قول في مقال

قراءة في «تاريخ القراءة» كتاب يرد الاعتبار إلى الكتب..

عندما ينتهي المرء من قراءة كتاب «تاريخ القراءة» يشعر برغبة في أن يقوم إلى مكتبته الخاصة، صغيرة كانت أم كبيرة، فيتطلع إليها وكأنه يراها للمرة الأولى. تتملكه الغبطة، لأنه يمتلك هذا الكنز الثمين، وقد يلوم نفسه لأنه تعامل مع هذه الكتب وكأنها جزء من ديكور المنزل.

هذا الكتاب، تاريخ القراءة، يرد الاعتبار والبريق إلى المكتبة بأسرها، لأنه يهزّ بعنف علاقتنا بالكتاب، وبشكل دعوة لا تقاوم إلى إعادة تقويم هذه العلاقة التي نسميها «القراءة».

مؤلف الكتاب هو الأرجنتيني ألبرتو مانغويل. وهو شخص شغوف بالقراءة، وقد احترفها لبعض الوقت، إذ عمل قارئاً عند الأديب خورخيه لويس بورغيس، لأن هذا الأخير كان ضريراً كما هو معروف. وبعدما أمضى عمره وهو يقرأ ويجوب العالم بحثاً عن كل شاردة وواردة تتعلق بالقراءة والكتابة، كان مؤلفه الفريد من نوعه.
عندما بدأنا بقراءة هذا الكتاب – تاريخ القراءة – كانت عندنا مجموعة أسئلة، بعضها حظي بأجوبة، وبعضها كان خارجاً عن مضمون الكتاب. ولكنها تساقطت جميعها أمام سؤال جديد لم يكن ليخطر على بالنا. وقبل طرح السؤال، نتوقف أمام الدافع إليه، أي مضمون الكتاب.

القراءة بصمت، القراءة على الآخرين، شكل الكتاب، القراءة الوجدانيّة، قراءة المستقبل، القارئ الرمزي، سرقة الكتب، الكاتب كقارئ، المترجم كقارئ، الولِع بالكتب. هذه بعض عناوين العشرين فصلاً التي يتألّف منها هذا الكتاب.
وعلى العكس مما يرد في ذهن القارئ من أن كتاب مانغويل هو غوصٌ في تاريخ الكتابة والكتب، كما يبدو من بعض هذه العناوين، نشير إلى أنه لم يتطرّق إلى الكتابة وأشكالها إلا من زاوية تأثيرها في القراءة، فنجده
لا يتطرّق مثلاً إلى الحديث عن أدوات الكتابة، ولكنه يفرد عدة صفحات للنظارات الضروريّة للقراءة، بدءاً من ظهورها الأول الذي وصل إلينا في لوحة إيطاليّة تعود إلى القرن الرابع عشر وصولا إلى تبجّح الباحثين عن مظهر أكثر أهميّة في العصر الحديث… إذن كل شيء عن القراءة… والقراءة فقط.

ليست بهذه البساطة
من أبرز ما يتضمّنه الكتاب بحث في عنصري القراءة: بصوت عالٍ أولاً ومن ثم بصمت. فالعنصر الأول امتد منذ عصر ألواح الصلصال وحتى العصور الوسطى، والعصر الثاني ابتدأ في القرن السابع الميلادي تقريباً، ولم يستقر إلا قبل خمسة قرون فقط، فتطوّرت أشكال الكتابة وظهرت النقاط والفواصل التي تُسهّل عمليّة التوقف على الزمن، بعد أن كان يُعتمد في ذلك على موهبة القارئ -الخطيب-، فصارت «للأحرف قوّة إيصال أقوال الغائبين إلينا بصـمت» على حد تعبير إيزيدور الإشبيلي.

ولكن ما تضمّنه كتاب مانغويل يتجاوز في نظرنا هذا التأريخ للمعطيات وتسجيلها المباشر، فما بين الأسطر وعلى مدى صفحات الكتاب بأكمله يكشف عن أن «النخبة المثقفة» التي تستحق فعلاً هذا الاسم أولت القراءة أهميّة تفوق إلى حدّ بعيد ما يمكن أن يكون منطبعاً سلفاً في الأذهان.

