذه التحديات، ويلبي فطرة الاستهلاك التي ظلّت ملازمة للحضارة البشرية. ويعدّ اقتصاد المشاركة الذي يرفع من كفاءة الاستهلاك ويزيد من الفائدة المرجوة من التملك أحد الحلول التي يلوح مستقبلها في الأفق، وبدأت تطبيقاتها بالتحول إلى أدوات ربحية، مكتفية بذاتها، وأثبتت مواءمتها لرغبات المستهلكين وفعاليتها في استغلال الظروف الاجتماعية والبيئية التي تشكِّل تهديداً لأنماط الاقتصاد التقليدي.

أضف تعليق

التعليقات