الثقافة والأدب

فن تصميم الحرف العربي
مشتق من فن الخط وليس نقيضه

  • khajak apelian font
  • light font
  • Pencil-sketches
  • Picture 2
  • Picture 4
  • Picture 5
  • shms font screen shot
  • 01 After hinting
  • 138-3898_IMG_
  • calligraphic font
  • ghungroo_tap_times

أثار الاستطلاع الذي نشرته «القافلة» في عددها الأسبق حول فن الخط العربي ردود فعل متباينة, اشترك معظمها في التطلع إلى الخط العربي الطباعي أو المصمم حديثاً للاستخدام في أجهزة الكمبيوتر وكأنه خصم أو نقيض لفن الخط العربي التقليدي.
وفيما يأتي مساهمتان تسلِّطان الضوء على تصميم الخط العربي. فتتضمَّن الأولى مدخلاً لفهم التحديات التي يشكلها هذا الفن, والثانية تركز على أنماط التعامل مع هذا الفن على مستوى تدريسه ودراسته الجامعية في البلاد العربية.

التصميم الخطي ليس جديداً كممارسة في العالم العربي. إلا أنه جديد فيه كمهنة، كما أن ما كُتب فيه لا يزال في بداياته ولا يزال شحيحاً. حتى إن المصطلح «التصميم الخطّي» الذي نستخدمه هنا غير نهائي، وهو في حال منافسة مع مصطلح بالقدرة التعبيرية ذاتها، هو «التصميم الحروفي». من هنا، فلا عجب أن يكون معظمنا على قلة اطّلاع على هذا الاختصاص. وفي الآن ذاته، فإنّ نظرة إلى الحرف العربي كما يراه مصمّم خطّي كفيلة بإيضاح الكثير عن هذا الحرف.

ما هو التّصميم الخطّي؟
هناك عنصران جوهريّان في هذه المهنة: أولاً، المصمّم الخطّي يصمّم شكل الحروف، وثانياً، هذه الحروف تُصمّم لكي تنتجها آلة، لا يدٌ بشرية. وواضح من الشق الأول لهذا التعريف أن المصمّم الخطّي متحدّر من الخطاط، أما في الشق الثاني، فهناك بعض التفاصيل التي لا بد من توضيحها.

حتى شيوع الكمبيوتر في ثمانينيات القرن الفائت، كان من الضروري القول إنّ الآلة التي ستنتج الخطوط هي آلة طباعيّة. إلا أن الأمر لم يُعد كذلك، إذ إن عدداً كبيراً من الخطوط المصمّمة اليوم تُعد بحيث تُقرأ على شاشة الكمبيوتر، لا حبرًا على ورق. وفي الحالين، يبقى بين المصمم الخطّي والخطّاط فرقٌ مهم، وهو أنّ الأخير يكيّف أشكال حروفه بحسب الحروف التي تسبقها وتليها، وبحسب المساحة المعطاة له، فيما على المصمّم الخطّي أنّ يصمّم شكلًا واحدًا لكلّ حرف، بغضّ النّظر ما إذا كان الحرف هذا مسبوقاً بباءٍ أو لامٍ أو ميمٍ مثلاً. هو فرقٌ أقرب ما يكون إلى الفرق بين الخياطة حسب الطلب وبين تصميم الملابس الجاهزة: في الممارسة الأولى حرّيّة أكثر، ومجالٌ أكثر للتفنّن، وسعرٌ أغلى للقطعة الواحدة، فيما الممارسة الثانية تنضوي على تجريدٍ أكثر، ودراسة أعمق لكل الاحتمالات الواردة، وقدرة أكبر على الوصول إلى الجمهور العريض.

ومن التعريف آنف الذكر، نفهم أنّ التّصميم الخطّي بدأ تلقائيًّا يوم بدأت الطباعة. ذلك ألاَّ مفرّ من اختيار خطٍّ ما لاعتماده في الكتاب المنوي طبعه، والتصميم هو عمليّة الاختيار هذه. من هنا، باستطاعتنا القول إن يوهانس غوتنبرغ، إذ اختار خط الفراكتور الجرماني لكتابه الأوّل، كان أوّل مصمّم خطوط لاتينية، وإن غريغوريوس دي غريغوري من البندقية كان أوّل مصمّم خطوط عربية: إذ إن أوّل كتاب مطبوع بالعربية، تمت طباعته عام 1514م، في إيطاليا، لا في العالم العربي.

