عين وعدسة

أمام زهور التيوليب

في حديقة كيوكنهوف الهولندية

في فصل الربيع من كل عام، يتدفَّق مئات الآلاف من السياح على حديقة كيوكنهوف في هولندا للاستمتاع بمنظر اشترك في زراعته يدوياً عشرات وربما مئات المزارعين: 7 ملايين زهرة على مساحة 32 هكتاراً. تتربَّع على عرشها زهرة التيوليب التي كانت ولا تزال من أبرز معالم تلك البلاد ورموزها. فما من زائر لهولنـدا إلا ويقتنــي تذكاراً يحمل بشكل أو بآخر صورة هذه الزهــرة التي صار اسمها مقترناً باسم البلاد. فكيف الحال إذا تسنَّى له زيارة أكبر حديقة زهور في البلاد، وفي أيام تفتُّحها بالذات؟

سجا العبدلي
عقدنا العزم على زيارة  كيوكنهوف لأكثر من سبب. فقد كانت لدينا الرغبة في رؤية حدائق الزهور التي لطالما شاهدنا صورها في المجلَّات مشفوعة بوصفها على أنها من أبرز معالم هولندا السياحية. حتى قيل إن استطلاع عالم الزهور، وخاصة زهرة التيوليب، هو واحد من مقومات التعرف على ثقافة الشعب الهولندي. ولأن زيارتنا إلى هولندا صادفت هذه المرَّة فصل الربيع، وهي الفترة الوحيدة في السنة التي تفتح فيها حديقة كيوكنهوف أبوابها، بــدت لنا فرصــة زيارتها مناسبـة لن تتكرَّر بسهولة.
توجَّهنا إلى مدينة (ليس) التي تحتضن حديقة كيوكنهوف. وعلى الطريق إليها، كان من الصعب حقاً إزاحة نظرنا عن جنبات الطريق الذي بدا وكأنه زُيّن لاستقبال رئيس دولة ما. فمعظم الأراضي التي عبرناها كانت مزروعة بالتيوليب، وكأن أصحابها دخلوا في مسابقة لأجمل محاصيل هذه الزهرة. فالألوان الزاهية التي لا حصر لها ولا عدّ ظلت رفيقة دربنا حتى وصولنا إلى كيوكنهوف.
لقد توارث الهولنديون حُب الأزهار عن أجدادهم، وهذا ما يتأكَّد منه الزائر وخصوصاً  في فصل الربيع، الفصل الذي يترقبه السياح وسكان هولندا ليشهدوا افتتاح حديقة كيوكنهوف التي تعرف باسم “حديقة أوروبا”، في الفترة الممتدة من منتصف مارس حتى منتصف مايو فقط  من كل عام. ويُعد شهر أبريل أفضل الأوقات لزيارتها نظراً لاكتمال تفتح جميع أنواع الزهور فيها وخصوصاً التيوليب.

الزهور في حديقة كيوكنهوف لا تلمس، ولا تقطف. وهذا مضمون في غياب أي حسيب أو رقيب. فالزوَّار يكتفون فقط بالتمتع بجمال الحديقة، واستنشاق الروائح العطرية التيتفوح من الأزهار وتختلط بالهواء.

إنها واحدة من أكبر وأهم وأجمل حدائق الزهور في العالم. فيها 2500 شجرة من 87 نوعاً و 15 كيلومتراً من ممرات المشاة المزينَّة بالورود. وليس منظر الزهور وحده الذي يخطف الأنظار، بل هناك أيضاً البحيرات التي تتوسَّط هذه الحديقة، حيث تسبح فيها أنواع مختلفة من البط والأوز بكل حرية ومن دون مضايقة من أحد. الزهور هناك أيضاً لا تلمس، ولا تقطف. وهذا مضمون في غياب أي حسيب أو رقيب. فالزوار يكتفون فقط بالتمتع بجمال الحديقة، واستنشاق الروائح العطرية التي  تفوح من الأزهار وتختلط بالهواء، ليخال الزائر لوهلة أنه في قلب مصنع للعطور الفرنسية. وهذا يرجع بالطبع إلى الثقافة التي اكتسبها الأوروبيون في المحافظة على الممتلكات العامة والبيئة والرفق بالحيوان. مما جعلنا نسأل : أما من حرَّاس يحرسون هذه الأزهار من الزوَّار؟

