طاقة واقتصاد

أستاذ جامعي ومريض عقلي
وراء تأليف قاموس أوكسفورد!

هي قصة واقعية امتزج فيها القتل والجنون والعبقرية في خلطةٍ عجيبة أفضت في النهاية إلى تأليف واحد من أمهات الكتب في اللغة الإنجليزية، وهو قاموس أوكسفورد الإنجليزي. بطلا هذه القصة هما أستاذ جامعي مغمور وآخر قاتل ومجنون. رافقوا فيان الخفاجي في استعراض لا يخلُ من الغرابة والمتعة للتعرف إلى قصة تأليف هذا القاموس الذي يُعدّ أحد أركان اللغة الإنجليزية.

عندما وقعت عيناي على هذا الكتاب، لم أتخيّل للحظة أنه يتعدى كونه مجرد كتاب سرد لسيرة شخص ما أو لصناعة قاموس، وانتهى بي الأمر أن قرأتُه ثلاث مراتٍ. إن قصة تأليف قاموس أوكسفورد ربما تُعد واحدة من أغرب القصص الأدبية في العصر الحديث، وأغرب ما فيها هو اللقاء المحتوم الأول الذي جرى في عام 1896م بين جيمس موراي، وهو محرر قاموس أوكسفورد الإنجليزي، والدكتور وليم شيستر ماينر، وهو أبرز وأفضل من أسهم في تجميع وتأليف مواد القاموس، بعد أن ظلا يتبادلان الرسائل لـمدة 20 عاماً دون أن يلتقي أحدهما الآخر. أول من سرد القصة هو الصحافي الأمريكي هايدن شيرش في عام 1915م ولكنها كانت خالية من التشويق والتفاصيل، ومكثت هذه القصة ووثائقها الخاصة سرية للغاية ومحفوظة لدى الحكومتين البريطانية والأمريكية لسنوات عدة، واستطاع كاتب هذا الكتاب، سايمون وينشستر أخيراً الحصول على جميع الموافقات للاطلاع على تفاصيلها المدهشة ومن ثم نشرها.

قاموس أوكسفورد
حسب تعليق أحد الكتّاب، قبل صدور الطبعة الأولى من قاموس أوكسفورد الإنجليزي في ليلة رأس السنة من عام 1927م، لم تكن للغة الإنجليزية قواعد أو كلمات ثابتة ومعلومة، ولم تكن لدينا بوصلة لغوية نسير على ضوئها، لذا كان قاموس أوكسفورد منارة ثقافية وأدبية فذة استعنا بها وساعدتنا في اكتشاف بحور الكلمات واللغة. وهكذا فإن قاموس أوكسفورد الإنجليزي يعدّ واحداً من أعظم الإنجازات الأدبية والتعليمية والثقافية في تاريخ الأدب الإنجليزي والعالمي.
بدأت ملحمة تأليفه في عام 1857م ولم ينته تأليفه إلا بعد سبعين عاماً. وكان بحق ثروة عظيمة لأنه يضم بين أوراقه حصيلة أعمال آلاف من الكتّاب والعلماء والأدباء وقدَّم للعالم أكثر من 414,825 تعريفاً دقيقاً. كان المبدأ الرئيس الذي يقوم عليه هذا القاموس هو شرح كل كلمة وأن تكون مدعومة بست مقولات أو أمثلة على الأقل، وتكون مقتبسة من أشهر كتب الأدب الإنجليزي، مع بيان المعاني والمرادفات المختلفة لكل كلمة.
الجدير بالذكر أنه لم يكن يوجد قاموس في زمن وليم شكسبير، وكانت الكلمات تُرّتب وفق موضوعاتها وليس هجائياً. وعلى الرغم من أن اللغة الإنجليزية كانت شفهية وكتابية إلا أنها لم تكن محددة المعالم والكلمات متداخلة مع بعضها وغير ثابتة وتتغير من يوم إلى يوم حسب احتياجات البريطانيين اليومية.
ولكن ما أصل الكلمات أو مِمَّ تتكون، ومن ألّف قاموس أوكسفورد الضخم؟ آنذاك لا أحد كان يعرف! ولكن في عام 1857م، تقدَّم الآلاف من المتطوعين للعمل على هذا المشروع الوطني ولم يستطع كثير منهم الصمود طويلاً وكانت إسهاماتهم محدودة جداً وغير منظمة وتتوقف بعد حين بسبب صعوبة هذه المهمة، أو عدم توافر الوقت والإمكانات المالية اللازمة. ولكن الفضل الحقيقي في تأليف القاموس يعود إلى رجلين اثنين، هما البروفيسور جيمس موراي، وهو مدّرس ومصرفي ومحرر وواضع القواعد الأولى لكتابة القاموس، ووليم ماينر، وهو جراح وضابط أمريكي وقاتل ومجنون. ظل هذان الرجلان يتراسلان لأكثر من 20 عاماً ولم يلتقيا قطّ، ولم يكن لأحد في لجنة أوكسفورد أن يتخيل للحظة أن يكون د. ماينر المسهم الأكبر في قاموس أوكسفورد سجيناً يعيش في زنزانة ضيقة في مستشفى للأمراض العقلية!.
لم تخلُ قصة تعارف هذين الرجلين وحياتهما من الدهشة والغموض والتي كانت وراء هذا المسعى التاريخي العظيم. مزج المؤلف وينشستر بين حاضر الأحداث وماضيها بذكاء بالغ وهذا ما دفعني، وأنا أكتب هذا العرض، إلى أن أقلب الصفحات جيئة وذهاباً عدة مرات لأربط بين الأحداث ولكن هذه الانتقالات الكثيرة والمشوقة بين الماضي والحاضر زادت من حدة الأحداث ومتعة الترقب.

