أدب وفنون

فاطمة الألمعي

متعهدة فن «القط» في عسير

Q5يختلف محترف الفنانة التشكيلية فاطمة الألمعي عن كل ما هو شائع في محترفات الفنانين، حيث الفوضى تكون عادة سيدة الساحة. فعند اللحظة الأولى التي تدخل فيها المكان، يباغتك المنظر العام بترتيبه، حتى لتظن أنك أخطأت العنوان، ووصلت إلى معرض أو متحف يضم أعمال الفنانة. وتزداد حيرتك عندما تتقدَّم قليلاً لتكتشف أن النسوة في المكان لسن زائرات ومتذوقات عابرات للفن. بل إن انحناءهن على اللوحات والأشغال اليدوية هو لإتمامها.

لفهم حقيقة المكان كان علينا أن نستمع إلى صاحبته الفنانة الألمعي تقول إن المكان هو محترَف ومعرض ومتحف في الوقت نفسه. ولماذا هذا الجمع؟
لأن الألمعي ليست حريصة فقط على تدريب الراغبات على العمل، بل أيضاً على الترويج لهذا الفن الذي كاد أن يندثر، من خلال إظهار جمالياته وخصائصه للزائرين.

تلميذة الرائدة أبو قحاص
حول بدايات اهتمامها بالفن المحلي المعروف باسم «القط»، وما قادها إلى إنشاء هذا المحترَف – المتحف، تقول فاطمة الألمعي إنها كانت مهتمة ومطلعة على أعمال فنانة عسير الأولى فاطمة أبو قحاص، أشهر فنانات منطقة عسير في مجال القط. وكانت تلازمها للتعلم منها. وبالتالي كان المحترف الأول الذي باشرت فيه عملها الفني هو منزل أبو قحاص. وبُعيد وفاة الفنانة الكبيرة قبل أربع سنوات، رأت الألمعي أن الوقت قد حان لتأسيس محترفها الخاص. وخططت مشروعها لهذا المحترف بحيث يكون فيه متسع لاستقبال المتدرِّبات من الفنانات والحِرفيات الراغبات في إتقان هذا الفن التراثي الخاص بالمنطقة. وقد ساعدها زوجها المهتم بالتراث في مسعاها هذا. وخلال أشهر قليلة من الإعداد، كان المحترف – المتحف جاهزاً لاستقبال الفنانين والزوار على حدٍّ سواء،

4-7وتضيف إن الدوافع التي قادتها أساساً إلى هذا الفن بالذات دون غيره من الفنون، يكمن في أنها من جيل تربَّى وسط هذا التراث. فكانت المرأة العسيرية لا تزال متمسكة بثوبها التقليدي ومنديلها الأصفر. وكل البيوت كانت تتزيَّن بالقط العسيري الذي يعبِّر عن ذائقة المرأة وعملها. حتى كبار الأثرياء في قرية رجال ألمع التاريخية كانوا يحرصون على تزيين بيوتهم من الداخل بنقوش القط، وإن كان لهؤلاء مذهبهم الجمالي الخاص بهم القائم على الخطوط المتوازية.

وبمرور الزمن، تقول فاطمة إنها راحت تحس بأن فن القط والملابس التقليدية في عسير بدأ ينحسر. كما أن الملابس لم تعد تمثِّل الحسّ الفني المحلي في المنطقة، ولم تعد تمت إلى ذائقة المجتمع بأية صلة. وفي مقابل ذلك، لاحظت احتفاءً كبيراً بالقط من قبل السياح والزوَّار الذين كانوا يتوافدون على منطقة رجال ألمع. حتى أن الأجانب منهم كانوا يقدِّرون هذا الفن كقيمة ثقافية. «لذلك قررت العمل على إحياء هذا الفن الذي كان قد أوشك على الاندثار». وإلى القط، أضافت إلى دائرة اهتمامها الملابس التقليدية التي كانت المرأة ترتديها في عسير. فجمعت منها ما استطاعت، وها هي اليوم تمتلك منها عدداً يكفي لإشغال جناح خاص في متحفها هذا.