فمن الزخارف الجميلة الواردة في الكتاب حديث عن العلاقة بين شخصيّة القارئ والكتاب الذي يحمله، فالكتاب يحدّد هويّة القارئ ويعرّف عن شخصيّته، خاصّة خلال أسفاره. ويضرب المؤلف مثالاً على ذلك إحدى قريباته التي يقول عنها: إنها كانت تعرف تمام المعرفة دورَ الكتاب في التعرّف إلى الآخرين والتواصل معهم، فكانت تختار عند السفر مواد القراءة بعناية فائقة.. فلم تكن تأخذ معها كتاباّ لرومان رولان تحاشياً للتبجح، وكانت أغاثا كريستي تبدو لها بسيطة وعاديّة جدّاً. وهكذا فإن ألبير كامو كان ملائماً للرحلات القصيرة، وكرونين للرحلات الطويلة، أما الروايات البوليسيّة فكانت تعتبر الكتب الملائمة للقراءة خلال عطل نهاية الأسبوع في الريف. وكانت كتب غراهام غرين ملائمة خلال رحلة في الباخرة أو في الطائرة..

ومن الزخارف التي يتوسّع فيها المؤلّف نذكر أيضاً الأماكن المفضّلة للقراءة، فيذكر أن عمر الخيّام كان يوحي بقراءة الأشعار بالخارج تحت الأغصان. وبعده بعدة قرون، نصح الكاتب الفرنسي سانت بوف بقراءة مذكّرات مدام دي ستايل «تحت أشجار نوفمبر». وفي نهاية حياته كتب آلان بروست على نور مصباح خافت: «إن الكتب الحقيقيّة يجب ألاَّ تولد من ضوء النهار الساطع ومن الدردشة في الحديث، وإنما في الظلمة والسكون».

ويدرس الكاتب بعمق مسألة القراءة في الفراش فيقول إنها أكثر من مجرّد تمضية للوقت، إنها تمثل نوعاً من الوحدة. فالمرء يتراجع مركّزاً على ذاته، ويترك الجسد يرتاح.. وهنا يستعرض المؤلف أشكال الأسرّة في التاريخ، وما إذا كان هذا الطراز أو ذاك يساعد على القراءة أم لا، ولمعرفة ما إذا كانت القراءة في غرفة النوم معروفة في هذه الحضارة أو تلك. ويتوقّف بإسهاب أمام حالتي الكاتبتين، الأمريكيّة إديت وارتون، والفرنسيّة كوليت، اللتين اشتهرتا بالعزلة في غرفة النوم للقراءة والكتابة.

القارئ السيد
في إهدائه الكتاب إلى القارئ، استخدم مانغويل سؤالاً كان قد طرحه الفيلسوف الفرنسي ديدرو: لكن من سيكون السيّد؟ الكاتب أم القارئ؟ وعلى مدى صفحات هذا الكتاب، يؤكد المؤلف أن القارئ هو السيّد، وأنه هو الذي فرض تطوّر الكتاب وأشكاله عبر التاريخ، بدءاً بالانتقال من اللفافة، إلى الكتاب المجلّد وصولاً إلى كتاب الجيب الذي ظهر في العصر الفيكتوري، وانتشر بشكل ساحق في العصر الحديث. ويجزم أن فعل القراءة هو الذي أسقط بعض أشكال الكتب مثل الكتب الكبيرة التي عادت إلى الظهور في القرن التاسع عشر لبعض الوقت، ولكن صعوبة التعامل معها أدت بها إلى الانقراض.

وفي هذا السياق التاريخي نكشف بعض الأجوبة لعدد من الأسئلة التي طرحت في السنوات الأخيرة، حول مصير الكتاب في عصر الحاسوب على سبيل المثال.

ففي تعليق على اختراع الطباعة على يد يوهان غوتنبرغ يقول مانغويل: «إن فن الخط الجميل تطوّر في القرن السادس عشر وترك بصماته على ثقافة ذلك القرن بكامله.»