150 حرفاً لا 28
أوّل ما نلاحظه من وجهة نظر مصمّم الحروف هو أنّ العربية فيها على الأقل 150 حرفاً، لا 28 حرفاً كما لقّنونا في المدرسة. ذلك أن الخط يجب أن يميّز بين الوضعيّات المختلفة لكل حرف، ما يعني أن الخاء النهائية، كما في كلمة «جوخ»، تُعد حرفاً مستقلاً عن نظيرتها الوسطى، كما في كلمة «مختلف»، وهكذا دواليك. ولمّا كانت هناك أربع أشكال مختلفة لمعظم الحروف حسب وضعيتها، كان عدد حروف العربية بحسب برنامج الخط الآلي حوالي 28 مضروبًا بأربعة.

يُضاف إلى هذه اللائحة أن الألف مع همزة هي غير الألف بلا همزة، وأن الهمزة على النبرة غير الهمزة على الواو، وأن هذه التنويعات جميعًا تأتي هي الأخرى مع وضعياتها الابتدائية والوسطى والنّهائيّة والمنفردة، ما يفسّر هذه الطفرة الكبيرة التي يلاحظها كل مصمّم خطوط. والأهمّ من ذلك، أن طريقة التفكير هذه تطرح سؤالًا صعباً على بساطته: هل العربية 28 حرفاً أم 150؟

أمرٌ آخر يلاحظه مصمّم الخطوط العربية، هو أن الحرف العربي مفتوحٌ على السماء أكثر من نظيره اللاتيني: معظم الحروف اللاتينيّة هي تنويعات على شكلٍ هندسي ما، غالباً ما يكون الدائرة، وغالباً ما يكون منغلقاً. من هنا مثلًا أحرف الـo، والـb، والـg. حتى أحرف الـh والـm والـe تنطلق من الدائرة، وتبقى محميّةً من السّماء، فيما الأحرف المفتوحة من أعلى هي أقليّة من تسعة أحرف (i j k l u v w x y). من جهة أخرى، الأحرف العربية المفتوحة على السّماء ليست أكثر بكثير، إذ لا تتعدى الأربعة عشر حرفاً (ا ب ت ث د ذ ر ز س ش ك ل ن ي)، لكن الخط الأفقي الذي يجمع بين معظم الأحرف، والذي هو من أكثر معالم الخط العربي تكرّرًا، هو بحد ذاته مفتوحٌ على السماء، وقلّما تخلو كلمة عربيّة منه (هذا، إذا لم يطل أكثر وأكثر بفعل الكشيدة).

تنطلق الأحرف اللاتينيّة، كما سبق وذكرنا، من الدائرة، صعوداً (مثل الـb) وهبوطاً (مثل الـq)، وهذه المركزية تبدو غائبةً بادئ الأمر عن الأحرف العربية، حيث إنها لا تلتزم بهندسة واحدة، وفي الواقع، فإن الأحرف العربية لا تلتزم الهندسة اليوكليدية أساساً.

في المقابل، تتفرع الأحرف العربية، هي الأخرى، صعوداً (ط) وهبوطاً (ر)، من الخط الأفقي آنف الذكر، وهذا يعني أن المركزيّة البنائيّة التي تلعب دورها الدائرة في الأحرف اللاتينية، يلعب دورها الخط الأفقي في الأحرف العربية.

خصوصيات لا بد من أخذها في الحسبان
أحد الأمور التي يعنيها هذا التحليل، هو أن تحديث الخط العربي يجب أن يأخذ، حكماً، منحى مختلفاً عن نظيره اللاتيني، لأنّ المادة التي هي بصدد التحديث مختلفةٌ جوهرياً. هناك عددٌ كبيرٌ من الخطوط العربيّة الجديدة يعوق نفسه بنفسه عندما يحاول إقحام الهندسة اليوكليديّة على أشكال الحروف العربية، بحيث تصبح الميم دائرةً مثلًا، والطاء نصف دائرة، وعندما يحاول توحيد ارتفاعات الحروف بعضها بعضاً، لأن الأمور هذه -ببساطة- ليست جزءًا من طبيعتها. الخط المسكين يبدو في نهاية المطاف مثل الواقف على حبلٍ مشدود، لأنّه يحاول التوفيق بين طبيعته – مركزية الخط الأفقي مثلًا – والمعالم المفروضة عليه على أنّها معالم الخط الحديث.

