طاقة

اتفاق باريس لحماية مناخ الأرض

الخطوة الأكثر تقدماً حتى الآن

coverظهرت خلال الشهرين الماضيين قراءات مختلفة لاتفاق باريس بشأن التغير المناخي، تراوحت بين المغالاة في التفاؤل والتحذير من هذه المغالاة، ولكنها أجمعت على أنه في إطار السعي إلى الحدِّ من التغير المناخي واحترار الأرض، فإن هذا الاتفاق يمثِّل أكثر الخطوات تقدماً حتى الآن، خاصة بعد فشل قمة كوبنهاغن للمناخ في عام 2009م.

يُعد اتفاق باريس، الذي أقره ممثلو 195 دولة في ديسمبر الماضي، مبادرة مهمة وشاملة تفوق بروتوكول كيوتو باليابان للعام 1997م الخاص بتثبيت انبعاثات الغازات الدفيئة الذي دخل حيز التنفيذ في فبراير 2005م بمصادقة 183 طرفاً حول العالم.

وتأتي هذه المؤتمرات والاتفاقيات المناخية ضمن معاهدة الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي (UNFCCC)، التي تأسس لها في قمة الأرض في ريو دي جانيرو بالبرازيل في عام 1992م. ومنذ ذلك الحين، يجتمع الأطراف سنوياً للاتفاق على إجراءات للحد من الاحتباس الحراري العالمي. وهذه هي أول مرة تتعهد فيها جميع دول العالم بالحد من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري للحيلولة دون ارتفاع درجات حرارة الأرض إلى مستويات كارثية.

وإلى جانب السياسيين والمفاوضين وكبار رجال الأعمال والمستثمرين والأكاديميين والمشاهير، شارك حوالي 3700 صحافي من جميع أنحاء العالم في تغطية أحداث القمة خلال أسبوعين من المفاوضات المتواصلة. كما شاركت الدول المختلفة، الكبيرة والصغيرة والغنية والفقيرة، إيماناً منها بضرورة حماية الكوكب الذي نعيش فيه جميعاً. ولعبت الدبلوماسية والمشاورات دوراً كبيراً في تقريب وجهات النظر بين الأطراف بهدف التوصل إلى اتفاق، الذي أقرَّ بوجود تغير مناخي مصدره النشاطات البشرية وارتفاع المخاطر الناتجة عن تغير المناخ، كما حمَّل البلدان الصناعية المسؤولية الأولى عن الحد من هذه الظاهرة.

انبعاث الغازات الدفيئة
34شهد عام 2014م إطلاق أكبر كميات من الغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري في عصرنا، وبحسب الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) بلغت الكميات المنبعثة من الغازات الدفيئة من ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروجين والفلوروكاربون حوالي 53 جيجا طن، وهي كميات كبيرة جداً، تفوق ما يحتاجه الغلاف الجوي للحفاظ على درجة حرارة ثابتة لسطح الأرض عند مقدار معيَّن. ويشير الشكل 1 إلى الكميات العالمية لانبعاث ثاني أكسيد الكربون الناتجة عن حرق الوقود الأحفوري من فحم ونفط وغاز طبيعي وإزالة الغابات للفترة بين عامي 1850 إلى 2014م. لقد زادت الانبعاثات بحوالي %90 منذ العام 1970م، ترافقها زيادة في العمليات الصناعية وحرق الوقود الأحفوري تمثل نحو %78 من إجمالي هذه الزيادة. ويتصدر انبعاثات الغازات الدفيئة غاز ثاني أكسيد الكربون بنسبة %67، وهو ناتج بمعظمه عن حرق الفحم والنفط والغاز، يليه غاز الميثان بحوالي %16 نتيجة النشاطات الزراعية وإدارة النفايات، وغاز أكسيد النيتروجين %6 نتيجة استخدام الأسمدة ثم غاز الفلوروكاربون %2 نتيجة العمليات الصناعية والتبريد. ويعبِّر الشكل 2 عن الزيادة في تركيز الغازات الدفيئة في الغلاف الجوي للأرض.