البروفيسور جيمس موراي
ولد موراي في عام 1837م، وكان يرى نفسه «نكرة» أو «وجود كمّي غير منطقي»، كما كتب عن نفسه ذات مرة، حتى بعد أن ذاع صيته كمحرر لقاموس أوكسفورد ونال جائزة الشرف من الملكة فيكتوريا على أثر صدور الطبعة الأولى من القاموس. ولد موراي في أسرة فقيرة معدمة واضطر إلى ترك الدراسة في الرابعة عشرة من عمره، وكان مولعاً بالقراءة وأتقن الألمانية واليونانية واللاتينية والفرنسية، وهو لا يزال في الخامسة عشرة. امتهن عدداً من الأعمال لكي يكسب رزقه حتى أنه لم يتوانَ عن تعليم الأبقار في بلدته اللغة اللاتينية لكي تستجيب لصيحات مناداتها بهذه اللغة! فكان يقرأ لها نهاراً وليلاً على ضوء مصباح الزيت. ولكنه وجد ضالته في مهنة التعليم ومعرفة أصول الكلمات وأسرار اللغة وعلم الأصوات. وكان يعتني بزوجته المريضة وأطفاله كما كان يعمل في وظيفة إضافية كمصرفي في لندن.

المجنون
وهو الدكتور وليم ماينر. ولد عام 1834م في سيلان (سريلانكا حالياً) لوالدين ثريين جاءا لهذا المكان البعيد من العالم في حملة تبشيرية. كان ماينر أبرز شخص أسهم في جمع وشرح الآلاف من الكلمات في قاموس أوكسفورد. في طفولته كان مولعاً باللغات، وفي سن الثانية عشرة كان يتقن خمس لغات مختلفة. وكان طبيباً جراحاً وقائداً في الجيش الأمريكي إبان الحرب الأهلية، وخريج جامعة ييل الأمريكية العريقة. ولكن ماينر لم يكن إنساناً اعتيادياً، فقد كان قاتلاً ومجنوناً وقضى أكثر من 37 عاماً من حياته في غياهب مستشفى بريطاني للمجانين يضم عتاة المجرمين والقتلة. ولكن ذلك لم يمنعه من الولع بالقراءة والبحث عن كلمات جديدة في الكتب الإنجليزية القديمة. وكان يبعث موراي من غرفته في المستشفى لأكثر من 20 عاماً بآلاف الرسائل المنظمة والمنمّقة عبر البريد، والتي كانت تحتوي على شروحات الآلاف من الكلمات.
كان ماينر مصاباً بالشيزوفرينيا ورُهاب الأيرلنديين وعديد من الوساوس والأمراض النفسية الأخرى التي بدأت بالظهور عليه جرَّاء تعرضه للكثير من المناظر المؤلمة إبان الحرب، وما زاد الطين بلة أنه أجبر، خلال الحرب الأهلية على وسم وجه أحد الإيرلنديين بمكواة ساخنة (في تلك الفترة، كان الجيش الأمريكي يستعين بمرتزقة إيرلنديين، وفي حالة هروب أحدهم من ساحة المعركة كانوا يكوونه كالماشية بمكواة ساخنة على خده أو ظهره بحرف (D) أي الهارب كإشارة على جُبنه). وعندما تقاعد من الجيش، انتدبه الجيش الأمريكي إلى بريطانيا، لم تكن بوادر الجنون ظاهرة عليه جداً إلى أن أردى أحد الإيرلنديين قتيلاً بسلاحه دون أي سبب سوى أنه كان إيرلندياً (يقال إنه كان يتخيل أن الإيرلنديين سيأتون لقتله في غرفته). والمثير للسخرية أن ماينر ظل طوال حياته يعول زوجة ضحيته وأطفالها السبعة، وكانت هي تشفق عليه وتجلب له الكتب والصحف التي استعان بها في سعيه لجمع مفردات القاموس.