0000أقسام المحترف – المتحف
إنه نموذج مصغَّر عن الطراز المعماري في منطقة عسير الذي يقوم على البناء بالحجر. ويضم ثلاثة أركان. الأول منها مخصص للقط في رجال ألمع. والثاني للقط في عسير السراة وبلاد قحطان. أما الركن الثالث فهو خاص بالملابس التقليدية في نجران وجيزان وعسير. وتمثِّل الأثواب المعروضة ملابس الفلاحة والرعي، إضافة إلى المصوغات والحلي النسائية المشغولة من الفضة. وإلى ذلك، يضم المتحف ركناً لبعض المؤلفات عن تراث عسير. وتقول الألمعي إنه نواة لمعرض، تطمح إلى أن يكون أكبر بكثير ويضم تفاصيل زينة المرأة في كل مناطق المملكة.

ولا يخلو هذا المتحف التراثي من لمسة تقنية حديثة. إذ تمكنَّت الفنانة، بمساعدة زوجها، من إنتاج عرض مرئي يمكن للزائرين من خلاله الاطلاع على تاريخ القط في عسير وملابس المرأة التقليدية في المنطقة وتاريخها، وشراكة المرأة للرجل فيها.

وبخصوص طريقة استحواذها على هذه المعروضات، تقول الألمعي إن معظمها هو ما جمعته من بيوت قديمة تهدَّمت وأهملها أصحابها.

القط.. محاولة قراءة
مما لا شك فيه أن القط فنٌ عسيري المنشأ والهوية، ليس له ما يشبهه في فنون العالم المعروفة. وعلى الرغم من أنه يشكِّل أقوى الصور التي تبقى في ذاكرة زائر عسير، الأمر الذي وفَّر له حداً معقولاً (ولكنه يبقى غير كافٍ) من الشهرة، فإنه لم ينل حقه من القراءة بالعمق الكافي لفهمه وتفسيره وتقدير قيمته الثقافية.
فهذا الفن هو أساس جداري. يقوم على رسم خطوط رئيسة مستقيمة أفقياً وعمودياً، تتقاطع معها، وفي داخلها خطوط ثانوية بزوايا من 30 أو 45 أو 60 درجة، لتشكِّل مساحات هندسية متفاوتة المقاييس، ولكنها ذات إيقاع متكرر. وفي حين أن هذه الخطوط هي عادة أو دائماً سوداء، يتم تلوين المساحات المتشكلة من تقاطعات الخطوط بألوان مختلفة يغلب عليها الأحمر والأزرق والأخضر والأصفر الرملي. بحيث يبقى الرسم في صيغته النهائية ذا بُعدين: طول وعرض، ولا عمق ولا بُعد ثالث. وفي هذا صلة قُربى واضحة مع الزخارف الهندسية في الفن الإسلامي الكلاسيكي.
asir 040صلة القُربى الثانية هي مع فن تطريز الثوب النسائي التقليدي في المنطقة، والذي يُرجَّح أنه كان مصدر إلهام هذا الفن. فالمربعات والتقاطعات هي من «قُطَبْ» تطريز القماش، وكذلك الشكل الهندسي الذي نراه عند حافة خطوط التطريز والمسمَّى «أبراج»، الذي نراه أيضاً يعلو الكثير من لوحات القط. وهذا النمط من «التطريز الهندسي للخطوط» هو عربي إسلامي، يمكننا أن نلحظه خارج عسير أيضاً وصولاً إلى الثوب النسائي الفلسطيني الشهير. أما الألوان المعتمدة في القط، فكثيراً ما تُوصف بأنها صارخة أو فجَّة. ولكن التدقيق فيها يؤكد عكس ذلك. صحيح أنها كلها ألوان زاهية. ولكن قوتها البصرية مستمدة بالدرجة الأولى من خلفياتها، وهي الجدران الكلسية البيضاء، إضافة إلى ما يتخلَّل هذه الرسوم من مساحات بيضاء صغيرة. من المرجَّح جداً أن مصدر استلهام هذه الألوان الحية والزاهية هو الغطاء النباتي في منطقة عسير باخضراره وما يحتويه من زهور وزرقة السماء الجبلية. ولكن قيمة استعمالها الكبرى، تكمن في استخدامها على الجدران الداخلية البيضاء في تناقض مفاجئ مع المظهر الخارجي للجدران الخشنة المبنية من حجارة بنية حتى السواد، معظمها بركاني المنشأ. مما يضفي على الداخل مستوى عالياً من الغنائية والأناقة.
تبقى الإشارة إلى أن القط يندمج مع الجدران الداخلية أكثر بكثير من اللوحة التقليدية التي تعلَّق على الحائط من دون أي رابط مع محيطها. فأجمل أنماط القط هو ما يسير أفقياً على الحائط حتى الباب، ثم عمودياً ليؤطِّر الباب من الأعلى، قبل أن يعود إلى النزول ومتابعة مساره الأفقي حتى نهاية الجدار. إنه واحد من أوضح أشكال التعبير عن الإحساس بأهمية الأناقة الداخلية في البيت، التي تهمس أيضاً برهافة حس صاحبه أيضاً.