يشير الجدول 1 إلى توزع انبعاثات الغازات الدفيئة في العالم حسب القطاعات المختلفة، يتقدَّمها كما هو متوقع قطاع توليد الكهرباء والتدفئة (%25) والنشاطات الزراعية والغابات (%24) ثم قطاع الصناعة (%21) والنقل والمواصلات (%14). وتصدَّرت قائمة الدول التي تطلق الغازات الدفيئة في العام 2014م الصين (%28) والولايات المتحدة (%16) والاتحاد الأوروبي (%10) والهند (%6) وروسيا (%6) واليابان (%4) وبقية الدول حول العالم (%30).

make-it-work2ويتوقع الخبراء أن يستمر انبعاث الغازات الدفيئة في الزيادة في السنوات المقبلة بمعدل %2.5 سنوياً قبل دخول اتفاق باريس حيز التنفيذ في 2020م. ولتجنب المخاطر التي ستنجم عن ارتفاع متوسط درجات الحرارة العالمية لأكثر من درجتين مئويتين، يتعين العمل على خفض الانبعاثات العالمية السنوية من حوالي 53 جيجا طن من معادل ثاني أكسيد الكربون إلى أقل من 35 جيجا طن بحلول عام 2030م، ثم أقل من 20 جيجا طن بحلول عام 2050م.

بصورة عامة، يؤثر تغير المناخ على البنية التحتية في الدول ومصادر المياه والطاقة والصحة وإدارة النفايات والأمن الغذائي. ومن شأن أي تأثر في أحد هذه القطاعات أن يكون له أثر متسلسل على القطاعات الأخرى، مما يسبب مزيداً من الخسائر الاقتصادية. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن الإنفاق المطلوب يتخطى تريليون دولار سنوياً لمنع انبعاثات الكربون ووقف الارتفاع في درجة الحرارة التي يقول العلماء إنها ستتسبب في غرق المدن الساحلية وتعطّل الزراعة وتدمير النظم البيئية.

اتفاق باريس والهدف المعقول
37يدعو اتفاق باريس جميع الدول، غنيها وفقيرها، إلى التعهد باتخاذ إجراءات بشأن تغير المناخ بهدف معلن وهو الحد من ارتفاع درجة حرارة الأرض إلى أقل بكثير من 2 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الحقبة الصناعية. وتوصلت الأطراف المشاركة في مؤتمر باريس إلى اتفاق عادل وملزم ببعض بنوده يأخذ بعين الاعتبار مقدرات الدول للحد من التغير المناخي ويؤمِّن التوازن المطلوب بين التزامات كافة القوى الاقتصادية الصاعدة مثل الصين والهند. ولم يتم التصويت على الصيغة النهائية للاتفاق لأن الإجماع هو المطلوب في الاتفاقية الإطارية لتغير المناخ. وستتم مراسم توقيع الوثيقة في مقر الأمم المتحدة بنيويورك في 22 أبريل 2016م، وسوف يدخل الاتفاق حيز التنفيذ بعد المصادقة عليه من قبل 55 دولة تطلق ما لا يقل عن %55 من إجمالي الغازات الدفيئة.

تفاصيل التنفيذ
يدعو الاتفاق في طياته إلى تحولات جذرية في تقنيات قطاعي الطاقة والنقل وعشرات المجالات الأخرى. كما تشمل بنوده الرئيسة التزام خفض الانبعاثات والتكيف مع آثار تغير المناخ من فيضانات وموجات حر، والتمويل، والشفافية، والخطوات اللازمة لتعزيز تجارة الكربون. وقد اعتمد المشاركون أساليب موحدة لقياس الانبعاثات والإبلاغ عنها بطريقة شفافة والتزام استعراض التقدم بصورة دورية. وسيتم ترك تفاصيل التنفيذ لكل دولة مع مجموعة من التدابير السياسية المحتملة التي يمكن أن تشمل تشديد اللوائح البيئية، والتحول عن الدعم الحكومي. غير أن الاتفاق لم يشرح إلزامية الاتفاق ومن يحمل الأطراف على التزامها. ولم يتطرق الاتفاق إلى تسعير الكربون إلا في الجزء غير الملزم من النص، الذي جاء فيه أن الدول تقر بأهمية توفير الحوافز لنشاطات تقليص الانبعاثات بما في ذلك أدوات مثل السياسات المحلية وتسعير الكربون مع إمكانية إنشاء آلية لتوزيع الأرصدة، وبدرجة ما تسهيل ربط برامج تداول الانبعاثات المحتملة بين الدول خلال السنوات المقبلة.