تحديث الخط العربي يكون بالإنصات إليه على ما هو عليه، والعمل من هناك. ومن هذا المنطلق، فإن أحد المعالم التي يجب المحافظة عليها هو المجواز (ligature)، أي الصيغة التوحيديّة لحرفين مدموغين. وأشهر مثال لمجوازٍ عربي هو اللام-ألف (أي «لا»)، وقد استطاع أن يبقى حتى في أكثر الخطوط العربية ابتعاداً عن الصيغ التقليدية، إلا أن مجاوزَ كثيرة لم تكن محظوظة مثل اللام-ألف، وبالتالي أُلغيت تماماً من الخطوط العربية الجديدة. الفاء-ياء («في») أوفر حظاً من غيرها، فيما اللام-ياء («لي») واللام-ميم الابتدائية («لمـ») والنون-ياء النّهائية («ـني») والباء-راء النّهائية («ـبر»)، وغيرها الكثير، صارت شبه منقرضة.

المجواز في العربية ضرورة، وليس من الكماليّات كما هو الحال في اللاتينيّة، وعندما نقول إنّ الحفاظ عليه من مصلحة الخط العربي إجمالًا، لا نكون مدفوعين في قولنا هذا بشعور من المحافظة المنغلقة، وإنّما بوعيٍ أن قيمة المجواز هي أكثر من قيمةٍ شكليّة. أولًا، هو يوفّر مساحة الطباعة، كونه يدمج حرفين معاً. وثانياً، وهذا أهمّ، فهو يكسر رتابة الخط الأفقي آنف الذكر، ولعلّ مجواز الياء-راء النّهائية هو أوضح مثال على هذا الأمر: الياء سن صاعدة من الخط الأفقي، والراء سن صاعدة وهابطة من الخط الأفقي في الوقت نفسه، فإذا تركنا كلمةً مثل «كبير» دون مجواز، تكون النتيجة أشبه ما تكون بالشريط الشائك، أمّا إذا استخدمنا المجواز، ننهي عمليّة التفرّع عند حرف الميم، ونُدخل تنوّعًا في الارتفاعات يتجاوز الخط الأفقي.

العربية: أبجدية ولغة
هناك ظاهرة مؤسفة يلاحظها المصمّم تتجاوز الخط بتفاصيله التقنيّة، هي ظاهرة انسحاب اللغات من لواء الأبجدية العربية، وهذه الظاهرة يلاحظها المصمّم بشكلٍ عكسي: بعض حجيرات الأحرف تحتوي حروفاً غريبة الشكل، تشبه العربية وليست بالعربية، كحرف الرّاء ذي ثلاث نقاط، أو النون بلا نقطة. ولدى الاستفسار عن هذه الأحرف، يفهم المصمّم أن عدداً من الشعوب غير العربية اختار الأبجدية العربية ليكتب بها لغته هو، وأنّه كان لا بد من إضافة بعض الأحرف بحيث تصبح الأبجدية قادرة على احتواء جميع الأصوات في هذه اللّغات. وهو أمر ينم عن ثقة بالأبجدية العربية، وعلى قدرتها على استيعاب، أو استضافة، لغات أخرى. وهذا ما تقابله استضافة الأبجديّة اللاتينيّة للّغة البولنديّة أو التشيكيّة أو الفلبينية مثلًا، ويعكس بطبيعة الحال شعوراً من طرف هذه الشعوب بالرّغبة في التّماهي مع الأبجدية المعتمدة، والثقافة التي تمثِّلها هذه اللغة.

الفارسية والأوردو لا تزالان تعتمدان الأبجدية العربية، إلا أن الأمر بات يقتصر عليهما تقريباً. إذ يعرف الجميع أن التركية كانت تعتمد الأبجدية العربية يوماً، وأنها تحولت بين ليلة وضحاها نحو الأبجدية اللاتينية. ما لا يعرفه الجميع هو أن التركية ليست الوحيدة بين اللّغات في مسارها هذا، وأن الأذرية والكردية والسواحيلية جميعها في طريقها إلى التخلي عن الأبجدية العربية واستبدالها باللاتينية. وإذا ما عدنا إلى الفكرة القائلة بأن الأبجدية المعتمدة هي إحدى المؤشرات على الميول الثقافية لدى الشعوب، نجد أن الأمر هذا يعكس أزمة ثقة بالعربية. طبعاً، قد يقول قائل إن الشعوب لا تختار أبجدياتها، وإن هذا الأمر إنما تقوم به قياداتها، لكننا لا ننسى أن الشعوب تؤثر وتتأثر بقياداتها، وأن الاتجاه، في نهاية المطاف، هو بعيد عن الأبجدية العربية، لا نحوها.

