أقول شعراً

أنا..

والميناء

استمع للقصيدة

zamananكان من المفترض أن أكون في تلك الليلة بالرياض.. مع عادل الحوشان للإيفاء بوعد كنت قد اقترفته بالسلام عليه وإنجاز بعض الأعمال والمحاولات التي تقاوم العدم معه.

«طالما كان يُطلق على الكتابة أسماء غريبة، ووحشية أحياناً!» لكن القدر والظروف العابسة، أبتْ إلا أن أكون تائهاً في البحرين، أعدّ القوارب الخشبية على شاطئها في الصباح الباكر، وأحدّق في منارة قديمة، ما زالت تصارع الزمن الغاشم وتستقيم كسبابة للوجود!.

كنتُ قد سافرت تلك الأيام، إلى المنطقة الشرقية لعمل ما، أنجزته، وبدلاً من ذهابي إلى الرياض كما كنتُ أخطط، ذهبتُ إلى البحرين. وقضيتُ هناك يومين، انتهت بعدها إجازتي، وصار من الصعب ذهابي للرياض.

في ذلك الصباح البحريني الساكن، وصلتني رسالة من هذا الصديق، كان قد أرسلها قبل ساعات يسأل عن ساعة قدومي، ولم أتمكن من رؤيتها إلا متأخراً وأنا على إحدى صخور ذلك المرفأ المهجور الذي لا أعرف اسمه، وتوقفت عنده بعد أن لفتتني هيئته القديمة، والهدوء الذي يخيّم على أرجائه حتى الأمواج قِبالته كانت وديعة وتضربه كما لو كان جثة!

أكثر الرسائل مودة ومحبة في العالم مهما كان طولها أو قصرها كان يكتبها هو و«كافكا». حتى إن أيقوناته لا تبدو وجوهاً معبّرة عن حالة مزاجية ما، بل كأنها تتحدث وتقفز وتخرج من الحدائق والملاهي.. عندما قرأت رسالته أيقنت أنني في «البحرين» لسببٍ لا أعرفه حتى أنا، سبب غامض تماماً، وخاطئ لا يمكن تبريره لنفسي قبل تبريره له، أنا الذي كان يجب أن أردّ على رسالته بأن ينتظرني بعد ساعتين أو ثلاث. لم أستطع أن أرد عليه حين قرأتها، وجلستُ على تلك الصخور المتراكمة بعشوائية وغربة، ونبتت من بينها شجرة لا أعرف كيف استطاعت إلى ذلك سبيلاً، أو كيف تحمّلت تلك الكدمات في ساقها. كان الوقت في حوالي الساعة السادسة صباحاً، جلست حوالي الساعة ونصف الساعة، عبرتُ بعيني تفاصيل ذلك المكان، وهجستُ إلى أثاثه الزمني الرثّ: كم من الخيبات مرّت عليك؟!

لا أعلم إذا كانت الشطآن والمرافئ تستطيع أن تفهم هواجس بدوي مثلي، أو أنني أفهمها كما يجب، لا أعلم إذا كنّا سنتفق إذا فهمنا بعضنا، أو سنختلف وينبري كلٌ منّا إلى تراثه المديد. ما أعرفه.. أنّ أكثر خلايا جسدي ذلك الحين تعلم أنني خُنتُ قلبي وذائقتي ولم أكن في بيته بالرياض، أجلسُ في ذلك القسم المنخفض من صالته الفسيحة والأنيقة بجانب مكتبة الكتب النادرة واللوحات المعلَّقة كأوجاع، أضحك معه بصخب على «فوبيا» النظافة التي تداهمه كلما سكبنا الشاي، أو مرّ بنا الأطفال.

كنتُ أتسرّب إلى المكان متمنياً لو كان هو هنا أيضاً، ربما كنّا سنتحدث عن هذه التفاصيل كمجانين، أو نقوم برجم قارب خشبي لا يقطنه أحد وسندّعي أننا نوقظه من سباته أو نؤنس وحشته أو نقتل حسرة تُوجِعه ما زالت تستقيم فوقه كقرصان!

بحثتُ في جيوبي عن أي ورقة ولم أجد إلا قطعة الورق المقوّى والمصفودة، التي تُدسّ فيها مفاتيح الفندق الإلكترونية وكتبتُ عليها هذا النص، ولم أبعثه إلى أكثر الناس رحابة ورقّة.. إلا بعد وقت طويل نكاية بقذائف الوقت التي تضرب خاصرة الوعود!.

شعر صالح زمانان

الميناء

إلى عادل الحوشان..

الذي درّبني أنْ أكونَ ذئباً يلعقُ جراحه ويعضّها في رؤوس الجبال. ولأنه أول ذئاب العالم التي نَبَتَ الشيبُ في سواعدِها، واستقال من مهنة الهرولة؛ حتى إذا ما هبط موسم الكآبة صار يقفز القمم والهضاب, فيعلو.. يعلو.. إلى أنْ يغرسَ مخلبه في أصداغ قمر، ويعوي في قلبه.

لأنه كذلك.. فقد سبقنِي ذات ليلٍ حزين.. غابَ عني خلف السفحِ الطويل المظلم كنيزك، فأضعتُ الدرب السارب للعواء.. وانتهيتُ على أحجار ميناء قديم, خلفه أزرقٌ مهيبٌ لا توجعه المخالب، ويوجع الفتى!

النورس

النورس أكثر الحزانى في الميناء
يظنُ أنّ المنارة أيقونته المُعذبة
وأنّ شراع السفينة.. أُمه الأولى
لهذا ظل مرابطاً حول المقاهي والصيادين
يصلي لآلهته المتحجرة
ويكمّد جراح أمه بعد طِعان العواصف
….
يا للمأساة يا للمأساة
أيها الذئب الذي نبتَ الشيبُ بساعدِه
المنارات والسفن والنوارس
كي يدلوا طريق الغناء عن الكآبة
ينقصهم عواؤك في القمر
..
أما البحر
فوحدهُ
راضٍ بركل الريح
مهزوم قبل البدء
سعيدٌ
مستريحٌ في زُرقة الأبد !

المنارة

منارة الميناء
لا تعجبها استقامتها
يؤلمها قَوَام الحجر
وتصلبات الملح في أسفلها
وكلما فتحت عينها المضيئة
في دروب السفن العائدة
آمنتْ
أنها بومة البحار

السفينة

تلك السفينة التي أرشدتها المنارة
تكرهُ طريق السفر الخالي من الأشجار
تعاني منذ سنوات طِوال
من دوارِ البحر
تئِنُّ كلما ربطوها في شاطئ
وتتمنى لو كانت نورساً عند المنارات
نورساً.. قد يرديه طفل بهيج
وأنْ لا تكون تابوتاً للأسماك
ولعنة للموتى والعاشقين
وفريسة منتظرة لأعاصير نائية

أضف تعليق

التعليقات