1200ونص الاتفاق الذي تضَّمن 29 مادة بأنه يرمي إلى توطيد الاستجابة العالمية للتهديد الذي يشكِّله تغير المناخ في سياق التنمية المستدامة والقضاء على الفقر من خلال عدة وسائل منها الإبقاء على ارتفاع متوسط درجة الحرارة في حدود أقل بكثير من درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الحقبة الصناعية.

وأشار الاتفاق إلى ضرورة أن يكون خفض انبعاثات الغازات مسؤولية الجميع مع تحديد كل طرف للخطوط الحمراء الخاصة به ومع مراجعة ما تم تطبيقه كل خمس سنوات. ودعا الاتفاق في المادة الخامسة منه إلى الحفاظ على خزانات غازات الدفيئة وتعزيزها، مثل الغابات، والعمل على زيادتها لامتصاص انبعاثات هذه الغازات. وسوف يشارك كل طرف من الدول في عمليات تخطيط التكيف وتنفيذ الإجراءات للحد من التأثر بتغير المناخ بغية المساهمة بالتنمية المستدامة. وبموجب الاتفاق سيلتزم عدد من الدول بخفض تدريجي في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العقود المقبلة وزيادة الاستثمار في مزيج الطاقة المتجددة (شمسية ورياح) والطاقة النووية والوقود منخفض الكربون.

كما نص الاتفاق التاريخي على التعاون المشترك بين الدول المتقدِّمة والدول النامية بهدف القيام بمشاريع في هذه الأخيرة بغرض مساعدتها على الوفاء بمتطلبات التنمية المستدامة. وستقوم الدول المتقدمة بتقديم 100 مليار دولار سنوياً للدول النامية لمساعدتها على حماية البيئة ابتداءً من عام 2020م، لتحقيق التقدم الاقتصادي المستدام بالتوازي مع تخفيض الانبعاثات الغازية الدفيئة. وتتعهد الدول المتقدمة بتمويل وتسهيل نشاطات نقل التقنية منها إلى الدول النامية خاصة تلك التقنيات صديقة البيئة في مجالات الطاقة والنقل والمواصلات وغيرها. كما تتعهد الدول المتقدمة بدعم جهود الدول النامية والأقل نمواً في مجالات مواجهة الآثار السلبية للتغير المناخي والتأقلم معها. وأعلنت بعض الدول الأوروبية عن إنشاء صندوق قيمته 500 مليون دولار يهدف إلى مساعدة الدول النامية في تخفيض انبعاثات الغازات الدفيئة.

مشاركة المملكة في المؤتمر
حرصت المملكة خلال مشاركتها في مؤتمر باريس على التأكيد على التزامها العمل مع المجتمع الدولي للحد من الغازات الدفيئة، وتعزيز سبل التكيف مع انعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. وألقى معالي وزير البترول والثروة المعدنية المهندس علي النعيمي كلمة داعياً الأطراف الدولية إلى تبني سياسات لا تتحيز ضد أي مصدر من مصادر الطاقة، وأن يتم النظر إلى هذه المصادر على أنها مكملة – وليست بديلاً – لبعضها. وشدَّد وزير البترول على أهمية مبدأ «المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة» استناداً إلى الأولويات الوطنية وظروف كل دولة، وعلى تحقيق توازن عادل بين متطلبات خفض انبعاثات الغازات الدفيئة، وبين التكيف مع التأثيرات الضارة للتغير المناخي. وفي إطار هذه المبادرة، ستقوم المملكة باتخاذ الإجراءات وتبني الخطط وتنفيذ البرامج الهادفة إلى تسريع وتيرة التنويع الاقتصادي وتحقيق المصالح المشتركة النابعة من تجنب انبعاثات الغازات المسببة لظاهرة الاحتباس الحراري، والتكيف مع تأثيرات التغير المناخي، والتخفيف من آثار إجراءات الاستجابة لهذه الظاهرة والتصدي لها.