عبق التيوليب الهولندي
كان من الطبيعي أن نتوقَّف أمام زهور التيوليب الرائعة بألوانها المختلفة، لاستنطاق تاريخها علّ في ذلك ما يفسِّر حضورها القوي في ثقافة البلاد. فالفنَّانون الهولنديون الذين ابتكروا رسم “الطبيعة الصامتة” وكانوا أساتذته منذ القرن السابع عشر وحتى اليوم، حرصوا على حضور زهرة التيوليب في أية مزهرية رسموها. قد تكون المسألة مسألة مزاج وذائقة فنية مرهفة. ولكن إلى جانب ذلك، هناك تاريخ عزَّز أواصر العلاقة ما بين الهولنديين وهذه الزهرة.
يقول تاريخ زهرة التيوليب إن العثمانيين كانوا أول من زرعها في بلادهم، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى الكلمة التركية “تولبند” التي ترمز للجمال. أما في هولندا، فيعود الفضل في انتشارها إلى شخص يدعى كارولوس كلوسيوس كان يجمع كثيراً من الأزهار من حول العالم ويزرعها في بلاده، ومن ضمنها التيوليب التي كانت لها مكانة خاصة في قلبه دفعته إلى تأليف كتاب عنها.
يُعدّ كتاب كلوسيوس هذا، الذي نشر عام 1592، من أهم العوامل التي أدت إلى شهرة التيوليب. وصار الكل يحرص على زراعتها واقتنائها في مختلف أرجاء البلاد. وبحلول القرن السابع عشر، ارتفع سعر هذه الزهرة بشكل مبالغ فيه، حتى إنها صارت تُستبدل بالعملة النقدية وبالأراضي والبيوت والمواشي، في ظاهرة وصفت بالفقاعة الاقتصادية، وسميت حينها “توليبومانيا”. كما أن أبصال التيوليب دخلت في السوق المالي وتسابق الجميع على اقتنائها والمتاجرة بها. ولكن هذه الفقاعة لم تستمر طويلاً، وكثير من التجار الذين استثمروا أموالهم وممتلكاتهم في هذه الزهرة وجدوا أنفسهم مفلسين بين ليلة وضحاها بعد أن فقدت قيمتها وأصبح امتلاكها لا يكلِّف شيئاً.  لكن هذا كله لم يفقد هذه الزهرة ألقها وجمالها ولم يكفّ أحد عن زراعتها.

تاريخ هذه الحديقة
وفي عودة إلى حديقة كيوكنهوف، ونظراً لما لهذه الحديقة من جمال خاص وترتيب هندسي ينم عن ذوق رفيع وعناية خاصة، كان لا بدّ من استطلاع تاريخها قليلاً، لنكتشف أن لهذه الحديقة تاريخاً طويلاً يعود إلى القرن التاسع عشر ففي ذلك الحين، عيّن كل من البارون والبارونة فان بالدانت  مهندسين للمناظر الطبيعية هما جان ديفيد زوشر الذي صمم أيضاً حديقة فوندلبارك في أمستردام، وابنه لويس بول زوشر، ليتوليا مهمة تصميم الأرض المحيطة بقلعة كيوكنهوف المبنية عام 1641، كي تصبح نواة لحديقة كبيرة. وهذا ما حصل. فقد أبدع المهندسان في  تصميمها وترتيب شكلها. وهي الأرض التي أصبحت تُعرف لاحقاً بحديقة “كيوكنهوف” أي “حديقة المطبخ”، لأن عمال القلعة كانوا يجمعون الخضار والفواكه من هذه الأرض.
وبعد مرور سنوات طويلة، لم تعد هذه الحديقة تابعة للقلعة، فقرَّر عمدة مدينة (ليس) إعلانها رسمياً حديقة عامة، لتصبح قبلة للزوَّار من كل أنحاء العالم. وكان ذلك في عام 1950 حيث نظَّم العمدة وبعض المزارعين معرضاً للزهور سموه “معرض زهرة الهواء الطلق”. وكان الهدف منه البدء بتشجيع المزارعين على عرض منتجاتهم من الزهور وفتح المجال أمامهم لتصديرها إلى كافة أرجاء العالم. وبعد نجاح هذا الحدث، أصبح هذا المعرض يتكرَّر سنوياً، وتحوَّل إلى مزار ربيعي يتكرَّر كل عام.

مزرعة كيوكنهوف ومتاهتها الخضراء
لم ينس منظمو هذه الحديقة والمشرفون عليها الأطفال الذين يرافقون أهلهم إلى كيوكنهوف. فهناك مساحة مخصصة لترفيههم، حيث يتمتعون بوقت مُسلٍّ  في المزرعة التي أقيمت خصيصاً لهم، وتحتوي على أنواع مختلفة من الحيوانات الأليفة التي تستهوي الأطفال والكبار في آن. فهناك تشاهد الأرنب الهولندي الذي يتميز بضخامته مقارنة بحجم الأرنب الذي تعودنا رؤيته في بلادنا العربية. وهناك الطاووس أيضاً من الحيوانات التي يحرص منظمو هذه الحديقة على أن يكون من عناصرها الجمالية الحاضرة دائماً فيها. وعلى مقربة من ذلك، يتسابق الأطفال والكبار للدخول إلى المتاهة الخضراء التي تنتهي بالصعود إلى البرج، حيث يمكن للزائر أن يشاهد  كيوكنهوف من فوق. وغني عن القول إن هناك منطقة استراحة خصِّصت  لشرب الشاي والقهوة والمأكولات الخفيفة، تمكّن الزائر من التقاط أنفاسه بعدما يكون قد تجوَّل لساعات وقطع مشياً مسافة تقاس بالكيلومترات بين الزهور.