ويضيف: «من الشيّق أن نرى كيف أن بعض التطورات التكنولوجية- مثل اختراع غوتنبرغ – تشجّع في الواقع ذلك الشيء الذي جاءت لإزاحته عن الطريق، منبهة إيّانا بضرورة المحافظة على القيم القديمة والتقاليد… ففي يومنا هذا مثلا نرى أن تقنية الحاسوب وطباعة الكتب على أقراص مبرمجة لم تؤثر – كما تُظهرالإحصائيّات – في إنتاج وبيع الكتب. وبعد أن يشير إلى أن عدد الكتب المطبوعة التي دخلت مكتبة الكونغرس الأمريكي سنة 5991م. بلغ 734953 كتاباً، يفاجئنا في اتخاذ موقف متحرر جداً بالنسبة للقارئ الكلاسيكي الشغوف بالورق وملمسه ورائحته فيقول: «إن من يرى في الحاسوب عملاً ضد الكتاب، فإنه يبجّل الحنين إلى الماضي على حساب التطور والتجارب والخبرات.»

وبثقة لا تتزعزع بالكتاب المطبوع على الورق، يقول في مكان آخر: «إن القراءة على شاشة الحاسوب تمثل عودة إلى أسلوب قراءة اللغات القديمة، التي كانت قد انهارت أمام ظهور الكتاب الذي يتضمن صفحات متتالية.»

الشغف .. سيد الأعمال
في القرن الأول الميلادي أبدى الشاعر ماريتال دهشته من السلطان السحري لذلك الشيء الصغير الملازم لليد والذي كان يحتوي على أشياء نفيسة لا تقدّر بثمن:
هوميروس على صفحات الرق
الإلياذة ومغامرات أوليس عدو مملكة بريام
كلها مغلفة ضمن قطعة من الجلد
مطويّة إلى صفحات صغيرة عديدة!
بعد ذلك بعشرين قرناً كان الشغف نفسه في نفس ألبرتو مانغويل، وعبّر عنه في بداية مدهشة لكتابه. إذ استهلّه بثماني عشرة صورة من مختلف الحضارات والثقافات لأناس يقرؤون. وبعد تعليقات مقتضبة على هذه الصور كتب: «كل هؤلاء قرّاء. كل إيماءاتهم وقدراتهم ومسرّاتهم ومسؤوليّاتهم، والطاقات التي تقدّمها لهم القراءة معروفة لدي تماماً. إذن أنا لست وحيداً».

فماذا عنّا..؟
إن كنّا غصنا في بعض التفاصيل التي انتقيناها عشوائياً من هذا الكتاب، فالأمر عائد إلى إيضاح المزاج العام الذي يسيطر على القارئ العربي عند مطالعته. والوصول إلى السؤال المستجد الذي أشرنا إليه في البداية، ونطرحه هنا: ماذا عنّا في البلاد العربيّة؟ هل تعاملنا فعلاً مع فعل القراءة على هذا المستوى من الأهمية؟

الكثيرون منا يتحدثون عن تدهور حركة النشر وحركة التأليف. ولكن لا أحد يلوم القارئ. فعندما ينصرف الملايين عن الكتاب إلى شاشة التلفزيون مثلاً، ألا يجدر بنا أن نراجع مفهومنا للقراءة ودورها في حياتنا، ونظرتنا إلى القراءة على المستوى الموازي لأهميتها في صيانة شخصيتنا وأفكارنا ونظرتنا إلى العالم؟

في هذا الكتاب جواب واضح وإن كان غير مباشر، فعندما تتدنّى القراءة وتنهار، فهذا يعود إلى أنها لم تكن أصلاً على مستوى عالٍ من الوعي لأهميتها، فللقراءة مفهوم يتجاوز ما نتعلمه في المدرسة.. إنها مسألة رغبة وإصرار على التواصل مع ما دار في رؤوس أناس آخرين يعرفون ما لا نعرفه.

أضف تعليق

التعليقات