ما العمل؟
أزمة اللغة العربية تنعكس على الخطوط العربية، إذ إنّ الجيّدة منها نادرة بشكلٍ محرِج، وهي تُعدّ على أصابع اليد. فضلًا عن ذلك، فإن القلّة الجيّدة هذه تندرج جميعها تحت عنوان النّسخي، وهو خطٌ قد جاوز من العمر الألف سنة. من هنا لا نستطيع أن نلوم المصمّم الصوري (graphic designer) إذا ما دفعه ملله إلى وضع النّسخي الجيّد جانباً، واستبداله بخطٍّ غير مدروس إنّما جديد وممتع.

في جميع الأحوال، لا داعي لليأس، لسببٍ بسيط هو أنّ التّصميم الخطّي العربي لا يزال في بداياته، لا سيّما في بيئته الطبيعية (أي العالم العربي)، حيث أخيراً بدأ بالظهور جيلٌ من المصمّمين الخطيّين العرب. ولا يزال هؤلاء بدورهم بالعشرات إذا ما جمعناهم من المحيط إلى الخليج، لكنّهم فاعلون في هذا المجال، وواعون لدورهم الرّيادي في زيادة عدد الخطوط الجيّدة في السوق.

يبقى أنّ نعيد تعداد بعض الصّفات التي يبحث عنها السوق، أي المعالم التي تجعل من الخط خطاً «جيداً»: أن يكون مقروءاً، وواضحاً، ومجدّداً بذكاء، أي بنظرة انتقائية للعناصر التي يجب أن ينسفها، وتلك التي يجب أن يحافظ عليها (كالمجاوز مثلًا). هذا، وعلى المستوى النظري للأمور، يكون مفيداً أن نتبنّى في قراءتنا التحليلية للخط التمييز المعتمد في الخطوط اللاتينية بين خطوط النصوص وخطوط العناوين، حيث تتيح الأخيرة مجالًا أوسع للابتكار، والتزاماً أقل بالمقروئية، فيما الأولى أكثر صرامة وتشدداً، من دون أن ينفي ذلك ضرورة التّجديد فيها. بالعكس، إذ لكونها تستعمل على نطاق أوسع، ولكون التوازن فيها أدق بين المحافظة والتجديد، سوف تكون هذه الخطوط الاختبار الحقيقي للخطوط العربية الجديدة.

شهد تصميم الحرف العربي في السنوات الخمس الأخيرة انطلاقة قوية، حين أخذت جامعات البلاد العربية، واحدة بعد الأخرى، تُدرِج على مناهجها، مادة تصميم الحرف العربي مادةً أساسيةً في شهادات التصميم البصري. ويعترف هذا المسار أخيراً بأنك إذا أردتَ أن يتخذ التصميم الغرافيكي العربي مظهراً يعبّر عن روح العصر، فلا بد لك من الأداة الأساسية لهذا الغرض: التصميم العصري لعائلات الحروف.

حين تدرس التصميم الغرافيكي، فإنك في العموم تخط السطر الأساس، وتضع الخط الأعلى لكتابتك، وأطر الصعود والهبوط في الكتابة، وهكذا. ثم تأخذ في رسم أشكال تشبه الخط العربي، بين هذه الخطوط والحدود. لكن ثمة نقاشاً حاداً في شأن هذا النهج، ولم يحن الوقت بعد حتى تَتّخذ موقفاً نهائياً في هذا النقاش.

والخطوة الأولى التي يخطوها الطلاب، في هذا الصدد، هي أن يعوّدوا عيونهم على أشكال الحروف، فيأخذون في كتابة الأبجدية من جديد، وكأنهم في مرحلة المبتدئين، من الألف إلى الياء. لكنهم يصادفون في طريقهم هذا متاعب في إدارة المهمة. ويزداد الأمر سوءاً، حين يحاولون ترتيب الحروف، ترتيباً سليماً. إنه لأمرٌ لا يصدَّق! وقد يصادفون متاعب أخرى وهم يحاولون كتابة أشكال الحروف على الخطوط وفي الارتفاع المنشود. فيُبقون الحروف التي يُفترَض أن تنزل تحت خط الأساس، معلّقة في الهواء، أو يكتبون الحروف بشكلها الذي تتخذه في وسط الكلمة، بدلاً من شكلها في آخرها. فقد يكتبون لك حرف «ت» تحت السطر مثلاً! إن هذه مشكلات حقيقية نصادفها حين يكون الطالب في صدد مشروعه الأول في تصميم الحروف. لذا تجدهم يهربون إلى «مخرجين سهلين» يلجأون إليهما، حلاً عملياً لمشكلتهم. لكن ثمة مخرجاً ثالثاً في معالجة الخط العربي، لا يُغري سوى الطلاب القلة الطموحين.