جوار الحديقة ليس أقل شأناً
تحيط بهذه الحديقة مساحات كبيرة من الأراضي المملوكة من جهات خاصة ومزروعة في معظمها بزهور التيوليب من كافة الألوان، ولا يسمح لزوار الحديقة بدخولها. ولكن، يبدو أنَّ لا أحد من هؤلاء استطاع مقاومة جاذبية هذه المناظر. فعلى جانبي الطريق المؤدي إلى كيوكنهوف، تجد السيارات تتوقَّف ليلتقط الركاب صوراً تذكارية مع المساحات الكبيرة المزروعة بالتيوليب. ولوهلة، يظن الناظر أن ما  يراه ما هو إلا سجَّادات ملوَّنة مزخرفة بطريقة احترافية. وفي هذا المجال، لا بدّ من الإشارة إلى أن حديقة كيوكنهوف تشكِّل لكثيرين من زوارها إلهاماً يساعدهم على تنسيق حدائقهم الخاصة، وذلك لما تعرضه من أفكار مبتكرة وأساليب جديدة ومتنوِّعة في ترتيب المساحات الخضراء الخاصة بهم. حتى إن الفنَّانين تسابقوا على رسمها، كل على طريقته. ويوجد داخل نطاق الحديقة جانب مخصَّص لعرض لوحات لفنَّانين  تفنَّنوا في رسمها وما احتوته من أزهار.
حظيت كيوكنهوف الجميلة، التي استقبلت أكثر من 44 مليون زائر في السنوات الستين  الماضية، بجوائز عديدة. منها جائزة أوروبا لأكثر المناطق القيّمة ذات الجاذبية. ونجحت في أن تكون من أكثر الأماكن التي التقطتها عدسات المصورين من هواة ومحترفين على حدٍّ سواء.  كما يمكن القول إنها حظيت وتحظى بأكثر من ذلك: الجاذبية التي لا تقاوم وتغمر كل من يزورها مرة، فتجعله يحلم بالعودة إليها مرة أخرى. وهو أمـر لا يمكن تفسيره ولا مقارنته بأفضل الجوائز!

التيوليب والفقاعة…!
انتقلت زراعة زهرة التيوليب إلى هولندا في أواخر العام 1500 ونمت زراعتها وزادت شعبيتها حتى أصبحت رمزاً للمكانة بين الطبقات المتوسطة الهولندية.
لأسباب غير معروفة سرعان ما أصيبت الزهرة بفيروس، مما أدَّى إلى ظهور بتلات جميلة متعدِّدة الألوان. وكان اكتشاف أزهار التيوليب الجديدة بألوانها المختلفة سبباً للتنـافس على زراعتها والمتاجرة بها، وقد تم تصنيفها وفقاً لندرتها، قبل ظهور علوم الاستنبات التي تمكّن المـزارع من منح اللون الذي يريده لزهوره، ففي ذلك الوقت كان الاعتماد على الاستنبات الطبيعي للزهور، وكان بعض الألوان تظهر فجأة وبندرة.
ارتفع الطلب بشكل كبير في العام 1630 على تلك الزهور وشهدت أسعارها ارتفاعاً ملحوظاً، فحقَّق البعض ثروات طائلة من تجارة زهرة التيوليب وانتقلت عدوى التجارة بها إلى سائر الهولنديين. ووصل الأمر إلى حدّ توقيع عقود رسمية لشراء الزهور قبل زراعتها أو قطافها وعادة ما كان يحدث ذلك في نهاية الموسم، بانتظار الموسم الجديد.
فارتفعت الأسعار بشدة لدرجة أن كثيرين استخدموا أملاكهم ومدخراتهم، للحصول على الزهور المحلية ثم بيعها في السوق الأوروبية بأسعار أعلى.
بلغت الأسعار ذروتها في نهاية العام 1636 وكانت أسعاراً مبالغاً بها، فسارع كثيرون إلى بيع ما بين أيديهم أو ما تعاقدوا على شرائه من الزهرة طمعاً في جني أرباح وفيرة. وبحلول فبراير 1637 اكتسح الباعة الأسواق مما أدَّى إلى هبوط سعر زهرة التيوليب هبوطاً كبيراً بسبب كثافة العرض مقابل قلة الطلب. فعمّ الذعر والهلع في الأسواق، بل إن كثيرين من الذين وقَّعوا عقود تسليم زهور التيوليب في المستقبل رفضوا دفع المبلغ المتفق عليه مسبقاً نظراً لانخفاض قيمة الزهرة. واضطر بعض المضاربين إلى مواجهة حقيقة أنهم قاموا بدفع كل ما يملكونه مقابل شيء صار الآن بلا قيمة.
كان لفقاعة التيوليب هذه عواقب مالية واسعة النطاق، مما تسبَّب في انتشار مرض “الحذر” لدى الهولنديين من القيام بمثل هذه الاستثمارات.

 

 

أضف تعليق

التعليقات