DSC_1239ونجاح المسعى
إن كانت الفنانة فاطمة الألمعي قبل أربع سنوات تخشى على فن القط من الاندثار وتطمح إلى إنقاذه وضمان استمرار إنتاجه، فلربما كان بإمكانها اليوم أن تحتفل بنجاح مسعاها.فالمحترف مملوء عن آخره باللوحات، الكبيرة منها والصغيرة. ما أنجز منها بات معلَّقاً على الجدران، وثمة لوحات كثيرة لا تزال مثبتة على الأرض أو على المناضد الصغيرة حتى تفرع الحِرَفيات من العمل عليها. كلها مزدانة بالقط المؤلف من خطوط وتشكيلات هندسية ملونَّة، تخطها وتلونها نساء ماهرات ذوات خبرة في هذا المجال.

وتولِّد كل واحدة من هذه اللوحات إحساساً مختلفاً عند المشاهد. وكل لون فيها يحرِّك المزاج في اتجاه مختلف. ومجموعة الألوان المستخدمة في القط مستوحاة مما يستسيغه المزاج المحلي، ويحتاج اختيارها ودمجها ببعض إلى إتقان كبير، كي تتحوَّل بإضافتها إلى الخطوط السوداء، إلى مثل هذه اللوحات البديعة التي صارت من معالم عسير العمرانية والثقافية.

أما أهم ما أنجزته الألمعي في هذا المحترف، فلم يكن لوحة بحد ذاتها، بل في تطوير مهارات 140 سيدة قصدن هذا المحترف للتدرب على يديها منذ افتتاحه قبل سنوات قليلة، ومن ثم انتشرن في أرجاء عسير ليمارسن هذا الفن الجميل، ويطبِّقن ما تعلَّمن على جدران بيوت المنطقة.

Q2ومن عسير، تحاول الألمعي أن تحمل فن القط إلى خارج المنطقة للتعريف به. فإضافة إلى الدورات التدريبية في المحترف للنساء والطالبات، كانت لها مشاركة مهمة كممثلة للمملكة في «الأيام الثقافية» في الجزائر، حيث قدَّمت عرضاً للقط وللملابس التقليدية، تصفه بأنه شكَّل لها «دفعاً ساعدها كثيراً على تحويل هذا الحلم إلى حقيقة». كما مثَّلت المملكة مرة أخرى في مناسبة ثقافية أقيمت قبل فترة في دولة الإمارات.

ولكن بموازاة هذه النجاحات وما تتكشَّف عنه من انتعاش الاهتمام بفن القط، تقول الألمعي إن تسويق هذا الفن صعب. والعاملات فيه لا يجدن دعماً يستحق الذكر. غير أنها تجد مكافأتها الكبرى في نجاحها بإنقاذ هذا الفن من الاندثار.

أضف تعليق

التعليقات

عثمان عسيري

كم انتي رائعه واتمنى لكي التوفيق والسداد دائما الى الامام

سليمان الدرسوني

ماقدمته الفنانة فاطمة الالمعي من رسومات قد دخلت التاريخ رحمها الله رحمة واسعة.