المخرج السهل الأول هو وضع إطار موحَّد يستوعب أشكال كل الحروف، كما يتصورونها. وقد يكون هذا المخرج أسلوباً أساسياً لمعالجة الأمر عند تصميمك أول عائلة حروف تصممها في أية لغة. لكن اعتماد هذا النهج في اللغة العربية، يجعل معظم الحروف هجينة غير مقروءة، لا سيما لدى القارئ الذي ألِف في العموم الحروف العربية، مثلما قرأها في أنماط الخط العربي. في هذه الحال، يرسم الطلاب حروفهم، ثم يركّبونها على برنامج يتخذونه من الشبكة الدولية «الإنترنت»، من موقع (http://fontstruct.com
ويكون مصمَّماً للحروف اللاتينية، التي صُمِّمَت على قياسٍ موحد نظري. ويجعل هذا حروفهم قابلة للاستعمال تماماً، بصفتها بنطاً جاهزاً، فيشعرون بالرضا في تجربتهم الأولى هذه مع التصميم. كذلك تشكِّل هذه التجربة، تنبيهاً لعيونهم ولفتاً لانتباههم إلى وفرة الاحتمالات والإمكانات، التي تنتظرهم، والتي لم يستكشفوها بعد، بالمقارنة مع عائلات الحروف اللاتينية، التي تجاوزت هذه المرحلة من التجربة.

ويجدر القول إن القارئ العربي العادي لم يختبر كفاية بعد ملاحظة العلاقة بين تصميم الحرف وتنويعاته العديدة التي يحضنها في أشكاله، مع إن هذه الملاحظة أخذت تحظى باهتمام وحيّز جيدين في قنوات الإعلام اليوم. وفي هذا المجال، يحمل الحرف إلى القارئ شريحة واحدة من شحنته الغنية، هي شريحة المضمون، لكنه لا يحمل الشريحة الأخرى، المتعلقة بالجهة البصرية لتصميم الحرف نفسه.

أما المخرج السهل الثاني الذي يلجأ إليه المبتدئ في دراسة تصميم الخط العربي، فهو مسايرة حساسيته الشخصية في الكتابة اليدوية. إذ يحاول الطلاب أن يؤسسوا تصميم حروفهم على ما اعتادوه حين يكتبون باليد طول السنين – وينطوي هذا على رجحان الطابع الشخصي. لكن هذا المسلك يخبئ أيضاً كثيراً من المفاجآت والنتائج غير المتوقعة. وأحد هذه الحلول المفاجئة، رسم حروف بواسطة مساحة سوداء، واستخدام مصباح ضوء أبيض، ومصراع عدسة تصوير مفتوح.

لكن المخرج الثالث، وهو الأكثر مدعاة للاطمئنان، ويستغرق وقتاً أطول، ومزيداً من التأني والصبر: هو مخرج فن الخط العربي. يبدأ الطلاب بدراسة نظرية وعملية لواحد من أساسيات الخطوط العربية، وفي الغالب النسخي. فيأخذون في تدريب يدهم على اتباع أقرب مسار إلى أصول الخط العربي. ومع قلة الكتب – المراجع المتوافرة في هذا الأمر، يمكنهم أن يكتسبوا فهماً مقبولاً للبنية الخاصة بكل حرف. ونتيجة لذلك، تنشأ عائلة حروف عربية جديدة، تشتمل على صفات الخط العربي التقليدي، وعلى صفات الخط العصري، شبه الموحَّد القياس، الذي يدخل عين القارئ بلطف ولا يسبب لها مشكلات قراءة حقيقية.

وأظن أن المعالجة الأنسب للمشكلة، لا بد من أن تعتمد معرفة أفضل لفن الخط العربي التقليدي الأصيل.

وحتى لا أبدو «أصولية» في هذا المجال، أنا أعتقد بصدق ألاّ بد من الاهتمام بالجذور الأولى في تصميم عائلات الحروف العربية، لا من أجل إنشاء خطاط محترف، إذ إن هذا يستغرق سنوات طويلة من الجهد الصبور والدؤوب، بل من أجل تعويد اليد على عبقرية مسار الخط العربي وحروفه، لتصير كتابته طبيعة ثانية عند المصمم.

أضيف إلى هذا أن الحركة الجديدة التي أعادت الروح إلى تصميم الخط العربي، وهو مسألة أُهملَت طويلاً، ستنشئ -إن شاء الله- جيلاً جديداً من المصممين، يمسكون بيد القارئ العربي، ليأخذوه إلى طرق مكتَشَفة، في قراءة الحروف العربية.

أضف تعليق

التعليقات