اللقاء المحتوم
على الرغم من عدم وجود أدلة مادية على اللقاء، ولكن المؤلف استقى تفاصيله من الأوراق القديمة التي وجدت في منزل موراي والحكومتين البريطانية والأمريكية ولدى حفيدته. أرسل موراي، الذي كان يترأس لجنة صناعة قاموس أوكسفورد، العديد من الدعوات لماينر لزيارته في مدينة أوكسفورد وحضور الاحتفال الكبير الذي ستحضره الملكة فيكتوريا بسبب صدور قاموس أكسفورد. إلا أن ماينر رفض جميع الدعوات بحجة المرض أو العمل.
وبعد الاحتفال قرر موراي أن يقوم بالزيارة بنفسه، وبالفعل توجه إلى العنوان المكتوب على الرسائل وعندما وصل إلى مدينة برودمور اكتشف أن العنوان هو: «مستشفى كراوثورن» الذي أنشئ لتأهيل عتاة المجرمين والقتلة والمجانين. ظن موراي أن ماينر قد يكون موظفاً فيها أو ربما مدير المستشفى، لأن الرسائل كانت تعكس روح كاتبها الذي كان على قدر كبير من الثقافة والتنظيم. لم يكن موراي مستعداً أبداً للمفاجأة عندما أخبره المدير أن ماينر أقدم مريض في المستشفى، وأنه قاتل ومختل عقلياً وأنه مسجون في المستشفى بانتظار قرار الملكة للنظر في أمره وتسليمه إلى حكومة الولايات المتحدة الأمريكية. تعددت اللقاءات بين الرجلين في السنوات اللاحقة وتكوّنت صداقة غريبة بينهما، فكانا متشابهين من حيث المظهر وفي الطبائع كذلك. وكانا يقضيان ساعات طوال في مناقشة أصول الكلمات والأدب أو تأمل الطبيعة ومناقشة طبيعة أمراض ماينر الذي لم تكن تخفى على موراي كما ناقشا وساوس هذا الرجل وعاداته الشديدة الغرابة.

وثائق سرية
لم يكن تأليف كتاب «الأستاذ والمجنون» أمراً سهلاً أبداً، فقد اعتمد وينشستر في مشروع التأليف بشكل كامل على تحقيقات الشرطة وتقارير عسكرية والتقارير الطبية والرسائل القديمة التي تبادلها الرجلان والمقابلات الشخصية والتي عُرضت وكُتبت بطريقة مشوقة لم تخلُ من الغموض والترقب والتي ظلت سرية لدى الحكومتين البريطانية والأمريكية لوقت طويل إلى أن سُمح للكاتب بالإطلاع عليها ونشر بعضها.
ومن سخرية القدر أن قاموس أوكسفورد الذي يُشار إليه اليوم على أنه «المعقل الأخير والرئيس للثقافة الإنجليزية، والصدى الأخير للقيمة المستقاة من عظمة وعبقرية جميع الإمبراطوريات الحديثة» يعكس تماماً عدم ثبات الإنجليز وتغيّرهم المتواصل. ويقول الكاتب وينشستر إن هذه القصة تعكس كذلك مدى قسوة القدر عندما ننظر اليوم إلى العطف الكبير الذي تُمنيه الحكومات في معالجة مرضاها بالأدوية وغيرها من الوسائل الطبية والتي لو كانت متوافرة آنذاك لعالجت أعراض مرض ماينر، خاصة بعد أن كبر في السن وحاول الانتحار عدة مرات لعدم قدرته على الإمساك بالقلم وإتمام القاموس مع موراي، قبل أن تحرمه إدارة المستشفى الجديدة من كتبه وأقلامه.
لقد أجاد الكاتب وينشستر في إيجاز أحداث أكثر من 120 عاماً في 242 صفحة. إنه كتاب ثقافي واجتماعي وتاريخي بالدرجة الأولى لأنه يسلِّط الضوء على الإمكانات غير الاعتيادية لبعض البشر وسلوكياتهم التي غيرت قدرهم بالكامل. لقد سرد وينشستر أحداث الكتاب بأسلوب رائع ومبسط رابطاً الأحداث ببعضها ليصبح كتابه واحداً من أفضل الكتب الأدبية التي بدأت تدّرس في عدد في المؤسسات التعليمية في بريطانيا والولايات المتحدة، وتصّدر قائمة الكتب الأفضل مبيعاً في الولايات المتحدة الأمريكية.

نبذة عن المؤلف
المؤلف سايمون وينشستر، فهو كاتب وصحافي بريطاني معروف ومغامر ومذيع، ارتبط اسمه بالكتب التي تتعلق بالسفر والمغامرات. ونالت كتاباته عديداً من الجوائز منها جائزة صحافية لقاء عمله في الصحف والمجلات لأكثر من ثلاثين عاماً، وجائزة «الصحافي البريطاني». وكتب عديداً من الأفلام التلفزيونية لمجلة ناشيونال جيوغرافيك والتي تناول فيها مختلف الموضوعات التاريخية، إضافة إلى عمله المتواصل مع راديو بي بي سي عبر برنامج: «مِن مراسلينا». كما ألّف عدداً من الكتب منها: «نهر في قلب العالم: رحلة في عالم العجائب»، و«كابوس الباسيفيك»، و«مذكرات سجن: الأرجنتين». ويعيش حالياً متنقلاً بين لندن ونيويورك.

أضف تعليق

التعليقات

سوسن فرح

أمتعتيني يا فيان ، روعه

باسم موسى عبيدات

من قال أنه مجنون يا فيان

محمود مال لله قنبر

قصة رائعة وغريبة في ان نرى اعظم انجاز ثقافي انكليزي ساهم فيه بشكل كببير مختل عقلي.