35ومن جهته، أوضح رئيس وفد خبراء المملكة إلى مؤتمر التغير المناخي المهندس خالد أبو الليف أن موقف المملكة يرتكز على ثلاثة مبادئ يكمل بعضها بعضاً، وهي السعي إلى تطوير كفاءة استخدام مصادر الطاقة التقليدية وجعلها أقل تلويثاً مما كانت عليه من قبل، والحرص، في الوقت نفسه، على تعزيز آلية الاستثمار في تقنيات الطاقة النظيفة، وتعزيز الاستثمارات في الموارد البشرية وفي المعارف والتكنولوجيا التي ستسمح بتحقيق أهداف اتفاقيات المناخ وكذلك تعزيز أهداف التنمية المستدامة. وتلحّ المملكة منذ سنوات، في إطار مفاوضات اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول المناخ، على تفعيل مبدأ «التضامن المناخي» الذي يفرض على البلدان الصناعية الكبرى المتسببة بشكل أساسي، تاريخياً وحالياً، في تفاقم مشكلة غازات الدفيئة مساعدة البلدان النامية على الاستعداد عبر المعرفة والتقنية لمرحلة الاعتماد الجزئي على مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة. وعلى المستوى المحلي ثمة برامج متعددة تديرها المملكة في هذا السياق وتتضمن برنامج رفع كفاءة الطاقة، والاستثمار في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وبرنامج احتجاز الكربون وتخزينه، ومشروع الاستخلاص المعزز للنفط، والتحوُّل من الوقود السائل إلى الغاز، وهي جميعها تصب في رؤية المملكة الساعية إلى خفض الانبعاثات باعتبارها وسيلة لمكافحة تغير المناخ ودعم برامج التنمية المستدامة.

وللتعاون والابتكار دورهما
نص اتفاق باريس في مادتيه السابعة والعاشرة على أهمية التعاون في مجالات تطوير التعليم وبرامج التدريب والتوعية العامة في مجال التغير المناخي. ويدعو الاتفاق إلى إقامة نظم ومناهج بحث لتقدير انبعاثات الغازات الدفيئة، وكذلك دراسة الآثار السلبية الناجمة عنها، والتبعات الاقتصادية والاجتماعية لمختلف سياسات مواجهة المشكلة. وسوف تتبادل الأطراف رؤية طويلة الأجل بشأن أهمية تحقيق هدف تطوير التقنية ونقلها لتحسين القدرة على تحمل تغير المناخ وخفض انبعاثات الغازات الدفيئة. كما يهيئ الاتفاق الساحة للاقتصاديات العالمية لتنمو وتعمل على تسريع ابتكار تقنيات صديقة للبيئة من خلال التركيز على تقنيات الطاقة النظيفة مما يشجِّع الاستثمار في هذا المجال.

وخلال فعاليات المؤتمر تم الإعلان عن مبادرتين من بعض الدول لدعم وتسريع «مهمة الابتكار» التي تركز على التقنية النظيفة. وكانت المملكة إحدى الدول المؤسسة لهذه المبادرة التي تُعنى بتنشيط جهود البحث من قبل الحكومات والقطاع الخاص في مجال الطاقة النظيفة على مستوى العالم بهدف توفير طاقة نظيفة بأسعار معقولة. والمبادرة الثانية هي «التحالف الدولي للطاقة الشمسية» الذي يهدف إلى تطوير ورفع كفاءة تقنيات الطاقة الشمسية. وتتطلب المبادرتان مضاعفة حجم الميزانية المخصصة للبحث والتطوير بهدف زيادة انتشار الطاقة النظيفة بحلول العام 2020م.

وفي إطار جهود البحث والتطوير، نشير إلى أن جامعة الملك فهد للبترول والمعادن كانت سباقة في الاستثمار في البحوث البيئية والتعاون الدولي في مجال المياه والطاقة النظيفة. ولهذا الغرض أنشأت الجامعة عدة مراكز بحث بدعم من وزارة التعليم ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية لتطوير تقنيات الطاقة المتجددة والتحكم بالكربون بحجزه وتخزينه وتحويله إلى مواد كيماوية ذات قيمة مضافة. كما تتعاون الجامعة مع أرامكو السعودية ومعهد ماساشوتستس للتقنية وغيرها من الجامعات العالمية في تطوير تقنيات للطاقة النظيفة الخضراء مما يساهم في إيجاد بيئة مستدامة تحافظ على الثروات البيئية للأجيال القادمة وتعود بالنفع على المملكة والمنطقة والعالم أجمع.

أضف تعليق

التعليقات